Vico'da Tarih Felsefesi
فلسفة التاريخ عند فيكو
Türler
ولعل من العوامل التي ساهمت أيضا في نشأة العلم الجديد عند فيكو؛ اطلاعه في شبابه على الكتاب الخامس من طبائع الأشياء للوكريتوس الذي عرف من خلاله كيف عاش الإنسان الوحشي البدائي بغريزته فقط، وكيف كان الإنسان الأول يعيش في كهوف بعيدا عن العقيدة واللغة والقانون ويتناول طعامه من ثمار الأشجار والفواكه ويصطاد الوحوش بالأحجار ويجامع النساء في العراء، وكيف عرف النار لأول مرة من احتكاك الأشجار في العاصفة واستخدامها في طهي طعامه، ثم كيف تأسست المدن والقلاع ونشأ أصل القوانين وأصل العقيدة من الخوف عندما أرعدت السماء وأبرقت.
وقد استفاد فيكو كذلك من آراء شيشرون وأرسطو وأفلاطون في تنظيم المجتمع البشري ولم يعبأ بالفلسفة الأخلاقية عند الأبيقوريين والرواقيين لأنها فلسفات بشر متوحدين، كما نفر من ميتافيزيقا أرسطو واتجه إلى المثل الخالدة عند أفلاطون وتأثر بفلسفته الأخلاقية التي تقوم على مثل الفضيلة والعدالة؛ ولهذا بدأ فيكو يفكر في نظام اجتماعي مثالي يحقق عدالة مثالية، وأشرقت في ذهنه الفكرة الأساسية التي استحوذت عليه وهي فكرة قانون أبدي مثالي يراعى في مجتمع مثالي في ظل العناية الإلهية.
وقد عرف فيكو أيضا عن طريق قراءته لكل من فرنسيس بيكون ولوكريتوس كيف كان الأصل في الحديث هو الإيماءات التي تعبر عن الكلمات، وكيف نشأت الكتابة بالرموز أو الكتابة الهيروغليفية قبل اختراع الحروف الهجائية، واجتمعت كل هذه الخيوط في ذهن فيكو وتبلورت الفكرة الكاملة للعلم الجديد الذي يعد اكتشافا هاما في فترة زمنية لم تتوافر فيها الدراسات العلمية للتاريخ ولا المادة التاريخية الغزيرة ولم يدون التاريخ العالمي وبالرغم من ذلك استطاع أن ينجز شيئين هامين؛ أولهما: أنه أحسن الاستفادة من التقدم الذي طرأ على منهج البحث التحليلي النقدي الذي جاء ثمرة لجهود مؤرخي القرن السابع عشر، ثم تقدم بهذا الأسلوب التحليلي مرحلة أخرى أثبت فيها كيف أن الفكر التاريخي يمكن أن يكون إنشائيا إلى جانب النقد والتحليل، ثم فصل بينه وبين الاعتماد على المصادر المكتوبة محتفظا له بطابعه الأصيل الذي يستطيع عن طريق التحليل العلمي للمادة المكتوبة أن يكشف عن حقائق أتى عليها النسيان؛ ثانيهما: تطويره للأسس الفلسفية المتضمنة في تصويره للأحداث التاريخية إلى الحد الذي يستطيع عنده أن يقوم بهجوم مضاد على الأسس العلمية والفلسفية لمدرسة ديكارت والمطالبة بأساس أعمق وأوسع مدى لنظرية المعرفة منتقدا ما اتسمت به العقيدة الفلسفية القائمة وقتئذ من ضيق وتفكير نظري مجرد.
24
هكذا نكون قد ألممنا إلمامة سريعة بالظروف التاريخية والعوامل الثقافية التي مهدت لاكتشاف مبادئ العلم الجديد الذي يعد البداية الحقيقية لنشأة علم التاريخ على أساس وطيد من التطور الاجتماعي للإنسان، ويبقى علينا الآن أن ننظر في مبادئ هذا العلم الجديد نفسه والأصول والمسلمات التي يقوم عليها.
الفصل الثاني
أصول ومبادئ العلم الجديد
(1) الأصول
تتركز فلسفة فيكو في أهم مؤلفاته «العلم الجديد»، ويتناول القسم الأول منه الجانب النظري من العلم الجديد ويتضمن ثلاثة موضوعات رئيسية: الأصول والمبادئ ثم المنهج، وقد يخلط المرء بين الأصول والمبادئ لاقتراب اللفظين في المعنى، ولكن الواقع أن الأصول تحوي مجموعة من المسلمات أو البديهيات يلتزم بها الباحث أو يفترضها عند دراسته تاريخ تطور الشعوب بصفة عامة والقديمة منها بصفة خاصة؛ فهي القواعد التي يجب أن يقوم عليها هيكل البناء التاريخي.
أما المبادئ فهي التي اكتشفها العلم الجديد في كل المجتمعات البشرية وتتمثل - كما سنوضح في الجزء الخاص بها - في ثلاثة: الدين، الزواج، دفن الموتى. وأما عن المنهج فقد حدد فيكو منهج علم التاريخ بالنسبة لمناهج العلوم الأخرى كالرياضيات والعلوم الطبيعية لاختلافه عن كل منهما وإن لم يكن التاريخ بعيدا كل البعد عن العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج الذي سار عليه هو المنهج الاستقرائي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد؛ إذ حاول - كما أشرنا في الفصل السابق - أن يقوم في التاريخ بدور بيكون في العلوم الطبيعية، وحاول أن يدرس عالم الأمم من خلال البديهيات أو المسلمات التي تتألف منها هذه الأصول وابتداء من تلك المبادئ وباستخدام هذا المنهج ليقيم صرح البناء التاريخي.
Bilinmeyen sayfa