Yirminci Yüzyılda Bilim Felsefesi: Kökenler - Hasatlar - Gelecek Perspektifleri
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Türler
تصدير الطبعة الثانية
مقدمة
1 - العلم بين فلسفته وتاريخه
2 - ميراث تلقاه القرن العشرون: العلم الحديث
3 - فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
4 - ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم
5 - التجريبية أصبحت منطقية
6 - من منطق التبرير إلى منطق التقدم
7 - فلسفة العلم والوعي بتاريخ العلم
تصدير الطبعة الثانية
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
1 - العلم بين فلسفته وتاريخه
2 - ميراث تلقاه القرن العشرون: العلم الحديث
3 - فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
4 - ثورة الفيزياء الكبرى من منظور فلسفة العلم
5 - التجريبية أصبحت منطقية
6 - من منطق التبرير إلى منطق التقدم
7 - فلسفة العلم والوعي بتاريخ العلم
فلسفة العلم في القرن العشرين
فلسفة العلم في القرن العشرين
Bilinmeyen sayfa
الأصول - الحصاد - الآفاق المستقبلية
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
تصدير الطبعة الثانية
هذا الكتاب محاولة طموحة لتقديم رؤية بانورامية شاملة لفلسفة العلم، هي بدورها رؤية شاملة لظاهرة العلم ذاتها في إطارها المعرفي والحضاري وعلاقتها بالأبنية والظواهر الثقافية الأخرى، فليس العلم محض مهنة تحترفها فئة من ذوي العقول المتميزة جيدة الإعداد؛ هي فئة العلماء. العلم أعم وأهم، إنه أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، ألقيت أصوله في الحضارات الشرقية القديمة، وصيغت أسسه النظرية في حضارة الإغريق، حتى كان الدور العظيم الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. ولم نتوان عن إبراز هذا الجانب في الفصل الأول من الكتاب، فقد كان تاريخ العلوم عند العرب هو المقدمة الشرطية، التاريخية والجغرافية والمنطقية، المفضية لنشأة العلم الحديث.
لقد سار العلم عبر التاريخ، حتى كانت التطورات التي لحقت بالعلم الحديث فخلقت الخلفية الضرورية لنشأة فلسفة العلم، واكتمل الإطار اللازم لها منذ ما يسمى بعصر التنوير، فتجسدت وتبلورت ونمت كفرع من فروع الفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين باتت فلسفة العلم من أهم فروع الفلسفة المعاصرة وأكثرها استقطابا لأبعادها الشتى وتعبيرا عن منحنياتها، وبالتالي الأجدر بالعناية ... وتجتهد صفحات الكتاب لتكشف عن تفاصيل هذا ومبرراته وحيثياته ومردوداته.
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في الشهر الأخير من القرن العشرين، ديسمبر من عام 2000م على سبيل توديع القرن برؤية شاملة لواحد من أسطع جوانب النبض العقلي في أعطافه، رؤية تتبع الأصول وتستقصي الحصاد، وتحاول استشراف الآفاق. وقد صدرت عن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة التي يخرجها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت الشقيقة ذات العطاء الباذخ في مضمار المنشورات الثقافية العربية رفيعة المستوى، خرجت الطبعة الأولى في أربعين ألف نسخة نفدت فور صدورها في سويعات معدودة كمؤشر إيجابي على ما ينتظره القارئ العربي الجاد من الدراسات الفلسفية، أما وقد تصاعد الطلب عليه، فلا نملك إلا أن نزجي الشكر بالغا منتهاه للهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي هرم مصري رابع، ومنبر رسمي شاهق لإنتاجنا الثقافي؛ إذ تتفضل بإتاحته مجددا للقارئ العربي ... بعد أن شرفتني على مدار العشرين عاما الماضية بنشر أول أعمالي، ثم خمسة من أهمها، في طبعات متتالية.
وقد راودني التفكير في أن أضيف إلى هذا الكتاب فصلا جديدا عن مستجدات لاحقة في فلسفة العلم، وكان بعضها موضوعا لأعمالي التالية التي نشرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي في السنوات التالية على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ولعل أبرزها الفلسفة النسوية وفلسفة البيئة وما بعد الاستعمارية في فلسفة العلم، والتوجهات الصاعدة عن شرق آسيا خصوصا اليابان الرائد العملاق، وأخلاقيات العلم، والتطورات المستحدثة في فلسفة الكوانتم ... ولكني آثرت أن يبقى على صورته في طبعته الأولى، بحدودها المرسومة لتحقيق أهدافها المتعينة، التي مثلت بنية معمارية متكاملة ومترابطة اتسم بها هذا الكتاب الأثير إلى نفسي، وقد لاقى بحمد الله تعالى استحسانا جما وثناء جميلا من المتخصصين في الفلسفة وفي العلم على السواء، ومن صفوة المثقفين وجمهرة القراء ...
نحمده تعالى ونسأله التوفيق والسداد في خدمة الثقافة العربية والوطن العربي، الوطن الأكبر، ولتبقى مصر قلبه النابض ومنارة من منارات المعرفة، إن فلسفة العلم بدورها تجل ساطع من تجليات سؤال المعرفة.
يمنى طريف الخولي
Bilinmeyen sayfa
4 مايو 2008م
مقدمة
ظاهرة العلم أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، وأكثرها تمثيلا إيجابيا لحضور الإنسان - الموجود العاقل - في هذا الكون. ولئن كان العلم الحديث يمثل مرحلة شديدة التميز والتوهج من مراحل تطور العلم والعقل والحضارة إجمالا، فإن القرن العشرين أتى في إثرها ليضاعف مردودات العلم وحصائله بمعدلات متصاعدة غير مسبوقة، وبات العلم العامل الفاعل الحاسم في تشكيل العقل والواقع على السواء، ومن ثم باتت فلسفة العلم بدورها أهم فروع الفلسفة في القرن العشرين، والمعبرة عن روحه العامة وطبيعة المد العقلي فيه، وحواراته العميقة التي يتلاقى فيها الرأي والرأي الآخر.
وهذا الكتاب يستغل القدرة الفريدة للمناهج الفلسفية من أجل تأطير ظاهرة العلم في الوعي. كيف بدأت أصول العلم بالبدايات الأنثروبولوجية السحيقة؟ كيف نما وتطور؟ كيف اتجه وسار عبر الحضارات؟ حتى وصل القرن العشرين عملاقا باذخ العطاء ... منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الإغريقية والعصر السكندري ... لماذا بلغ العلم القديم قمته في رحاب الحضارة العربية الإسلامية؟ كيف كانت المرحلة العربية هي المقدمة المفضية منطقيا وتاريخيا وجغرافيا إلى مرحلة العلم الحديث؟ ما هي الظروف الحضارية والمعرفية التي انبثق عنها وبفعلها العلم الحديث في أوروبا؟ كيف استقامت في نسقه الصاعد الواعد فروع العلم المختلفة؟ ما دور الفلك؟ لماذا تحتل الرياضيات المنزلة العليا حتى تلقب بملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المترفع عن شهادة الحواس؟ كيف اتحد الاستدلال الرياضي مع وقائع التجريب في بنية الفيزياء لتعطي مثلا أعلى للمعرفة بهذا الكون استوعبته سائر العلوم الفيزيوكيمائية؟ كيف تمثلته العلوم الحيوية وهي لم ترتكز على الاستدلال الرياضي؟ وأيضا العلوم الإنسانية، على الرغم من الاختلاف النوعي لظواهرها، وكيف يمكن دفعها قدما؟ انعكس كل هذا في الفلسفة فصاغت الأسس المعرفية التي تميز العلم الحديث كأنجح مشروع ينجزه الإنسان، هذا النجاح المطرد اعترضت مساره أزمة الفيزياء الكلاسيكية، استقبلها القرن العشرون بثورة حق اعتبارها أعظم انقلاب في تاريخ العقل البشري، ثورة الكوانتم والنسبية، ومن قبل كان ظهور الهندسات اللاإقليدية والرياضة البحتة، فصاغت فلسفة القرن العشرين نظرية مختلفة للمعرفة، تمثيلا لمرحلة جديدة ارتقى إليها العقل العلمي وباركتها المنجزات والحصائل، وواكبها انقلاب مماثل في الصياغة الفلسفية للمنهج العلمي، بوصفه أنجع وسيلة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل المشكلات. كيف نشأ المنطق الرياضي ليصبح عصبا لفلسفة القرن العشرين عموما؟ كيف تطورت بفضله أدوات فلسفة العلم خصوصا ومعالجتها لبنية النظرية العلمية، فيتضح كيف أن إمكانية التقدم مفطورة في صلبها، في أصفى وأقوى صياغة لمقولة الثورة والتقدم في حياة البشر. بمنطق التقدم العلمي أصبحت الفلسفة تنظر إلى العلم كفاعلية إنسانية متحركة نامية دوما، عبر التفاعل مع البنيات الحضارية المختلفة، وفي ضوء تطوره التاريخي. حدث أخيرا تلاق حميم بين قطبي الثقافة العلمية: فلسفة العلم وتاريخه، فأصبحت فلسفة العلم أكثر شمولية للموقف الإنساني من أية فلسفة أخرى، وتشابكت علاقاتها وانفتحت أمامها آفاق مستجدة تماما ...
