Alman Felsefesi: Çok Kısa Bir Giriş
الفلسفة الألمانية: مقدمة قصيرة جدا
Türler
مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
1 - كانط والحداثة
2 - المنحى اللغوي
3 - المثالية الألمانية
4 - الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
5 - ماركس
6 - نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»
7 - الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر
8 - هايدجر
9 - النظرية النقدية
Bilinmeyen sayfa
المراجع
قراءات إضافية
مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
1 - كانط والحداثة
2 - المنحى اللغوي
3 - المثالية الألمانية
4 - الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
5 - ماركس
6 - نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»
7 - الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر
Bilinmeyen sayfa
8 - هايدجر
9 - النظرية النقدية
المراجع
قراءات إضافية
الفلسفة الألمانية
الفلسفة الألمانية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
أندرو بووي
ترجمة
Bilinmeyen sayfa
محمد عبد الرحمن سلامة
مراجعة
هبة عبد المولى
مقدمة: لماذا الفلسفة الألمانية؟
تشتهر الفلسفة الألمانية عن جدارة أحيانا بأنها مبهمة ونظرية إلى حد بعيد، وكثير منها غاب فعليا عن عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية في الفترة ما بين ثلاثينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ويرجع هذا الغياب في جزء منه إلى الارتياب في أن هناك تواطؤا بصورة أو بأخرى بين النازية والفلسفة الألمانية. ومؤخرا فحسب تجدد الاهتمام الحقيقي بشخصيات مثل جورج فيلهيلم وفريدريش هيجل ومارتن هايدجر في عالم الفلسفة الأنجلو- أمريكية. وترجع زيادة الاهتمام بالفلسفة الألمانية - على نحو لم يقتصر فقط على الفلسفة الأكاديمية - إلى شعور عام بالأزمة فيما يتعلق بتوجه العالم المعاصر. وترتبط هذه الأزمة بالعوامل الأساسية فيما يسمى غالبا «الحداثة». وتظهر الحداثة في مجتمعات مختلفة في أوقات مختلفة، لكنها بوجه عام تنطوي على ملامح معينة تميزها. وتميل المجتمعات السابقة على الحداثة إلى الاعتماد على صورة تقليدية للعالم ترتكز على علم اللاهوت. وعلى الرغم من أن تلك الصورة تنطوي على صراعات تؤدي أحيانا إلى العنف والتمزق المجتمعي، فهي لا تزال تشكل خلفية مستقرة إلى حد كبير لكيفية تجاوب الناس مع العالم. أما الحداثة، في المقابل، فتجبر الثقافات على مواجهة نتائج نشأة العلوم الطبيعية الحديثة وأشكال الإنتاج والتبادل الجديدة. وفي الغالب، فإن التهديد ليقينيات النظام القديم له تأثيرات صادمة تجعل الكثير من الناس يتمسكون بمفاهيم هذا النظام الجامدة، فهم يعارضون التغيرات التي ينطوي عليها النظام الجديد حتى وهم يستعملون كثيرا مما تأتي به تلك التغيرات. ولا تتأكد إمكانية الانتقال إلى نظام جديد أكثر استقرارا إلا بعد وقوع أحداث كارثية تجعل من هذا الانتقال ضرورة لا مفر منها.
قد تنطبق بعض جوانب هذه القصة على بعض أوجه ازدواجية مشاعر العالم الإسلامي المعاصر تجاه الثقافة الغربية الحديثة. إلا أن المنحى المأساوي غالبا للتاريخ الألماني بدءا من القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وأخيرا سقوط جدار برلين عام 1989 ربما يكون النموذج الأكثر وضوحا لكيفية حدوث التحول إلى الحداثة. وفيما يتعلق بهذا التحول، فإن الفلسفة الألمانية تفهم على وجهين؛ فهي مؤشر مشكل للتاريخ الألماني، وهي أيضا مصدر حيوي لمحاولة معرفة الكيفية التي يمكن للمرء بها أن يتقبل عالما فيه - على حد تعبير كارل ماركس في كتابه «بيان الحزب الشيوعي» عام 1848 - «كل راسخ وصلب يتبخر في الهواء، وكل مقدس يستباح، وفي النهاية يجبر البشر على مواجهة ظروفهم في الحياة وعلاقاتهم بعضهم ببعض في تجرد وحيادية.» ومن ثم، يمكن أن تكون لطبيعة الفلسفة الألمانية المزدوجة قيمتها في معالجة الأزمات في العالم المعاصر. ويتضح من الأحداث الأخيرة أن الحاجة إلى الدين لم تختف في كثير من الأوساط، على الرغم من أن العلم قد قوض كثيرا من الأفكار التي حافظت على الدين على نحو تقليدي، كما قوضت النزعة الاستهلاكية على نحو متزايد العديد من القيم الدينية للمجتمعات التقليدية. وعليه، فإن الصراع بين الاحتياجات التي لباها الدين سابقا والآثار الاجتماعية للعلم الحديث والرأسمالية الحديثة هو مفتاح كثير من مبادئ الفلسفة الألمانية.
