ففي كتاب أشعيا يوصف الله بأنه جابل الإنسان، وينهى الإنسان عن مراجعته في قضائه؛ لأنه «خزف بين أخزاف الأرض، هل يقول الطين لجابله: ماذا تصنع؟ أو يقول: عملك ليس له يدان؟»
ولكن هذا الخزف يجبل ويعاد جبله ولا يستقر رأي الخزاف على حفظه أو تحطيمه، فيحطم بعد حفظ ويحفظ بعد تحطيم، وكذلك قال أرميا: «قم انزل إلى بيت الفخاري وهناك اسمع كلامي، فنزلت إلى بيت الفخاري وإذا هو يصنع عملا على الدولاب، ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري، فعاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عين الفخاري أن يصنعه، فعاد إلى كلام الرب قائلا: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، يقول الرب: هو ذا كالطين بين الفخار أنتم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم على الشر الذي قصدت أن أصنع بها، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي، فأندم على الخير الذي قلت: إني أحسن إليها به.» •••
وربما حسن لليهود أن يتشبثوا بفهم القدر الإلهي على هذه الصورة؛ لأنهم علقوا آمالهم كلها في الخلاص على «إله» يتحيز لهم، ويتحول من الغضب إلى الرضا؛ لإنقاذهم من سطوة أعدائهم، فأصروا على تصوير القدر لأنفسهم بهذه الصورة، على الرغم من تقدم العقيدة الإلهية في عهد الفلسفة وعهد الديانات السرية.
وقد أراحهم هذا الفهم من مشكلة القضاء والقدر عند أصحاب الديانات الأخرى؛ لأن المشكلة إنما تأتي من محاولة التوفيق بين إرادة إلهية، محيطة بكل شيء مقدرة لكل حساب، وبين فعل الإنسان للشر؛ طوعا لتلك الإرادة، فإذا آمن الإنسان بإله يمكن أن يقابله الإنسان بالطاعة والعصيان، ويمكن مع هذا أن يعدل عن العقاب إلى الثواب، وعن الثواب إلى العقاب، فلا مشكلة هناك ولا موجب من ثم لمحاولة التوفيق بين إحاطة القدر بكل كبيرة وصغيرة، وبين حرية الإنسان.
ولهذا سهل على رجل مثل يوسفيوس أن يقول: «إن الأمور كلها تجري بقدر مقدور، ولكنه لا ينتزع من الإنسان حريته في فعل ما يختار؛ لأن الله أيضا شاء أن يمزج بين القدر ومشيئة الإنسان؛ ليتاح له عمل الخير والشر كما يريد.»
وهذا بطبيعة الحال فحوى العقيدة الإسرائيلية من بدايتها الأولى، وهو غير المعنى الذي تصوره فيلون الفيلسوف الإسرائيلي الذي نشأ في الإسكندرية واقتبس عقيدته من الفلسفة وأسرار الديانة المصرية، فإنه يعترف بالشر في الوجود، ولكنه يرجع به إلى امتزاج الروح بالمادة، ومغالبة الحرية بضرورات الهيولى الجسدية، فهو ينقل المسألة من صورة الحاكم والمحكوم إلى صورة المبدأين المختلفين اللذين يقومان على اختلاف العقل والهيولى، ومهما يكن من تشابه بين الرأيين في النتيجة الظاهرة فالمصدر الذي يصدران عنه على أبعد ما يكون المصدران المتعارضان. •••
ثم بدأت الدعوة المسيحية في عصر فيلون ويوسفيوس، وذكر السيد المسيح الأرواح الشريرة التي تسكن جسد الإنسان، ولكنه لم يذكر قط شيئا يدل على أصول الشر التي وردت في الكتب الإسرائيلية الأولى.
وإنما فصلت العقائد القانون الإلهي والخطيئة الإنسانية والكفارة عن هذه الخطيئة على لسان «بولس» الرسول في عظاته ومحاوراته، ولا سيما رسالته المفصلة إلى أهل رومية.
ففي تلك الرسالة يقرر «بولس» الرسول أن أصل الشر في الإنسان هو عصيان آدم أمر ربه وأكله من الشجرة المحرمة، وأن الإنسان يعمل الشر؛ لوراثته هذه الخطيئة من أبيه، ولا كفارة لها غير الموت الذي يحل الجسد منها، ولكنه لا يحل الروح إلا بكفارة أخرى؛ هي كفارة السيد المسيح، فالذين يؤمنون بهذه الكفارة يستحقون الحياة الأبدية، ولكنه لا يقصر ذلك على اليهود أو بني إسرائيل، بل يعم أبناء آدم وحواء أجمعين، فكل وارث للخطيئة يشمله الخلاص بالنعمة الإلهية، وقضاء الله وحده هو الذي يفصل بين الأشرار والأخيار، وهو الذي يختار العباد للخلاص الأبدي أو للهلاك الدائم كما يشاء.
وقد عاد بولس في هذه الرسالة إلى مثل الخزف والخزاف؛ لينفي الظلم عن إرادة الله تعالى، فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلما؟ حاشا لله؛ لأنه يقول لموسى: أرحم من أرحم وأترأف على من أترأف، فإذن ليس الأمر لمن يشاء أو لمن يسعى، بل الله الذي يرحم ... ومن أنت أيها الإنسان حتى تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟ فماذا إن كان الله - وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته - احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد ... ليس من اليهود فقط، بل من الأمم أيضا كما يقول في هوشع أيضا: «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة.»
Bilinmeyen sayfa