غير أننا نعثر بجانب هذا على أشياء أثارت في الباحثين، وما زالت تثير، أشد العجب، فإن تلك العبارات التي حاول بها فلاسفة من أمثال سقسطوس أن يجروا نظرية المعرفة عند القورينيين إلى مفاوز الشك والسلب، قد تضمنت كلمات أو عبارات هي أبعد ما تكون عن لغة الشك وعن مقررات الشك، بل هي أقرب إلى التقرير المذهبي، كأن يقولوا في شيء مثلا «هذا حق» أو «غير منقوض» أو «ثابت» أو «معصوم عن الشك» أو «حقيقي» أو «يمكن الاعتماد عليه» ولا شك في أن هذا مما يثير رغبة الباحث في معرفة السبب في هذا التناقض بين ظاهر المذهب الشكي، وأخذهم بمثل هذه التعبيرات التي يقول بها غير المؤمنين أو أصحاب التعصب المذهبي؛ وإذن ينبغي لنا أن نستعمق بالبحث في عقل هؤلاء الفلاسفة، وفي المبادئ الفلسفية التي كان لها الزعامة الأولى على الفكرات التي حومت في رءوسهم، ولقد نرى فيما بعد أن ما سيظهر لنا أنه فرضي خيالي، سوف يصبح، مع التحليل والبحث المنطقي، من الحقائق التي يسلم بها العقل. •••
كان للكشف عن الفرق بين الصفات الأولية والصفات الثانوية - وهو كشف من أعظم ما زود به الفيلسوف لوسيفوس مذاهب الفلسفة من المبادئ - أثرا جر الباحثين إلى الفحص عن أثر العنصر الذاتي
Subjective
في إدراك الحس بوجه عام، أما الفحص عن «العنصر الذاتي» في الصفات فكان خطوة خطتها الفلسفة إلى الأمام، بل هي خطوة رئيسة، كان لها أثر كبير في البحث عن أصل الإحساسات، غير أن أوجه الفحص عن ذلك لم يتأت إلا للذين درجوا بعد لوسيفوس من الفلاسفة، أضف إلى ذلك أن تأثير «العنصر الذاتي» في الصفات لم يكد يستقر على قاعدة، حتى تغلغل في عقول الباحثين وأحاط بأسلوب تفكيرهم وثبت فيه، وازداد ثباتا على مر الأيام، وبتقدم البحوث الفلسفية.
عندما استقر الاعتقاد بأن في الصفات «عنصرا ذاتيا» تدرج العقل إلى التساؤل عن المدركات التي نفي عنها تأثير العنصر الذاتي، وهل هي في الحقيقة بعيدة عن ذلك التأثير؟ فقد قيل مثلا: إن إدراك اللون خاضع للعنصر الذاتي، وليست كذلك الأشكال والصور. غير أن التفرقة بين مثل هذه الأشياء - اللون والصورة مثلا، على وثيق اتصالهما - لا يمكن أن تظل مأخوذا بها عقلا، إذا ما تنبه العقل إلى عدد من أكاذيب الحس التي في العين، غير إدراك اللون، فإن العصا تظهر للعين منكسرة إذا غمست في الماء، والشيء الواحد يظهر بأقدار مختلفة، إذا ما نظر مرة بالعين سليمة، ومزدوجة الأشباح أخرى، وهي حالة مرضية، أو بالضغظ على طرف العين ثالثة. وكذلك حس اللمس - وهو من الحسوس التي اعتبرت أول الأمر مثالا لما سمي «الحس الموضوعي»؛ أي الذي لا يدخله «العنصر الذاتي» - فقد وجد بعد الاستبصار أنه عرضة لنقائص كبيرة، ولقد ضرب سقسطوس أمثالا على ذلك كثيرة.
على أن بعض الفلاسفة أراد أن ينمي نظرية جديدة حاولوا بها أن يقللوا من شأن «العنصر الذاتي» في الصفات، فقالوا: إن حسا من الحسوس أو عضوا من الأعضاء، إذا عجز عن تأدية وظيفته كاملة، أعانه حس أو عضو آخر على إتمامها على وجه الكمال والتمام، كما تتم حالة سوية
Normal
نقائص أخرى غير سوية
Abnormal
غير أن هذه النظرية قد لقيت من الاعتراض والشك قدرا، رجها وزعزع الثقة بها.
Bilinmeyen sayfa