ربما يظن أولئك الذين اعتادوا على اختصاصات «الفلسفة التحليلية» الأنجلو- أمريكية أن تلك المزاعم غير ذات صلة باهتماماتهم. لكن الفلسفة التحليلية - كما يوحي اسمها - تجسيد للحداثة. وأحد مصادر نجاح العلوم الطبيعية الحديثة هو التركيز على تحليل الموضوعات إلى عناصرها المكونة، وصياغة القوانين التي تحكم تلك العناصر. وعلى هذا النحو نفسه، بدأ نهج تحليلي في الفلسفة يسعى إلى عزل عناصر اللغة عن طريق تجريدها من علاقاتها بالظواهر الأخرى ومحاولة إرساء قواعد عامة تحكمها. وكان الهدف هو وضع نظرية للحقيقة والمعنى تقوم على بيان كيفية اتصال الكلمات والجمل بأجزاء الواقع التي تشير إليها. ومن ثم، تعين اشتقاق وصف عام لآلية عمل اللغة من تحليل عناصرها الخاصة. وكان الهدف هو حل كثير من المشكلات التقليدية للفلسفة عن طريق توضيح كيف أن هذه المشكلات كانت نتيجة انعدام الكفاية المنطقية لأشكال اللغة اليومية.
يعتقد الآن على نطاق واسع أن هذا النهج لن يتمكن من تحقيق غايته؛ فلا يمكن افتراض أن المعنى قابل للتحليل تماما على نحو تجزيئي، وفكرة اللغة المنقاة منطقيا تعتمد دوما على فهم سابق للغات طبيعية «غير منقاة». فالطرق التي تتصل بها عناصر اللغة بعضها مع بعضها والممارسات غير اللغوية والمعرفة العامة غير المتأصلة في عناصر اللغة عوامل أساسية في تفسير المعنى. ومن ثم، يتحول تركيز الفلسفة من تركيز على كيف «تمثل» اللغة الأشياء إلى تركيز على كل الطرق التي «تعبر» أو «تبين» اللغة بها كيفية اتصالنا بالعالم. ويمكن أن يتراوح هذا التركيز الأخير بين عبارات موضوعية عما نعرفه وتعبيرات عن وجودنا في أشكال لفظية وغير لفظية، مثل الموسيقى أو الرسم. وقد شكل هذا المفهوم «الشمولي» جزءا من الفلسفة الألمانية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ووفقا للموروث الألماني، فإنه يمكن التماس كثير من البدائل الرئيسية للمنهج التحليلي للفلسفة. فالتضاد بين المفهومين التحليلي والشمولي يتعلق أيضا بمواقف ثقافية متضادة؛ فبينما يميل توجه الموروث التحليلي في الغالب نحو العلوم الطبيعية، يعلق الموروث الألماني أهمية كبيرة على الفن والقضايا الجمالية.
ويوحي هذا التضاد بصراع حام داخل الفلسفة الحديثة، ويمكن تمييز الصراع بطرق متعددة؛ كالصراع بين «التفسير» و«الفهم»، أو «الوضعية» و«الرومانسية»، أو «ثقافتي» العلوم والإنسانيات. فكيف نتعامل - كما يتوجب علينا في كثير من المواقف - مع الصدامات التي تظهر بين الطريقة التي يخبرنا بها العلم عن كينونة العالم، والطرق الأخرى التي يفسر الناس بها عالمهم ويشعرون به؟ تبدأ الفلسفة الألمانية فعليا عندما يخالج الشك فكرة أن البشر «على معرفة» في عالم إمكانية فهمه مكفولة من قبل الإله. ومن توابع هذا التغير أن الطرق المتنافسة لتفسير العالم تصبح على ما يبدو غير قابلة للتوفيق فيما بينها؛ مما يؤدي إلى ظهور الصراعات المميزة تحديدا للحداثة.