هذه بعض من الموضوعات التي يعالجها هذا الكتاب في إطار محاولة لطرح إجابة متكاملة متحاورة الأطراف عن السؤال: كيف تسلم القرن العشرون فلسفة العلم؟ وكيف تطورت على مداره؟ وكيف أسلمها إلى القرن الحادي والعشرين؟
وبعد ... يخرج هذا الكتاب بين يدي القارئ الكريم، وقد مضى أكثر من عشرين عاما وأنا سابحة في بحور فلسفة العلم ومياهها العميقة، في نصوصها وإشكالياتها ومنحنياتها ومراميها وفعالياتها ... والرؤى المختلفة والمتقابلة لتاريخ العلم ومسيرته عبر الحضارات، خرجت بحصائل جمة لا بأس بها، لكنها كانت فرائد، أتى توجيهها وتوظيفها في هذا الإطار المتكامل، من فيء لقائي بأستاذ جيلي الدكتور فؤاد زكريا، لقد تفضل سيادته بأستاذيته المكينة والمعطاءة، وأرشدني إلى فكرة هذا الكتاب، وتتابعت الإرشادات والتوجيهات عبر خطوات الإنجاز، ثم يتضاعف عرفاني وامتناني لأستاذي الجليل الدكتور فؤاد زكريا، لما تحقق من استفادة بالغة بأعمال سيادته، تأليفا وترجمة، والتي هي أعمال رائدة وفاعلة وناجزة في إرساء أسس فلسفة العلم وأصول التفكير العلمي في الحضارة العربية.
ويبقى امتناني لسائر أساتذتي الذين تعلمت على أيديهم ومن أعمالهم، وأيضا ابني حكيم حاتم، وحبي العظيم له - ولشقيقته يمنى - وقد اختار لدراساته فرعا متقدما من فروع العلم ورياضياته العالية، لا شك أن مناقشاتي معه الحية المستفيضة حول أصول مفاهيم علمية وأبعادها الحضارية والمنظورات الإنسانية الشاملة لها ... قد ساهمت في إضفاء مزيد من الحب والحيوية والنضارة على إنجازي لهذا الكتاب، وتتفضل سلسلة عالم المعرفة المرموقة بتقديمه إلى القارئ العربي، في إطار السعي نحو توطين الوعي بظاهرة العلم كظاهرة إنسانية حميمة متدفقة في سياق حضاري موات، وتعميق أبعاد الروح العلمية بين قراء العربية، لا سيما أمثاله من شباب العلميين.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير الثقافة العربية.
الفصل الأول
العلم بين فلسفته وتاريخه
Bilinmeyen sayfa
(1) مدخل
أولا: علاقة متوترة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم
يقول هيدجر: إن العلم لا يفكر في ذاته. ويمكن أن نضيف إلى هذا أنه لا يعنى كثيرا بذاكرته، ولا يلتفت إلى ماضيه، فديدن العلم في أن يصحح ذاته ويجدد نفسه ويتجاوز الوضع القائم، ناهيك عن الماضي، إنه يشحذ فعالياته المنطلقة بصميم الخصائص المنطقية صوب الاختبارية والتكذيب والتصويب، صوب مزيد من التقدم والكشف، أي صوب المستقبل دوما.
لذلك لم تكن علاقة العلم بتاريخه مماثلة لعلاقة الكيانات الحضارية الأخرى بتاريخها، فقد تعتبره بمثابة سجلها المدون الذي يحمل معالم تشكل هويتها، فلا تنفصل عن تاريخها إلا إذا كان للشخص أن ينفصل عن بطاقة هويته، ولعل المنطلق الفلسفي يطرح علاقة الفلسفة - قبل أي شيء آخر - بتاريخها، ولما كان تاريخ الفلسفة هو ذاته الفلسفة، فإن هذا يبرز كيف تنفرج الهوة بين العلم وتاريخه.
ولكن بقدر ما نجد العلم في القرن العشرين قد أصبح الفعالية العظمى التي تشكل وتعيد تشكيل العقل المعاصر والواقع المعاصر، يوما بعد يوم وإلى غير نهاية، نجد تاريخ العلم هو تاريخ العقل الإنساني والتفاعل بينه وبين الخبرات التجريبية أو معطيات الحواس، هو تاريخ المناهج وأساليب الاستدلال وطرق حل المشكلات التي تتميز بأنها واقعية عملية ونظرية على السواء، إنه تاريخ تنامي البنية المعرفية وحدودها ومسلماتها وآفاقها، تاريخ تطور موقف الإنسان بإمكاناته العقلية من الطبيعة والعالم الذي يحيا فيه، تاريخ تقدم المدينة المدنية والأشكال الحضارية والأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان للتعامل مع بيئته؛ لكل ذلك يحق لنا القول: إن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد.
وعلى أية حال، إذا كان العلم لا يفكر في ذاته، فإن فلسفة العلم هي التي تتكفل بذلك العبء وتضطلع بالتفكير في ذات العلم ... في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها وطبائع تقدمها وكيفياته وعوامله ... على الإجمال التفكير في الإبستمولوجيا - أي نظرية المعرفة العلمية - ثم العلاقة بينها وبين المتغيرات المعرفية الأخرى والعوامل الحضارية المختلفة.
وإذا كان العلم لا يلتفت كثيرا إلى ماضيه، فإن فلسفة العلم أصبحت لا تنفصل عن الأبعاد التاريخية لظاهرة العلم فغدت شديدة العناية بتاريخ العلم، بحيث إن المتابع لتطورات فلسفة العلم في القرن العشرين يلاحظ أن أبرز ما أسفرت عنه هذه التطورات هو حلول الوعي التاريخي في صلبها، فتستقبل فلسفة العلم القرن الحادي والعشرين، وقد انتقلت من وضع مبتسر استمر طويلا يولي ظهره لتاريخ العلم ولدوره في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق، فضلا عن دفع معدلات التقدم العلمي، ويكتفي بالنسق العلمي المنجز الراهن، ويفلسفه بما هو كذلك على أساس النظرة إليه من الداخل، أو النظرة إلى النسق العلمي في حد ذاته ... انتقلت فلسفة العلم من هذا إلى وضع مستجد يرتكز على الوعي بتاريخ العلم، فيفلسف العلم في ضوء تطوره التاريخي، وعبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية، مما يعني تطورا ذا اعتبار في منطلقات وحيثيات وعوامل النظرة الفلسفية إلى العلم، وهذا التطور في الواقع هو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل مع النظرة إليه من الخارج، أي باختصار نظرة فلسفية أشمل لظاهرة العلم.
ولا شك أن فلسفة العلم هي المعبر الرسمي والشرعي عن أصول التفكير العلمي، وهي مسئولة عن وضعية ودور تاريخ العلم، وسوف تكشف صفحات مقبلة عن عوامل عديدة أفضت فيما سبق إلى إغفالها البعد التاريخي طويلا.
