هذا جائز وإن لم يمكن استبانته من قضايا المذهب استبانة تامة. غير أننا إذا عرفنا أن أرسطبس قد مضى مسترشدا في بحثه بوجود نظام مادي صرف، استطعنا أن نعرف لماذا تصور معارضوه وجود مادة مفروضة، لا صورة ولا صفات لها. ومن هنا جاء اعتراضهم على المذهب القوريني، إذ قالوا: إنه إنما يسير في دائرة كلما فرغ من آخرها دخل في أولها، بأن يفرض أن الهيولانيات تستحيل إلى إحساسات، والإحساسات تستحيل إلى هيولانيات.
هنا نستطيع أن ننتقل خطوة أخرى، بأن ننظر في اعتراض منابذي مذهب أرسطبس لنقرر بديا أن وجوه اعتراضهم عليه مدخولة بكثير من الشك، ذلك بأنه لا يعقل أن يلزم القائلون بأن المعرفة مقصورة على ظواهر الطبيعة، بحال من الاحوال، أن يكفوا عن درس وظائف الحواس، أو درس العلم الطبيعي في مختلف نواحيه درسا عمليا أو استقرائيا، لمجرد أن هنالك فروضا أو نظريات قد تلائم ظاهر الأشياء، بل ينبغي لمن يريد بحث الطبيعة أن يبدأ شوطه بأن يعرف أن الأجسام أو الجواهر المادية ما هي غير موضوعات حسية، وبالأحرى عبارة عن مجردات تدين بوجودها للحواس.
ذلك، ما للقائل بأن المعرفة مقصورة على ظواهر الطبيعة؛ من حق فيه، أما ما ليس من حقه، فهو البحث في الحالات الجسمانية الخاصة بكل إحساس أو الحالات المادية الخاصة بأي نظام من النظم التي يختار بحثها، ومحصل هذا أنه من الجائز لناقد أن يعترض على قبول تحليلات يقررها غيره، ولكن ليس له من حق في أن يناقش في المشروعية العقلية التي تخول لباحث ما، أن يطبق تحليلاته على الأشياء بوجه من الوجوه.
وهذا مثل مما وقع لرجال المذهب القوريني، فإنهم عمدوا في آخر عصورهم إلى إلقاح المذهب بالطبيعيات وبالمنطق، تلك التي بدءوا مذهبهم بتصفيته من آثارها، والدليل على هذا أنهم توجوا المذهب في النهاية بأن خصوه بالبحث في «الأسباب» (أي الطبيعيات) و«أسس البرهان» (أي المنطق). •••
ما هي تلك الصبغة التي اصطبغ بها منطق القورينيين؟ سؤال ينبغي لنا أن نجيب عنه قبل أن نختم هذا البحث، ذلك بأن الإجابة عليه أساس لما يقوم عليه مذهبهم في المعرفة.
على أننا يجب أن ننبه هنا إلى أن البحث في طبيعة منطق القورينيين تنقصنا فيه المواد الأولية التي تجعل بحثنا إياه قائما على شيء من اليقين، هنا نرجع - كما رجعنا من قبل في مواضع عديدة من هذا البحث - إلى الاستعانة بقياس التمثيل، فقد يخيل إلينا بديئة
a priori
أنه في العصور القديمة كما في العصور الحديثة، اقترنت نظرية الحس في المعرفة كما اقترنت النظرية الهيدونية النفعية في الأخلاق
Ethics
بنزعة منطقية أساسها الاختبار والاستقراء. ولقد عرفنا الآن أن صورة من صور هذا المنطق قد اعتنقها متأخرو أصحاب المذهب الأبيقوري، وعرفناها منذ ثلاثين سنة لا غير، عندما عثر في خرائب «الهركيولانوم» على مؤلف لفيلسوف يدعى «فيلوذيموس
Bilinmeyen sayfa