ولم يختف هذا الخلاف، كما سيتضح مما يلي. ففي الثلاثين عاما الأخيرة، أو نحو ذلك، شهدت دراسة الإنسانيات ظهور عدد متنام من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة. وشاع هذا الاستنطاق جزئيا بسبب أن الافتراضات محدودة النطاق ذات النزعة العرقية التي اعتمد عليها كثيرا في الحكم على الثقافة في العالم الغربي قد تزعزعت نتيجة تأثيرات العولمة وانحسار الاستعمار. والوعي بأن الثقافة ترتبط دوما بآليات عمل القوة، وبأن ما يعتقد أنه حقيقي يتأثر إلى حد بعيد بالظرف التاريخي، يعني أن فهم الثقافة يتطلب تأملا مستنيرا من الناحية النظرية. ومع ذلك، لم تنزع المناهج النظرية التي غيرت الإنسانيات بطرق مثيرة للجدل - وأشهرها: البنيوية، وما بعد البنيوية، ونظرية النوع الاجتماعي، والنظرية النقدية، والهرمنيوطيقا، والتحليل النفسي - إلى تضمين الفلسفة التحليلية. وما ينسى أو يغض الطرف عنه أحيانا أن أكثر هذه المناهج النظرية - المرتبطة غالبا بالمنظرين الفرنسيين أمثال: جاك دريدا وميشيل فوكو وآخرين - تعتمد على أعلام الفلسفة الألمانية وأشهرهم: هيجل ونيتشه وهايدجر. والآن، فإن أفكار أعلام الفلسفة الألمانية هؤلاء على وجه الخصوص هي التي يستعان بها أيضا للرد على بعض فرضيات الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية؛ ومن ثم يوفر الاهتمام بالفلسفة الألمانية فرصا لحدوث تفاعلات جديدة بين المناهج المتعارضة سابقا.
Bilinmeyen sayfa
ومع ذلك، فإن الغاية الأساسية هنا هي استكشاف ما تخبرنا به الفلسفة الألمانية عن بعض المشكلات الكبرى للحداثة. وينبغي أن يسهل هذا النهج على القراء الالتفات إلى النصوص الكبرى المعترف بصعوبتها للفلسفة الألمانية، التي لا تزال مهمة للغاية لوضع المصطلحات التي يمكن بها فهم العالم الحديث. للمزيد من الوصف التفصيلي للحجج الفلسفية، يمكنك الرجوع إلى كتابي «مقدمة إلى الفلسفة الألمانية من كانط إلى هابرماس» (كامبريدج: بوليتي، 2003).
الفصل الأول
كانط والحداثة
أهمية كانط وإسهاماته
من يقرأ أعمال إيمانويل كانط (1724-1804) يواجه بوابل من المصطلحات التقنية، مثل: «الأحكام التركيبية القبلية » و«وحدة الإدراك المتعالي». كيف يتوصل المرء من محاولة فهم هذه المصطلحات إلى دور كانط المحوري في أي وصف يتعلق بكيفية تغير الفلسفة في العالم الحديث، والكيفية التي يمكن بها للفلسفة تغيير هذا العالم؟ ولكي يدرك المرء هذا الدور، عليه أن يفهم فلسفة كانط على أنها جزء من الصورة التاريخية الكبرى التي هي بمنزلة تعبير عنها. وحتى إذا كنا غير موقنين بصحة أفكاره أو معناها، فلا يزال يمكننا قراءة عمله باعتباره استجابة للتغيرات الجذرية التي شهدها العالم في عصره. وقد أصبح الصراع الضمني هنا - بين فكرة أننا ينبغي أن نرسي الحقيقة بشأن فلسفة كانط، وفكرة أننا ينبغي أن نفهم كانط على أنه تعبير عن عصره - في حد ذاته قضية في الفترة التي كان كانط يكتب فيها. والسبب في ذلك أن تركيزا فلسفيا جديدا على كيفية تأثير الممارسات البشرية على الطرق التي يفهم بها العالم قد شكك في الافتراض القائل: إن للأشياء جوهرا عقلانيا أبديا. وقد تأثر التركيز الجديد بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية السريعة في الفترة من النصف الثاني من القرن الثامن عشر فما يليها في أوروبا، وأثر عليها أيضا.
