وكانت تسيطر على مجرى التاريخ قدرة ربانية عاطفية أو ساخطة، فكان لا بد من خشيتها أو التضرع إليها بلا انقطاع، وكان أقوى الملوك يرتجفون أمامها، ومن ذلك أن كان لويس الحادي عشر ينفق لب ماله محاولا أن ينال، بأثمن التقدمات، حماية العذراء وأبرار الفردوس، قانعا - على رواية مؤرخ له - بأنهم يتدخلون في أعمال الإنسان دائما، قادرين وحدهم على ضمان الانتصارات الحربية أو الدبلمية.
وإلى وقت قريب نسبيا كان على هذا الاعتقاد الصبياني فلاسفة فضلاء. وقد ساق هذا الاعتقاد لبنتز إلى أفكار كثيرة التفاؤل، فكان يقول إن العالم بالغ الصلاح بحكم الضرورة؛ وذلك لأنه لا حد لحكمة الرب وكرمه.
ولم تأخذ مبادئ التاريخ اللاهوتية في الزوال إلا بعد أن أثبت تقدم العلم كون جميع حوادث العالم خاضعة لسنن وثيقة لا تعرف الهوى. •••
وبما أن المبادئ الروائية واللاهوتية تركت وجب اكتشاف مبادئ أخرى لإيضاح مجرى الحوادث، وقد نشأ عن هذا الواجب ما يمكن تسميته: مبدأ التاريخ الفلسفي.
ويقول لنا هذا المبدأ: إن الحوادث تابعة لضرورات غريبة عن المصادفة أو عن عزائم علوية، ويجد العلم في تعيين هذه الضرورات، ولكنها من التعقيد ما لا يرجى معه تعيينها في كل وقت.
وكل حادثة تاريخية عقلية ضمن المعنى القائل بصدورها عن علة، ولكن هذا لا يعني أنها ملائمة لخطة ما، وإنما يدل على وجود بعض العلل العامة دلالة واضحة تأثير العوامل الكبرى المتجبرة، كوجوب القيصرية في الحياة الرومانية حينا من الزمن، وكسير بلدان أوربة المختلفة نحو الوحدة في زمن معين، وكالإصلاحات التي تعقب الثورات، إلخ، ومع ذلك فالتاريخ مملوء بالحوادث التي أمكن أن تكون بالغة الاختلاف عن التي وقعت، وذلك لأنه لم يوجب ضرورتها أي سنة ثابتة.
ومن المحتمل أن كان تطور إنكلترة يقع على وجه آخر لو خسر النورمان معركة هستنغس، والواقع أنهم كادوا يخسرونها لولا أن تصور الدوك وليم في الدقيقة الأخيرة فقط خدعة حربية حال بها دون نكبة كانت تؤدي، لا ريب، إلى القضاء على فكرة النورمان في تجديد غزوهم، ولو وفق أنيبال في تجربته حين حاول الاستيلاء على رومة تحويلا لها إلى مستعمرة قرطاجية لتغير جميع مجرى التاريخ القديم وشكل الحضارة تغيرا عميقا.
وفي زماننا كان مصير أوربة تم على خلاف ما وقع لو لم يكره الإمبراطور غليوم بسفرائه أمريكة على الاشتراك في الصراع العالمي. •••
ويظهر أمرا حقيقيا إذن كون التاريخ ينطوي على علل عامة، ثم على ما لا يحصيه عد من العلل الصغيرة الاستثنائية التي يمكن أن تشتق من الأولى، ولكن من غير أن تنشأ عنها في كل وقت.
ومن العلل العامة - ولا سيما ثقل الماضي البالغ - ما أدى بعد انقلابات الثورة الفرنسية بحكم الضرورة إلى عود ملكي سبقته دكتاتورية، ولو لم يكن ذلك الطاغية بونابارت لكان مورو أو غيره، ولكنه إذ يكون وقتئذ أقل عبقرية، ومن ثم أقل نفوذا، فإنه يكون أقل دواما ويرجع إلى الملكية بما هو أسرع من ذلك.
Bilinmeyen sayfa