ولكن نلاحظ مبدئيا أن فلسفة العلم كمبحث أكاديمي متخصص ومستقل عن نظرية المعرفة بصفة عامة، قد نشأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهذه حقبة شهدت ذروة من ذرى المجد العلمي؛ إذ كان العلم الكلاسيكي الذي تؤطره فيزياء نيوتن معتدا بذاته إلى أقصى الحدود، فلم ينشغل رجالاته كثيرا بتاريخ العلم، ولم يعن فلاسفته بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر حين شوهد ما بدا للعيان من شبه اكتمال للعلوم الفيزيوكيماوية المسلحة باللغة الرياضية، وقد آتت مصداقيتها العينية والواقعية بانفجار الثورة الصناعية التي غيرت تماما من شكل التكوينات والعلاقات الاجتماعية والتقسيمات الطبقية والصراعات الدولية.
وإزاء هذا الواقع المستحدث والحي المتوقد، انصرف اهتمامهم عن تاريخ العلم، وكأن حسبهم الافتتان بالعلم ذاته في تلك المرحلة النابضة، والتأمل في رونق جلالها وجبروت شموخها، الذي نجح آنذاك - القرن التاسع عشر - في أن يضوي تحت لوائه فروعا كانت عصية للعلوم الحيوية، فضلا عن العلوم الإنسانية، وهذه الأخيرة - أي العلوم الإنسانية - تعد نشأتها الواعدة من المنجزات اليانعة التي يفخر بها القرن التاسع عشر وعلمه الكلاسيكي.
Bilinmeyen sayfa
هكذا بدأ العلم الحديث عملاقا يزداد تعملقا بصورة مطردة، فانبهر به أهلوه ورجالات عصره، حتى بدا تاريخ العلم مسألة ثانوية، وليس من شأنها أن تلقي الضوء على الظاهرة العلمية التي غدت باهرة مبهرة، فجرى التفكير العلمي آنذاك على منوال إغفال قيمة أو دور تاريخ العلم في تفهم الظاهرة العلمية وتعميق موقفها، فضلا عن استشراف مستقبلها ودفع معدلات تقدمها. على الإجمال عدم الالتفات إلى تاريخ العلم ... إلا قليلا.
بل منذ البدايات، كان النجاح الصاعد الواعد الذي صاحب نشأة العلم الحديث في العصر الحديث منذ القرن السابع عشر، وقد خلق ثقة زائدة في العقل وقدراته، ساهمت بدورها في الغض من قيمة تاريخ العلم! فكيف كان ذلك؟
إنها العقلانية التي ترى الحقيقة واضحة فيمكن أن يكتشفها الإنسان، ويميزها عن الباطل، إن العقلانية اتجاه تنويري مستنير يثق في الإنسان ويرفع الوصاية من عليه؛ لأنه يملك العقل وأيضا الحواس، يملك الوسائل التي تمكنه من إدراك الحقيقة واكتساب المعرفة، ولا حاجة إلى سلطة تفرض عليه لكي تدله على الحقيقة، كما كان الوضع في أوروبا طوال العصور الوسطى، فإذا كانت العقلانية مطروحة دائما بشكل أو بآخر عبر مراحل ومواضع شتى على مدى تاريخ الفلسفة، فإنها سادت القرن السابع عشر في أوروبا كثورة على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية ولأرسطو، وأرست الأسس المكينة لظاهرة العلم الحديث ، وهي في هذا تدين لاثنين من كبار الأئمة، أولهما رينيه ديكارت
R. Descartes (1596-1650م) أبو الفلسفة الحديثة الذي أكد أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس يدرك البديهيات بالحدس - أي بالإدراك الفوري المباشر - ويصل إلى الحقائق اليقينية. الله لا يخدع أبدا، فلنثق في الله وفي العقل، ونرفع الوصاية عن الإنسان لينطلق باحثا عن الحقيقة ومشيدا للعلوم. فقدم ديكارت واحدة من أمضى صور العقلانية. أما الإمام الثاني لعقلانية القرن السابع عشر، فيرتبط اسمه مباشرة بحركة العلم الحديث، إنه فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626م) الذي رفع الوصاية عن الإنسان عن طريق الثقة في الحواس وفي الطبيعة، فكان أبا التجريبية الحادة التي اقترن بها العلم الحديث في مراحله الأولى.
ومع تباشير النجاح الصاعد للعلم الحديث، بدت هذه الثقة بالإنسان وقدراته في محلها تماما، فنتج عنها ثقة زائدة في العقل، تمخضت في القرن الثامن عشر عما يعرف باسم عصر التنوير، عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود، كانت فلسفة التنوير الوريثة الأمينة للعقلانية وللتجريبية العلمية في القرن السابع عشر، صهرتهما معا في إطار إيمانها الطاغي بالتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد في طريق واحد لا سواه، طريق العقل والعلم.
وفي إقرار هذا استعان التنويريون بمقولة هيمنت هيمنة طاغية على التفكير الحديث، إنها مقولة الحتمية
Determinism
الميكانيكية الشاملة التي فرضتها فيزياء نيوتن على العلم الكلاسيكي الحديث من رأسه حتى أخمص قدميه، وحكمته بقضبان حديدية. والحتمية تعني عمومية قوانين الطبيعية وثبوتها واطرادها، فلا تخلف ولا مصادفة ولا جواز ولا إمكان؛ لأن كل شيء في الكون ضروري ذو علاقات ثابتة، وكل حدث مشروط بما يتقدمه أو يصحبه، فترتبت أحداث الكون في اتجاه واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل، مما يجعل نظام الكون ثابتا شاملا مطردا، وكل ظاهرة من ظواهره مقيدة بشروط تلزم حدوثها اضطرارا، أي خاضعة لقانون يجعلها نتيجة ضرورية لما قبلها ومقدمة شرطية لما بعدها، مما يعني أن كل ما يحدث لا بد أن يحدث ويستحيل حدوث سواه.
لقد أصبحت الحتمية العلمية شاملة، ومن هذه الحتمية الفيزيائية خرجت الحتمية الاجتماعية التي تزعم قوانين ضرورية للحركة الاجتماعية، وتعضدت الحتمية التاريخية التي تزعم طريقا واحدا محتوما لمسار التاريخ، وقد استعان التنويريون في القرن الثامن عشر بهذه الحتمية العلمية في إقرار وتعيين وترسيم ما رأوه من طريق واحد لا سواه للتقدم غير المحدود الذي تنجزه البشرية باطراد، طريق العقل والعلم.
Bilinmeyen sayfa
وإذ عني التنويريون بترسيم المراحل المنقضية من هذا الطريق، مثلا مراحل التاريخ عند فيكو
G. B. Vico (1668-1744م)، وعند تورجو
A. R. Turgot (1727-1781م) ومخطط «كوندرسيه»
J. A. Condorcet (1743-1794م) التاريخي لتقدم العقل البشري ... فقد بدت المراحل المنقضية عقبات كئود ظفر العقل البشري بالتحرر من ربقتها، وإذا كان ثمة تاريخ منقض لماضي العلم فلن يعدو أن يكون سجلا لإزاحة الجهل، فهل نوليه اهتماما؟! وهل تناط به أدوار أبستمولوجية؟! بالطبع كلا! هكذا تراجعت أهمية تاريخ العلم.
وهذا الميراث العقلاني التنويري في القرن الثامن عشر حملته باقتدار وامتياز فلسفة العلم حين نشأت في القرن التاسع عشر، ومن ثم سيطر على فلسفة العلم آنذاك، وحتى أواسط القرن العشرين، الاقتصار على النسق العلمي كمنجز راهن تطرد كشوفه ويتوالى تقدمه؛ ليغدو تاريخه مسألة شاحبة غير ذات صلة بالموضوع.
على العموم، تم تجاوز هذه المرحلة الآن، وحدث اندماج واقتران حقيقي وحميم بين فلسفة العلم وتاريخه، وسوف نرى أن هذا حدث أساسا كتطور ونماء لفلسفة العلم ذاتها، وبفضل جمع من كبار فلاسفتها لا سيما في الثلث الأخير من القرن العشرين، فيما يحق اعتباره ظفرا للعقل الفلسفي، ولكن لا يمكن أن نفصل هذا تماما عن إنجاز آخر تميز به القرن العشرون، ألا وهو أنه قد شهد أخيرا نضج مبحث تاريخ العلم «إذ لم يكتمل الاعتراف به كمبحث أكاديمي يتفرغ له دارسون متخصصون إلا في عام 1950م فقط، حين بدأ ذلك في بعض الجامعات الأمريكية»،
1
التي أنشأت لأول مرة أقساما مستقلة لتاريخ العلم، وليس فقط كراسي لأساتذته.
