هذه القدرة على تجريد الذهن من قيود المألوف قد بلغت أتمها وأقواها في الإمام الغزالي رضوان الله عليه، ولا يعرف من مفكري المشرق ولا المغرب من هو أتم منه أداة ولا من هو أقدر منه على محو مألوفاته في هذا الضرب من التفكير.
وقد يظن أن طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة لا تتلاقيان، وقد يصح ذلك في التصوف الذي يقوم على رياضة الأخلاق وتهذيب السلوك ولا يتجه إلى البحث في معضلات الطبيعة وما بعد الطبيعة، إلا أنه لا يصح في التصوف الذي يقوم على التأمل الطويل والبحث العويص ويذهب بالفكر إلى غاية أشواطه لكي يلاقي بعد ذلك بين حدود الفكر وحدود الإلهام، فإن هذا التصوف مدد للفلسفة يتمم لها أداتها ولا ينقصها، ووسيلة ناجعة للتغلب على الذاتية أو «الأنانية» فضلا عن المألوفات التي تلصق بالذات وتحصر الإنسان فيما هو فيه .
ولقد عرف الغزالي أن التصوف هو: (قطع علائق القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ... والهرب من الشواغل والعلائق ... وأن يصير القلب إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه) ...
وبهذه القدرة على التجرد من النفس وعاداتها ومألوفاتها أصبح الغزالي أقدر على (التجريد الذهني) من المتصوف الذي لا يشغل فكره باستقصاء البحث، ومن الفيلسوف الذي لا يروض نفسه على الفرار من تحكم (الذاتية) ولوازم الأشياء التي لا تفارقها في حسه وفي إدراكه، فلا جرم، كانت السليقة الصوفية فيه أداة يغلب بها الفيلسوف الذي لا تصوف عنده، وكان التفكير المنتظم عنده أداة تعينه على الفهم حيث يقنع المتصوف بالتسليم ويستريح إليه.
وقد تمكن بملكته النادرة بين أصحاب الفلسفة وأصحاب التصوف أن يواجه المعضلات التي حيرت جمهرة الفلاسفة فلم تطل حيرته فيها، ولم يلبث أن وضعها في موضعها الصحيح من التفكير الإنساني، لأنه وجد (الممكن) حيث غم الأمر على سواه فلم يجدوا ثمة غير المستحيل.
وأكبر هذه المعضلات التي شقت على عقول الفلاسفة قضية القدم والحدوث، وقضية الخلق وقضية السببية، وقضية البعث، وهي جميعا محل الخلاف الشديد بين جمهرة الفلاسفة وجمهرة الفقهاء كافة من علماء الدين في كل ملة.
فالغالب على الفلاسفة أنهم يقولون بقدم العالم، ويستوجبون هذا القدم لأنهم لا ينتزعون فكرة الزمن من أخلادهم ومخيلاتهم، ويعتقدون أن وجود الزمن لزوم عقلي لا مفر منه، ولا يقدرون أن إدراك الزمن كما يدركه الخلق المحدودون إنما هو لزوم ضرورة بالنسبة إلى المخلوق المحدود، كأنه ضرورة إدراك الألوان لهذه الهزات الضوئية في الأثير، ويجوز أن تدرك على غير هذا النحو إذا اختلف تركيب العين.
قالوا: إن العالم ليس بحادث، وإنه لا يكون قبله زمن فهو قديم منذ الأزل، وانقسموا في جملتهم قسمين: منكرون دهريون وهم يقولون: إنه - لقدمه - لا يحتاج إلى خالق محدث، ومؤمنون وهم يقولون: إنه واجب الوجود، ويفرقون بين واجب الوجود بذاته وهو الخالق جل وعلا، وواجب الوجود بغيره وهو العالم المخلوق، وعندهم أنه لا يلزم من القول بخلقه أنه محدث، وكل ما يلزم منه أن له فاعلا في القدم، وفاعله هو الله.
كل ذلك لأنهم لم يستطيعوا أن يخرجوا مألوف الزمن من حسابهم، وأن يسألوا: وماذا كان قبله إن كان حادثا؟ وليس للقول بالقبل والبعد مدلول غير الزمان.
أما الغزالي، فهو لا يستلزم من حدوث العالم حيث كان إلا وجود ذات بعد ذات، فهما ذاتان ولا ثالث هناك، وهذا في الحق كل ما يستلزمه العقل بغير توهم لذات ثالثة، لا موجب لها عقلا إلا العجز عن التجرد من فكرة الزمان.
Bilinmeyen sayfa