إن علاقة كانط بهذه التحولات ليست مباشرة - فقد قضى معظم حياته بعيدا عن مركز الأحداث في كونجسبرج في شرق بروسيا - لكنها لا شك تركت أثرها على عمله. وإذا لم يكن لتأملاته عن الحرية، على سبيل المثال، دخل بالثورة الفرنسية لكان من الصعب أن نعرف كيف نفكر فيها بطريقة مادية على أية حال. ومع ذلك، فالأحكام على تلك التأملات ينبغي ألا تعتمد على السياقات التي ظهرت فيها فحسب؛ وهذا معناه أن الفلسفة تبدو منطوية على مطالب متناقضة، إلا أننا ينبغي ألا نحاول بالضرورة استبعاد تلك التناقضات الفلسفية؛ لأنها يمكن أن تكون تعبيرا عن الصراعات الموجودة في الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي لا يمكن للفلسفة نفسها حلها. وفي سعي كانط لحل بعض أهم المعضلات الفلسفية لعصره، فإنه يتجاوز بنا تلك المعضلات إلى مشكلات العالم الحديث الأشمل.
السياق الفلسفي
إن المواقف التي يرد عليها كانط هي نفسها تعبيرات عن عوامل تاريخية محورية للحداثة، ف «عقلانية» جوتفريد لايبنتز (1646-1716) وباروخ إسبينوزا (1632-1677)، التي حملها كريستيان فولف (1679-1754) وآخرون إلى عهد كانط، تفترض أن النجاح الجديد للعلم الطبيعي المرتكز على أساس رياضي يقوم على تركيبات متأصلة في الطبيعة. ولأن الرياضيات تتألف من حقائق ضرورية لا يمكن تغييرها بالدليل التجريبي، فمن الممكن أن تكون لها منزلة تأسيسية يفتقر إليها أي شكل آخر من أشكال المعرفة. كما أن منزلتها المطلقة تربطها على ما يبدو بعلم اللاهوت، فالمعرفة التجريبية عرضة للخطأ بالضرورة؛ لذا يمكن النظر إلى عصمة الرياضيات عن الخطأ على أنها امتلاك لمصدر يفوق البشر. لكن العلوم الحديثة - كما أشار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) - تعتمد أيضا على اهتمام جديد ودقيق بالمعطيات التجريبية، وهذه المعطيات تؤخذ من الإدراكات الإنسانية؛ ومن ثم ليست لها حتمية الرياضيات. وقد تمثل أثر دعاوى هيوم على كانط في إيقاظه من إيمانه «الدوجماتي» بفكرة النظام الكوني المضمن؛ ف «الدوجماتية» بالنسبة لكانط هي الإيمان بالمبادئ الميتافيزيقية الأساسية التي لا تخضع للبحث النقدي، وهو اعتقاد قائم في الفلسفة منذ أفلاطون على الأقل. أما بالنسبة لهيوم، فلا يمكن أن يقال إن مبدأ السببية مضمن في الكون؛ لأن جميع الأدلة على الحتمية السببية تستقى من إدراكنا للزوم شيء عن آخر. ومن ثم، فأي يقين ظاهر تولده العلوم الجديدة مصحوب بشك حول ما يضفي الشرعية على ذلك اليقين. ويحتمل أن تكون تداعيات وجهة نظر هيوم بالنسبة للدين كارثية؛ فنظام الأشياء الآن يعتمد على ما يدركه البشر كأفراد، وليس على السلطة الإلهية.
شكل : إيمانويل كانط، عام 1790 تقريبا.
1
Bilinmeyen sayfa
يسعى كانط إلى إيجاد حل للصدام بين العقلانية والتجريبية عن طريق إعادة التفكير في العلاقة بين الحتمية الرياضية والإدراكات المحتملة. ومع ذلك، لا ينصب اهتمامه فقط على نظرية المعرفة؛ فأول أعماله الكبرى «نقد العقل المحض» (1781، الطبعة الثانية 1787) يجعل الحرية شيئا محوريا، الأمر الذي سيوضحه بالتفصيل بعد ذلك في «النقد الثاني»؛ أعني: «نقد العقل العملي» (1788) (وفي كتابه «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» (1785)). وفي عام 1790، نشر كانط «النقد الثالث» له؛ ألا وهو «نقد الحكم» (1790)، الذي يعالج قضية علم الغائية (فكرة وجود تخطيط أو قصد في الطبيعة) والجمال الطبيعي والفني.