وما دام العلم ظاهرة إنسانية تنمو وتتدفق في سياق الحضارة الإنسانية وبفعل الإنسان، فلا بد وأن نسلم بقيمة تاريخ العلم في النظرة الفلسفية للعلم، وأنه فرع مهم من فروع المعرفة؛ لذلك يجمل بنا أن نلقي نظرة على تشكل مبحث تاريخ العلم ونمائه ونضجه الذي يحسب للقرن العشرين، بعبارة موجزة، نلقي نظرة على تاريخ «تاريخ العلم».
ثانيا: تاريخ العلم يتقدم في القرن العشرين
Bilinmeyen sayfa
أجل! يقال: إن التاريخ هو الأب الشرعي للعلوم الإنسانية جميعا، وواحد من أقدم المجالات التي انشغل بها العقل تعبيرا عن اهتمام إنساني خالص هو اهتمام بالماضي البشري، إلا أن التاريخ كان دائما - ولعله لا يزال إلى حد ما - متمحورا حول ما يمكن أن نسميه بالتاريخ السياسي، قيام الإمبراطوريات وسقوطها، الحروب ونواتجها، صراعات الدول والعائلات والأفراد على السلطة، والسيطرة على الحكم ... ولم تحظ بقية جوانب الحضارة الإنسانية بنفس القدر من الاهتمام، ولم يكن تاريخ العلم أفضل حالا، بل لعله الأسوأ حظا؛ نظرا لما صدرنا به الحديث من تضارب علاقة العلم بماضيه واتجاهه دوما نحو المستقبل.
وبالتالي كانت مباحث تاريخ العلم متروكة كنشاط هامشي للهواة من العلماء المحترفين الذين رأوا فيه ما يستهويهم ويجذبهم بصفة شخصية ويعينهم على اجتذاب طلبتهم بأحاديث شيقة، أو على توضيح أصول لمفاهيمهم. ولا يختلف الحال إذا كان هؤلاء العلماء ذوي إسهامات فلسفية، أي فلاسفة للعلم واهتموا بتاريخه، كما فعل إرنست ماخ
E. Mach (1828-1916م) وبيير دوهيم
(1861-1916م) مثلا؛ لأن فلسفة العلم - كما أشرنا - سادها آنذاك إهمال للبعد التاريخي، فكانت مباحثهم التاريخية أيضا نشاطا فرديا جانبيا على هامش نظرياتهم الفلسفية، مثلما كانت على هامش البحوث العلمية.
وهذه المحاولات الفردية كانت تقتصر على فرع واحد محدد من التخصصات، كتاريخ الرياضيات وتاريخ الكيمياء وتاريخ البصريات. وقد اهتم ماخ بتاريخ الميكانيكا، بينما اهتم دوهيم بتاريخ الإستاتيكا وتاريخ الفلك، ولم يكن هناك اهتمام بتاريخ العلم أو تاريخ المعرفة الوضعية ككل إلا من بعيد في إطار الاهتمام الفلسفي العام الذي تنامى منذ عصر التنوير بمراحل تطور العقل البشري.
وفي هذه المرحلة الكلاسيكية التي استمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر، إذا بحثنا عن وعي بأهمية تاريخ العلم خارج إطار بحوث العلم وفلسفته - أو بالأحرى خارج هوامشها - فسوف يستوقفنا عالم الرياضيات النابغة وليم كنجدون كليفورد
W. k. Clifford (1845-1879م) الذي أصبح إبان حياته القصيرة أستاذ الرياضيات التطبيقية في جامعة كمبردج العريقة ذات القدح المعلى في الرياضيات، وهو أول من تكفل بعرض هندسة ريمان - هندسة السطح المحدب - في بريطانيا وبحث طوبولوجيا المساحات فيها، وله أيضا أبحاث متميزة في الجبر. وفي كتابه الصادر عام 1878م قبيل رحيله، أوضح كليفورد خطورة الاقتصار على تدريس العلوم الحديثة واعتبارها الثقافة الشاملة، مع الجهل بماضي العلم، ورأى كليفورد أن مباحث تاريخ العلم من شأنها أن تردم الهوة التي انشقت وتعمقت بين الدراسات العلمية الحديثة وبين الدراسات الإنسانية، كما تعبر عنها الفنون الحرة والآداب.
2
ويمكن اعتبار دعوى كليفورد هذه إرهاصا ومقدمة للقضية الهامة التي فجرها فيما بعد لورد سنو
C. P. Snow
Bilinmeyen sayfa
في محاضرته الشهيرة «ثقافتان» التي ألقاها في الجامعة التي شهدت كليفورد، جامعة كمبردج، وذلك عام 1959م، فقد كان لورد سنو عالما طبيعيا محترفا يقضي نهاره مع العلماء، وأديبا هاويا يقضي أمسياته مع الأدباء، وأفزعته الشقة الواسعة بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، حتى أصبحا فريقين متقابلين لكل خصائصه ومنطلقاته، ويجعل أو يتجاهل الآخر وعالمه ومنجزاته،
3
لقد بدا واضحا خطورة فصل العلم كمضامين وأجهزة ورموز عن علاقته بالحياة والثقافة بمعناها الشامل، ولعل هذا ما تمخض عما يسود الآن من ضرورة أن يدرس طلبة العلوم مادة إنسانية ويدرس طلبة الإنسانيات مادة علمية، كما كان يحلم كليفورد.
لقد أدرك كليفورد في وقت مبكر قدرة تاريخ العلم على الإسهام في رأب الصدع بين الثقافتين وضرورة أنسنة الظاهرة العلمية - أي الوعي بها كظاهرة إنسانية في عالم الإنسان ومن صنع الإنسان - عن طريق العناية بتاريخ العلم، لكن نظرا لرحيل كليفورد المبكر وفي قلب أجواء القرن التاسع عشر التي همشت تاريخ العلم، فإن هذه القضية لم تلق الاستجابة إلا في القرن العشرين.
إذن نخلص من كل ما سبق إلى أن العلم - وهو الابن النجيب والأثير للتاريخ الإنساني - ظل تاريخه لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام حتى نهايات القرن التاسع عشر.
أما في القرن العشرين فقد لفتت وقائع الحرب العالمية الانتباه إلى خطورة العلم وتأثيراته الحاسمة في المنظومة الحضارية، وبدأ الاهتمام بتاريخه يتكثف ويتعين أكثر وأكثر ، ولأسباب كثيرة معظمها يتعلق بطبيعة موضوع البحث وأساليب دراسته ومناهجه المشتبكة بتطور العقل وتفاعل الأفكار والمقولات وعلاقة الإنسان بالطبيعة ... لأسباب كثيرة ارتبط تاريخ العلم ارتباطا وشائجيا خاصا بالفلسفة، وتعلم المعنيون به من أهل الفلسفة هذا التعاطف الحميم مع مفكري الماضي، ومحاولة تفهم موقفهم المعرفي، فتشكلت معالم مبحث تاريخ العلم كتيار متميز ومتخصص في السياق المعرفي.
وكان هذا بفضل الجهود الجبارة لرواد عظام، على رأسهم جورج سارتون
G. Sarton
مؤسس تاريخ العلم في أمريكا، والأب الروحي لجعله مبحثا نظاميا أكاديميا في القرن العشرين، ومجالا لنشاط جمعي تعاوني.
فقد آمن جورج سارتون بأهمية تاريخ العلم كما لم يؤمن أحد من قبل، ورآه ضرورة علمية وضرورة تربوية وضرورة ثقافية في آن واحد، فأكد أن الطريق إلى تأسيس الجهد العلمي بأن نلقحه بشيء من الروح التاريخية، فكيف يجهل العالم أصول أفكاره وكيفية تخلقها وجهد السابقين العظام الذين يقف على أكتافهم؟! أما بالنسبة للطلبة فلا جدال طبعا في أهمية تدريس العلوم وقيمتها العملية، ولكنها تفقد كل قيمة تربوية لها، بل تصبح مضرة إن قدمت للدارسين كمعرفة بلا تاريخ، وفضلا عن هذا وذاك، كان تاريخ العلم عند سارتون أيضا ضرورة ثقافية؛ لأنه القادر على رأب الصدع بين العلوم الطبيعية وبين النزعة الإنسانية «وهذه أشأم معركة عرفتها البشرية»،
Bilinmeyen sayfa
4
كما لاح لوليم كليفورد من قبل، وكما أكد لورد سنو من بعد، وشرع جورج سارتون في ترسيم معالم النزعة الإنسانية الجديدة، حيث يتضافر العلم عن طريق تاريخه مع الدين والفلسفة والفنون والآداب ...
