ومع هذا تألفت من هذا النور عناصر، وتألفت من هذه العناصر أجسام، وتألفت في هذه الأجسام ألوان وأشكال وأطوار وأحوال، هي هذه المادة أو هذه الهيولى التي قيل في المذاهب القديمة: إنها معدن الفساد المنحل، ونقيض الجوهر البسيط.
فإذا كان هذا حكمنا على بساطة المادة فمن أين لنا أن نحكم على بساطة الجوهر الإلهي حكما نجريه مجرى اللزوم لما ينبغي أن يكون عليه؟ ومن أين لنا أن نقول: إن الوجود الأبدي يفعل هذا ولا يفعل هذا، ويكون من المناقض له أن تنسب إليه هذه الصفة أو يحدث منه الخلق على هذا المثال؟
غاية الغايات أن نقول: إن الوجود الأبدي أكمل وجود، وإن أكمل وجود يخلق وجودا آخر دونه في الكمال، وإن الوجودين لا ينعزلان.
فإذا كانت كيفية ذلك تعزب عن أذهاننا فقد عزبت عن أذهاننا كيفيات ما نراه ونحده بالأبصار، فلا جرم تعزب عنا الكيفيات فيما يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
وهل من الكيفيات المفهومة أن نقول مثلا: إن الوجود الكامل لا يقدر على الإيجاد أو على منح الوجود؟ أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجود كله طبقة واحدة بين ما كان أزليا أبديا وبين ما كان ذا زمان؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول: إن الوجودين منعزلان لا علاقة بينهما بحال من الأحوال؟
أو هل من الكيفيات المفهومة أن نقول : إن هذه العلاقة تقف عند حد لا تتعداه كما قال أرسطو حين زعم أن الله حرك العالم ووقفت علاقته به بعد ذلك؟!
كل أولئك غير مفهوم في العقل ولا مفهوم في الإيمان.
ولكننا نفهم ولا نشك - دينا وعقلا - أن الوجود الكامل المطلق يصنع شيئا يقتضيه كماله، وأن الصانع من المصنوع، وأن المصنوع لا ينعزل عن الصانع، وإن أعيانا أن نحصر الصلة بينهما حصر الإحاطة والاستيعاب.
والأديان جميعا تؤمن بهذه العلاقة بين الخالق والمخلوق، ولكنها تفرق بين علاقة الخالق بالمخلوقات، وبين علاقة السبب المادي بالمسببات المادية، أو علاقة الحتم «الآلي» بين المقدمات والنتائج في القياس.
Bilinmeyen sayfa