كان سارتون بلجيكيا، درس الفلسفة في جامعة غنت
Ghent ، ثم تحول إلى العلم وحصل على الدكتوراه في الرياضيات عام 1911م، وله بحوث في الكيمياء، وأيضا قصائد شعر منشورة، وفي هذا الأفق العقلي الواسع، يبرز إعجاب سارتون بأوجست كونت
A. Comet (1798-1857م) وتنميطه الثلاثي لمراحل تطور العقل البشري من المرحلة الغيبية الدينية إلى المرحلة الفلسفية الميتافيزيقية إلى المرحلة العلمية الوضعية التي تأتي في إثرهما لتتوجهما وتمثل التقدم المنشود، وقد قطع طريقا طويلا، فاقتنع سارتون بأن تاريخ العلم هو أساس كل تفكير علمي، وانكب على بحوثه الجادة في هذا المجال، وأصدر أول مجلة متخصصة في تاريخ العلم هي «إيزيس»
Isis
التي يصفها بأنها بالنسبة له «بمثابة الروح والمطمح والأمل»، صدر عددها الأول في مارس عام 1913م.
ثم هاجر سارتون إلى هولندا، ومنها إلى إنجلترا، وتزوج من فنانة تشكيلية إنجليزية، واستقر أخيرا في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ عام 1916م راح يلقي محاضراته في جامعة هارفارد في الفلسفة، ثم في تاريخ العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدا وحتى الآن، وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعمق وجدية أبحاثها فيه، حتى باتت قبلة المعنيين به.
وقد صدر العدد الثاني من «إيزيس» في سبتمبر عام 1919م، ثم أصبحت المجلة منذ عام 1924م لسان حال «جمعية تاريخ العلم» التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيما بعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثا مطولة أكثر أسماها «أوزوريس»، ونلاحظ ولعه بالعناوين الشرقية، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقدير لدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى في رسم فصول قصة العلم العالمية، التي يؤكد دائما أنها معامل الوحدة بين البشر. واضطلع سارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرز بيكون، ولكي يزداد تمكنا من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي 1931-1932م لدراسة الإسلام واللغة العربية، مما يبرز أهمية تاريخ العلوم عند العرب في ملحمة العلم المجيدة.
أصبح سارتون أستاذا لتاريخ العلم في جامعة هارفارد منذ عام 1940م وحتى تقاعده ورحيله. ولا شك أن جهوده وجهود زملائه من أعضاء «جمعية تاريخ العلوم» أمثال «بول تانري»
Bilinmeyen sayfa
من العوامل التي تمخضت عن تأسيس أقسام متخصصة في تاريخ العلوم بالجامعات الأمريكية منذ عام 1950م - كما ذكرنا.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصة في أنحاء شتى من العالم - للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية - معظمها يحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معا ، يعطي شهادة جامعية في هذا التخصص الذي يضم المبحثين. وتجدر الإشارة أيضا إلى التجربة الإيطالية في دراسة تاريخ العلوم التي ازدهرت منذ الستينيات، تمت هي الأخرى تحت رعاية الفلسفة وأنجزت حصادا طيبا.
في هذا الإطار التنظيمي ظل المبحثان - فلسفة العلم وتاريخ العلم - مختلفين متمايزين ومستقلين إلى حد ما، يجتمعان فقط على عنايتهما بنفس الموضوع، أي ظاهرة العلم. قد يكون هذا في حد ذاته علاقة، لكنها صورية شكلية تنظيمية واهية، حتى بدت هذه العلاقة على مستوى الأبحاث والأطروحات وكأنها مشكلة غير قابلة للحل،
5
ولم يدخل الوعي التاريخي في صلب فلسفة العلم كصيرورة ونماء لها، إلا بفضل تطوراتها الداخلية على يد الرواد المتأخرين من فلاسفتها المحترفين، هذا صحيح، لكن لا شك أن تنامي الاهتمام الأكاديمي بتاريخ العلم، وتدفق البحوث العلمية والمجلات المتخصصة والندوات والمؤتمرات الدولية ... كانت من العوامل القوية التي ساهمت في أن يحل الوعي بتاريخ العلم في صلب فلسفة العلم.
لقد بدا واضحا أن كلا الطرفين - تاريخ العلم وفلسفة العلم - في حاجة إلى التفاعل العميق مع الآخر، وهؤلاء المحترفون المتخصصون في تاريخ العلم الذين برزوا في العقود الأخيرة ورثوا عن الرواد العظام تركة زاخرة، لكنها رؤى متنافرة خلقت توترا في الميدان يستدعي تضافرا منشودا بين فلسفة العلم وتاريخه؛ لأن الإبستمولوجيا - كما يقول جان دومبريه
J. Dhombres - تقدم العون الأساسي في التعريف الحقيقي لنشاط تاريخ العلم، وتاريخ العلم بدوره ليس مجرد ذاكرة العلم، بل هو مختبره الإبستمولوجي
Epistemological Laboratory ،
6
أو كما قال إمري لاكاتوش
Bilinmeyen sayfa
I. Lakatos (1922-1974م) فيلسوف العلم البارز بعبارته النافذة التي كانت قوية التأثير حقا: «فلسفة العلم بدون تاريخه خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفته عماء.» وسوف نتوقف عندها تفصيلا في الفصل الأخير.
لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورا كبيرا في بنية التفكير العلمي وفلسفته، وكان لا بد من تجاوزه، كما فعلت فلسفة العلم في واحد من اتجاهات تطورها اللاحقة والمحمودة حقا، التي شهدتها المراحل الأخيرة من القرن العشرين.
وإذا سلمنا بهذا، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادها التاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورته عبر مسار الحضارة الإنسانية.
حقا إن موضوعنا هو فلسفة العلم في القرن العشرين، أي إنه منصب على هذه الحقبة الأخيرة، والتي كانت الحضارة الغربية مسرحها، إلا أن الطرح المنهجي المتكامل يقتضي أن نعطي كل مرحلة حقها؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طرا، إنه أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تستأثر بإنجازه من ألفه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدة من مراحل التاريخ، وإذا كان مبدأ «أرنولد توينبي»
A. Toynbee (1889-1975م) في دراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخ بقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم وفلسفة التفكير العلمي بمعزل تام عن المراحل الأخرى المفضية إليها. وأول تساؤل يفرض ذاته: متى يبدأ تاريخ العلم؟
ثالثا: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية
إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورا وتعينا وتمثلا وأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدا من التاريخ، بدأ قبل أن يبدأ التاريخ، ببداية وجود الإنسان في العالم، إنسان نياندرتال، أو على أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوب بزمان سحيق. وهذه الحقب السحيقة من تاريخ وجود الإنسان في الكون، ما كان يمكن اقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، تطورت فقط في القرن العشرين.
ويأتي ج. ج. كراوثر
J. J Crowther
الذي يعد من أهم مؤرخي العلم في القرن العشرين؛ ليذهب ببدايات العلم إلى ما هو أبعد من ذلك، طارحا الاحتمال بأن يكون العلم أقدم عهدا وأسبق في الوجود من الإنسان ذاته! فيقول كراوثر في كتابه الممتع حقا «موجز لتاريخ العلم 1969م» والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان «قصة العلم» يقول:
Bilinmeyen sayfa
المضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء ... هذه المكتشفات بالغة التطور التي تثير الدهشة والإعجاب قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها تنتمي لجنس آخر أو نظام مختلف من الوجود لا صلة له بإنسان ما قبل التاريخ، وهي على العكس من ذلك تمتد بجذورها للجهد الإنساني البدائي فيما قبل التاريخ المكتوب، ومحاولات أسلافنا الساذجة في استخدام الحجارة لصنع أدواتهم هي التي قادت عبر مئات الآلاف من السنين، ومثلها من محاولات لتصحيح الأخطاء، قادت إلى ما يتصف به علمنا التجريبي اليوم من كمال، فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصرية وحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان في صورة بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحول الإنسان تدريجيا من الحيوانية إلى الإنسانية؛ إذن العلم - بمعنى ما - أقدم من الإنسان.
7
هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسية والخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبر آلية المحاولة والخطأ، وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية، ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائية للعلم أقدم عهدا من إنسانية الإنسان، بل ومؤدية إليها، ويبقى أن نلاحظ كيف أن التحاور بين اليد والدماغ عبر آلية المحاولة والخطأ هو جوهر نظرية المنهج العلمي التجريبي!
ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وكراوثر نفسه يطرحه كاحتمال، لكن بدايات العلم منذ العصر الحجري هو ما يأخذ به غالبية مؤرخي العلم من الراغبين في الطرح المتكامل.
وهذا هو ما يسلم به كراوثر نفسه، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجل موثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ لذلك تتمركز تأريخات كراوثر حول صلة العلم بالمجتمع، والعلاقة التبادلية بينهما، وضرورة أن يهيئ المجتمع الظروف المواتية للتقدم العلمي، والتأثير الشديد للعلم على مناحي الحياة الاجتماعية، بدءا من الحرب والعلاقات الدولية وانتهاء بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية.
تماما كما أكد جون ديزموند برنال
J. D. Bernal
على الوظيفة الاجتماعية للعلم، في تأريخاته المسهبة وكتابه الشهير «العلم في التاريخ» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1954م، وصدرت طبعته الثانية المزيدة والمنقحة والذائعة الصيت عام 1957م.
ولم تكن مقابلة كراوثر ببرنال من بين جمهرة مؤرخي العلم جزافا، فكلاهما إنجليزي من أبناء القرن العشرين، من أبرز مؤرخي العلم فيه، ومن المهم أن نلاحظ دلالة تناقض المشارب بينهما؛ ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدا للقيم الاشتراكية وقدحا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدا طويلا - طوال العصور القديمة والوسطى - مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبة من جموع الشعب، فضلا عن تجهيل العلماء بمشاكل الجماهير واحتياجاتها، هذا بخلاف استغلال الرأسمالية الحديثة والمعاصرة لإمكانيات العلم وتقاناته «التكنولوجيا» استغلالا بشعا في قهر الطبقات والشعوب الأقل حظا، بينما نجد كراوثر أكثر اعتدالا، بلا تحزب أو تعصب، لكن يقدم الرد على هذا بكتابه المذكور؛ إذ يركز على أن العلم الحديث صنيعة الطبقة البرجوازية التي تشكلت في العصر الحديث، وشكلت بدورها معالمه.
وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثر الضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وأن تاريخ العلم يبدأ منذ العصر الحجري، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدان مهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية.
Bilinmeyen sayfa
والحق أن كتاب كراوثر المذكور، وإن كان يقف في مواجهة تطرف برنال اليساري، إلا أنه - أي «موجز تاريخ العلم» أو «قصة العلم» لكراوثر - يخلو من التحزب ويصعب دمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجا للعرض المنهجي الشامل والسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثم العوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، في مثل هذا العرض لا بد وأن تبدأ قصة العلم المثيرة - تماما كما بدأت مع جون برنال - منذ ما قبل التاريخ، أي بإنسان العصر الحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سر الحياة، فضلا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التي يرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلمية الراهنة.
وها هنا أكد كراوثر أن العلم أقدم عهدا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية كانت أول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري، والواقع أن رموز الأعداد - كما يؤكد كراوثر - اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي.
وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة «التكنولوجيا» البدائية والعلم البدائي مواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، تفيد مباحث الأنثروبولوجيا، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها، بمعنى الوقوف على أصوله البعيدة؛ نشدانا لرؤية شاملة.
نذكر في هذا - على سبيل المثال - دراسة ممتازة اتخذت موضوعها قبائل الأزتك التي نزحت من الشمال واستقرت في هضبة المكسيك منذ عام 1267م، وحين اكتشاف الأمريكتين عام 1492م كانت قبائل الأزتك من أكثر الثقافات البدائية تكاملا في أمريكا الوسطى، على أنهم افتقدوا كثيرا من أوليات التقانة «التكنولوجيا» فكانوا لا يعرفون العجلة أو المحراث أو التقطير، ولا صهر المعادن والزجاج؛ لذلك اعتبرهم الباحث مرحلة بدائية جدا لم تصل حتى إلى العصر البرونزي، ومع هذا سيطروا على مشاكل تكنولوجية في بيئتهم بطريقة مدهشة، انطوت على كثير من أوليات الأفكار العلمية القابلة للتطوير، من قبيل التصورات العامة للتعاقب الزماني والأوزان والمقاييس وأوليات الحساب والهندسة والطب والجراحة والهيدروليكا وطبقات الأرض وأنواع الحجارة - أي الجيولوجيا - وقد عرفوا مجموعة محددة من المعادن منها النحاس، وأيضا الذهب الذي أطلقوا عليه اسم «المقدس» وظنوه الشمس مقابل الفضة التي هي القمر، ولكن نظرا لثراء بيئتهم بالنبات مقابل فقرها في أنواع الحيوانات، فقد اهتموا كثيرا بتصنيف النبات بالذات حتى امتلكوا في هذا قاموسا رائعا، وقد بذل الباحث جهدا مضنيا معتمدا على توصيفات الرحالة عبر التاريخ، وفحص الوثائق، بجانب الدراسة الميدانية، حتى إنه أتقن لغتهم «النيوتل»
Nahutl
ليعطي بلورة واضحة لأصول هذه البذور العلمية وتطورها،
8
وعن مثل هذه البذور، وعبر تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل، كانت شجرة العلم التي تبدو الآن ريانة الغصون وارفة الظلال.
ولئن كانت التقانة «التكنولوجيا» البدائية ألحت كثيرا على الدراسات الأنثروبولوجية؛ لأن البيئة الإنسانية - بما هي إنسانية - تتأثر دائما بالأساليب الفنية التي يصطنعها الإنسان لتيسير التعامل معها،
9
Bilinmeyen sayfa
فإن اهتمام الأنثروبولوجيا الأحدث نسبيا بأصول العلم النظري هو تطور جوهري حقا للأنثروبولوجيا، بقدر ما هو تطور جوهري لقضية التأريخ للعلم؛ ليفيد هذا التطور بكلا وجهيه في استكشاف قصة الحضارة ومسارها، لا سيما وأن العلم شريان تاجي من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشر شديد الدلالة على درجة تدفق الحياة وإمكانيات النماء في الحضارة المعنية.
ويجمل بنا أن نتوقف مليا بإزاء هذا التطور في الأنثروبولوجيا الذي حدث إبان القرن العشرين فأتاح للمعنيين بتاريخ العلم أن يبدءوه ببداية الحضور الإنساني منذ العصر الحجري وما قبل التاريخ؛ لأن التحاور بين أطراف المنظومة المعرفية ورجع الصدى بين جنباتها يجعلنا نلمح توازيا دالا جدا بين هذا التطور في الأنثروبولوجيا وذاك التطور في وضع تاريخ العلم كمبحث نضج الاهتمام به فقط في القرن العشرين.
بادئ ذي بدء يمكن الاتفاق مع علم الأنثروبولوجيا البارز إدوارد إيفانز بريتشارد
E. E. Evans-Pritchard (1902-1973م) على أن النشأة الحقيقية المهيأة للنماء للمباحث الأنثروبولوجية كانت مع انشغال فلاسفة القرن الثامن عشر بالسؤال حول الحالة الطبيعية للإنسان، أو ما كان عليه قبل نشوء الحكومات المدنية،
10
لذا يمكن اعتبار علم الأنثروبولوجيا وليد عصر التنوير الذي حكمته عقيدة العقل والعلم والتقدم اللامحدود الذي تنجزه البشرية باطراد. طريق التقدم واحد هو خطى كتب على البشر أجمعين أن يقطعوها، وإن كان بعضهم أبطأ أو أسرع من الآخر. ثم توطدت هذه العقيدة بفعل نظرية التطور الداروينية ونجاحها اللافت في تفسير الارتقاء الحيوي، فساد الميدان ما عرف بالأنثروبولوجيا التطورية، والتطورية الجديدة، نازعتها في بعض الأبعاد النظرية الانتشارية التي أسسها في إنجلترا إيليوث سميث
E. Smith ، وتزعم أن العنصر الحضاري ينتشر من مواطن ظهوره إلى المواطن الأخرى، وأن حضارة العصر تبدأ في مركز ثم تنتشر منه لتتنامى؛ إذ لا يوجد قوم قادرون على صنع الحضارة بأسرها بمفردهم، ولكن كما أوضح جوردون تشايلد
G. Ghilde ، فإن النزاع بين التطورية والانتشارية زائف ووهمي؛ لأن الأولى تستفيد من الثانية،
11
ويكاد يتفق الأنثروبولوجيون على أن الأنثروبولوجيا كعلم بدأت بالنظرة التطورية
Bilinmeyen sayfa
12
التي حكمت إطار الأنثروبولوجيا ومنطلقاتها، بل واستأثرت بها في تلك المرحلة الأسبق والتي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.
وما دمنا معنيين الآن بأصول تاريخ العلم، فيمكن اعتبار «لوسيان ليفي بريل»
L. Levy-Bruhl (1857-1939م) أبرز ممثلي تلك النظرة الأنثروبولوجية التطورية، إنه الوريث الأمين ل «سان سيمون وأوجست كونت»،
13
و«إميل دوركايم» ليكون من أهم الشخصيات الأنثروبولوجية في الربع الأول من القرن العشرين، يعطينا كتابه الشهير «العقلية البدائية» صورة مثلى لمنطلقات هذه المرحلة الأسبق من علم الأنثروبولوجيا التي تقطع كل صلة بين الأصول البدائية للإنسان وبين أشكال التحضر الحديثة وعلى رأسها العلم، مما يساهم في تبرير النظرة التي تغفل أهمية تاريخ العلم. فقد ذهب بريل إلى أن العقلية البدائية مختلفة اختلافا جذريا عن العقلية المتحضرة، ويستعين برأي ثورنفالد
Thurnwald
بغياب قانون العلية تماما عن العقلية البدائية؛ ليؤكد أنها لا علاقة لها البتة بالمنطق والتفكير الاستدلالي، بل هي محض خليط من الخرافات والسحر والغيبيات والاعتقاد بقوى خفية تحكم العالم، وبسطوة الأحلام وأرواح الموتى وعلامات التطير، ولا تميز بين الإنسان والطبيعة، بل تعتبره مشاركا فيها وجزءا منها. الإنسان البدائي - فيما يزعم بريل - يعجز تماما عن النظر إلى الطبيعة باعتبارها واقعا موضوعيا على نحو ما يفعل الإنسان الأوروبي المتحضر صانع العلم. وينتهي ليفي بريل إلى أن العقلية البدائية لا تتقدم ولا تكتسب القوى المنطقية إلا عن طريق احتكاكها بالإنسان الغربي الأبيض بالكشوف أو التبشير أو الاستعمار!
تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، أو بمصطلحات فلسفة العلم «التشويه الأيديولوجي» للعلوم الأنثروبولوجية ومدى طغيانه على الروح العلمية الحديثة في موطنها الأوروبي، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجي بدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي - ولو من بعيد - إلى الاقتصار على المعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم.
وها هو ذا واحد من أقطاب الروح العلمية المبرزين، كارل بيرسون
Bilinmeyen sayfa
K. Pearson ) 1857-1936م) وكتابه الشهير «أركان العلم»
14 - والذي صدرت طبعته الأولى عام 1892م (الثانية عام 1900م، والثالثة عام 1911م) - ليجسد الروح العلمية التجريبية المتطرفة تطرفا حادا، فيرفض الميتافيزيقا، بل وحتى الشعر ما لم يكن قائما على أساس علمي هو الحسية المتطرفة. فكل ما لا يرتد إلى انطباعات حسية - كما أكدت الوضعية المنطقية فيما بعد - هو لا علمي، هو لغو وهراء، ولغة العلم «ليست إلا رموزا مختزلة لتتيح أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية»،
15
وقد كان بيرسون نصيرا متحمسا وداعية مفوها للفكر الاشتراكي، ومن أهم أعماله «الاشتراكية نظريا وعمليا 1887م»، وعلى الرغم من هذا يدافع جهارا نهارا في كتابه المذكور «أركان العلم» عن مشروعية إحلال الجنس الأبيض عنوة محل القبائل البدائية من السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا، (ويمكن أن نضيف إليهما فيما بعد فلسطين) ما داموا يعجزون عن استغلال الأرض وإثراء الحضارة والإسهام في المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي.
إنه إذن الهدف الأيديولوجي العنصري المشبوه: إضفاء المشروعية والتبرير لسؤدد الغرب والاستعمار الإمبريالي والاستيطان في أراضي الغير. ولما كان التشويه الأيديولوجي يستأثر بالعلوم الإنسانية دونا عن العلوم الطبيعية - كما سنرى في الجزء الأخير من الفصل السادس - فلا غرو أن يجعل الدراسات الأنثروبولوجية نهبا مستباحا له، فضلا عن طبيعة موضوعها، كانت العلاقة بينها وبين الاستعمار علاقة تبادلية وطيدة. الاستعمار احتاج إليها لترسيخ سيطرته على الشعوب المقهورة بأن يزداد علما بأوضاعها وأحوالها ومعارفها، ففتح المجال للأنثروبولوجيين وأتاح لهم منحا وتسهيلات لم تتح سابقا للباحثين، فكان لا بد وأن ترد الأنثروبولوجيا الدين للاستعمار،
16
وتسير نحو العمل على تبريره عن طريق الحط من شأن الحضارات المستعمرة وتهوين قيمة معارفها وإنكار دورها في قصة الحضارة، وأنبل فصولها قصة العلم. وسوف يواجهنا هذا التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض لفصول قصة العلم عبر الحضارات.
ولما كان ليفي بريل من أهم الأنثروبولوجيين في عصره - كما ذكرنا - كان أكثرهم تعبيرا عن هذا، حتى إن تطرفه بمعية قيم الصدق التي لا بد وأن تبرز في الميدان العلمي ... هذا جعل نظريته التي تقطع كل صلة بين الإنسان البدائي وبين أصول الحضارة والعلم تتعرض لنقد حاد من الأنثروبولوجيين أنفسهم، رآها كثيرون منهم على حقيقتها، عنصرية قاسية، وفي سبيل إثبات تفرد وسيادة الإنسان الأبيض تتحامل بضراوة ولا موضوعية على الإنسان البدائي الذي لا يصح أبدا أن ننفي عنه أية قدرة منطقية، ولئن اختلطت رؤاه بالتصورات الساذجة واللامبررة عقلانيا، فلا شك أنه له موقفه الأولي وتفكيره المنطقي البسيط. لقد بلغت ضراوة النقد الموجه إلى ليفي بريل حدا دفع بريتشارد إلى الزعم بأن بريل أسيء فهمه، على الرغم من أنه هو نفسه رفض نظرية بريل «الذي يدرس العقول البدائية بمعايير عقل تشكل في ظروف مغايرة».
17
وضراوة هذا الاحتجاج ليست إلا أصداء ثورة عارمة هبت في ساحات الأنثروبولوجيا على مصطلح «البدائية» ذاته، فاستخداماته المثقلة بالانحياز العنصري والتشويه الأيديولوجي تكاد تفرغه من المضمون العلمي، فهي «تحشر معا كل شعوب العالم ماضيها وحاضرها، فيما عدا تلك التي تشكل جزءا من المدنية الغربية وأسلافها القدماء!»
Bilinmeyen sayfa
18
وظهر الانشغال بمصطلح البدائية وتحديده وإعادة تعريفه، حتى اقترح البعض - عام 1948م - نبذه وإحلال مصطلح اللاكتابية
Non-Literal
محل البدائية.
إن هذه الثورة هي الطريق الذي شقته الأنثروبولوجيا نحو مرحلتها الأحدث الأكثر تحررا من التشويه الأيديولوجي، أي الأكثر موضوعية وعلمية. فتبعا لمنطق العلم تحرر العلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديا مع تنامي ونضج المنهج فيه، وأيضا سوف يواجهنا هذا النضج المتحرر من التشويه الأيديولوجي مرة أخرى حين نتعرض للعلم عبر الحضارات.
لقد كان بريل وزملاؤه التطوريون فلاسفة نظريين أكثر منهم علماء متخصصين، فلم يقوموا بأي بحث حقلي ميداني، واعتمد بريل على مادة سبق أن جمعها من قبل الرحالة والمبشرون. ومع نمو العلم وإلحاح المنهج العلمي التجريبي بات واضحا أنه إذا كان للأنثروبولوجيا أن تصبح علما متقدما فلا بد أن يجمع الأنثروبولوجيون الملاحظات بأنفسهم، وأصبحت مناهج الأنثروبولوجيا تفرق بين أساليب دارسي الحضارات الراهنة المعتمدة على الأثنوجرافيا والأثنولوجي «أي دراسة الأنماط والأنساق الثقافية»، وبين أساليب دارسي الحضارات الماضية والبائدة التي تعتمد على الأركيولوجيا «علم الآثار». والبحث عن الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم إنما هو - إلى حد كبير - مع هؤلاء «الذين تطورت مناهجهم لجمع المعطيات الأركيولوجية تطورا كبيرا»،
19
واستطاعت الكشوف الأركيولوجية أن تملأ كثيرا من الفجوات التي كانت تعيب معرفة الأنثروبولوجيين، فأسهمت بشكل فعال في القضاء على الفكرة التي سادت في القرن التاسع عشر عن تطور الحضارة خلال مراحل متمايزة ومستقلة، وبذلك «ظهرت الحضارة على أنها عملية مستمرة ومتصلة، وإذا كانت هناك فترات انتقالية للمظاهر الحضارية الكبرى، فإن هذه الفترات ليست حدودا فاصلة بين مراحل متمايزة كل التمايز بقدر ما هي حالات من التغير المتسارع التي تمهد لظهور حلقات حضارية جديدة ضمن تلك العملية الواحدة المتصلة، وأن الحلقات الجديدة إنما تقوم وتنبعث عن الأوضاع والأحوال التي سبقتها في الوجود»،
20
وعلى هذا يمكن النظر إلى تاريخ العلم كعملية متصلة بدأت ببداية الحضارة وتنتهي بقيام الساعة، تتباطأ حينا وتتسارع حينا.
Bilinmeyen sayfa
ومن الناحية الأخرى تطور علم الأنثروبولوجيا بالبحوث الميدانية الحقلية التي تعتمد على الاتصال المباشر بالثقافات البدائية وإدراك أنها ببساطة ثقافات إنسانية، فانزاحت النظرة إليها بوصفها رواسب أو بقايا مراحل منحطة وأدنى، ملغاة تماما بفضل التقدم الحضاري، ولم يعد متآلفا مع النظرة العلمية إلغاء الماضي أو نفي الآخر بناء على تقدم الحاضر ورقي الأنا، أو حتى الحكم عليه بأنه همجي وحشي، فلا بد وأنه يملك رصيده - وإن تواضع - من مبدئيات النظرة العلمية. لقد تدخلت النسبوية
Relativism
21
الثقافية التي تعطي لكل حضارة قيمتها بالنسبة لظروفها ولعصرها.
وفي حدوث هذا التقدم الجوهري للأنثروبولوجيا، والذي يضرب بسهمه في الطرح المتكامل لتاريخ العلم، يكون من الملائم تماما أن نختم الحديث بالوقوف مع الرائد العظيم، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنجليزي ذي الأصول البولندية برنسلو مالينوفسكي
B. Malinowski (1884-1942م)، فجهوده العلمية الرصينة ساهمت في دفع الأنثروبولوجيا وإرساء علميتها، بقدر ما ساهمت في إرساء دراسة الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم. ولا غرو، فقد بدأ مالينوفسكي حياته الجامعية بدراسة الرياضيات والفيزياء، وبعد أن أبلى فيهما اجتذبته العلوم الإنسانية.
إن مالينوفسكي رائد، نظريا وتطبيقيا، فهو رائد بارز من رواد النظرية البنائية الوظيفية
Structural Functionalism
في علم الاجتماع التي تدرس الحياة الاجتماعية أو الثقافية كبنية ذات علاقات متبادلة بين جوانبها أو مؤسساتها العديدة، كالجانب التربوي والدين والقيم والاقتصاد وأنساق المعرفة والقانون ونظم الثواب والعقاب ... إلخ، وكل جانب أو مؤسسة يدرس على أساس الوظيفة التي يؤديها. إن النظرة الوظيفية إلى كل مؤسسة تساهم في إماطة اللثام عن نسبوية الثقافات، مما يفتح الطريق أمام إزاحة العنصرية والتعالي الأوروبي وأمثال تلك التوجهات الآتية من التشويه الأيديولوجي.
وأيضا كان برنسلو مالينوفسكي رائدا تطبيقيا، أي رائدا للبحوث الميدانية أو الحقلية، وقد دفعها خطوات إلى الأمام، فمن أجل دراساته الأنثروبولوجية أقام أربع سنوات في جزر التروبرياند
Bilinmeyen sayfa
Trobriand
قرب أستراليا (من 1914م إلى 1918م)، وكان أول من أجرى بحوثه باللغة الأهلية للسكان. ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقا - عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك - تطبيقا للتعاليم التي أرساها مالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات.
في عام 1936م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان «السحر والعلم والدين» تعد في طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم.
بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليما بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقة الدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، كإنجازات عقلية جبارة لا تهدأ ولا تستكن أبدا، تصوب ذاتها وتتجاوز الوضع الراهن باستمرار، وتفتح دوما أفقا أعلى وأبعد في متوالية لتقدم يتسارع؛ ليمثل العلم الحديث العقل النقدي البناء في أبهى صوره، وأكثرها حسما وجزما وفعالية ... العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطع في المجتمعات البدائية، ولا حتى في الحضارات القديمة. بيد أن العلم بشكل عام هو أساسا نمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراض النظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، فتزيد من سيطرة الإنسان على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه. والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بد حاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيا. وإذا كنا نسلم بأن الدين والسحر كائنان وحاضران بقوة في المجتمعات البدائية، فلا بد وأن نضيف إليهما أيضا العلم.
ويسهب مالينوفسكي في إيضاح كيف أن هذه الدوائر الثلاث، السحر والعلم والدين، متمايزة تماما في العقلية البدائية، وغير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها، فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظة للطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
لقد اهتم السير إدوارد ب. تايلور
E. B. Tylor (1832-1917م) مؤسس علم الأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، واهتم جيمس فريزر بالسحر البدائي، ووضع ما يشبه موسوعة كبرى في هذا الصدد، وهي كتابه الشهير «الغصن الذهبي»، فضلا عن كتابه المترجم إلى العربية «الفولكلور في العهد القديم» الذي يعرض للأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحر والدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عن السحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختص بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معا في نفس العقلية في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر.
أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرة على الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذريا في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستند إلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعل السحر حكرا على طبقة معينة في المجتمع البدائي؛ هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلم البدائي، فلأنه علم ينبع من العقل البدائي وتصوبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيرا عميما متاحا للجميع، وليس حكرا على فئة ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن تمتهنه الكهنة في الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمنا بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ على صد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئة وهجوم أسراب الحيوانات الضارية ... لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أو زراعته أو طهوه للطعام ... إلخ ارتكانا على السحر فقط، ويؤكد مالينوفسكي بأن الإنسان البدائي سوف يستخف تماما بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدودا مصونة لأصوليات المعرفة العلمية في عقل الإنسان البدائي، وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقع دراساته لجزر التروبرياند.
وعلى هذا الأساس يرفض مالينوفسكي تماما رأي ليفي بريل الذي يقطع كل صلة بين الإنسان البدائي والعقلية البدائية، وبين العلم وأصوله المنطقية، ولكنه أيضا لا يأخذ بالرأي المناقض تماما من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكي ذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزر
Bilinmeyen sayfa