كيف إذن تتصل القضايا المختلفة التي يتصدى لها كانط بعضها ببعض؟ يميل العلم الحديث إلى التحول لمحمية من فروع معرفية آخذة في التخصص، ومن توابع هذا الأمر أن تحليل الطبيعة إلى مكونات معينة يمكن أن يحدث شعورا بالتفكك. وقد افترضت الفلسفة وعلم اللاهوت في السابق وحدة ضمنية في تنوع الظواهر الطبيعية، وقد حول هيوم مصدر هذه الوحدة إلى مسألة فلسفية كبرى؛ ومن ثم يحاول كانط تأسيس أشكال جديدة من الوحدة لتحل محل تلك الأشكال التي لم يعد بقاؤها ممكنا. ومع ذلك، فهو لم يكن مهتما فقط بالمعرفة العلمية، بل أيضا بالأساس الأخلاقي للمجتمع وبالعلاقات مع الطبيعة التي لا يمكن للقوانين العلمية تفسيرها. ويمكن النظر إلى الانتقادات الثلاثة على أنها تعبيرات عن الطريقة التي تصير بها مجالات العلم والقانون والأخلاق والفن أكثر انفصالا عن بعضها البعض في الحقبة الحديثة، مع أن علاقاتها ببعض قد أصبحت أحد الاهتمامات الحيوية.
المثالية المتعالية
كانت «المثالية» في زمن كانط مرتبطة بفكرة الأسقف بيركلي عن أن «الوجود إدراك»: إذا لم يدرك الشيء فكيف لنا أن نؤكد أنه موجود من الأساس؟ لكن كانط يصر على أن مثاليته «المتعالية» هي في الواقع نوع من «الواقعية»؛ لأنها تفترض أن الأشياء توجد بصرف النظر عن إدراكنا لها، ولذلك ربما يبدو معنيا بمواقف متناقضة أو متعارضة. وهذا الانطباع تعززه حقيقة أن غاية المثالية المتعالية هي إعطاء أساس «للموضوعية» بلغة «الذاتية»، فالحتميات الموضوعية لقوانين الطبيعة تعتمد على «شروط إمكان» ذاتية للمعرفة، هذه الشروط هي ما يعنيه الجانب «المتعالي» من نظرية المعرفة الخاصة به. فالشروط ذاتية؛ لأنها نتاج تفكيرنا، لكنها يجب أن تنطوي على الحتمية، لا أن تكون اعتباطية على غرار الآراء الذاتية. ومن ثم، يريد كانط أن يشرح كيف تعتمد المعرفة على أثر العالم علينا وعلى الطرق التي ينظم بها العقل ذلك الأثر، مستشهدا في ذلك بقوانين الحركة لنيوتن.
إن المشكلة الأساسية أن ما ينتمي إلى الجانب الذاتي وما ينتمي إلى الجانب الموضوعي للمعرفة كان إحدى القضايا الأكثر جدلا في الفلسفة الحديثة، ولا يزال كذلك. فبعض الفلاسفة هذه الأيام يظنون، على سبيل المثال، أن العقل هو جهاز يشغل البرنامج اللازم للتفكير، حتى إنه يمكن أيضا إنشاء مثيل للبرنامج بواسطة آليات الكمبيوتر؛ وبذلك يمكن للجانب الذاتي للمعرفة أن يفسر بطريقة سببية. وعلى الجانب الآخر، يوحي «القصد» - الذي يعني أن التفكير يكون «في» أشياء بعينها - بأن الشيء الذي يدرك عالما من الموضوعات لا يمكن أن يكون هو نفسه موضوعا كالموضوعات التي يدركها، وهذا أمر فاصل بالنسبة لكانط. فالجانب القصدي يسمح لنا بإنتاج أحكام مختلفة عن شيء ما، الأمر الذي قد «ينظر إليه باعتباره» عددا ربما لا نهائيا من الأشياء. ومهما تكن حقيقة الحجج الفلسفية هنا، فإن المواقف المتخذة فيما يتعلق بها تؤثر على طريقة تفكير البشر في أنفسهم.
فلماذا إذن سيق كانط إلى مذهب المثالية المتعالية من الأساس؟ السبب مضمن في قولته المأثورة: إن «الأفكار دون مضمون فارغة، والأحداس دون تصورات عمياء»، فالأولى هي الأفكار («الدوجماتية») كتلك المتعلقة بطبيعة الإله القائمة على مجرد تصورات استخدمت للحديث عن الإله مثل «الوجود الحتمي» و«الكمال» وما إلى ذلك. «والأحداس» - وهي بالألمانية
Anschauungen
المشتقة من
anschauen
بمعنى «ينظر إلى» - هي مادة إدراكاتنا التي يمكن استخدامها كدليل تسويغي. ودون طرق لتنظيم الدليل عن طريق التعريف به بلغة التصورات سيواجه المرء تفاصيل فوضوية لا نهائية؛ فما ندركه يختلف دوما من لحظة إلى لحظة في جانب ما مهما يكن ضئيلا، ولا يوجد موضوعان متطابقان على نحو قاطع. وعلى الرغم من أن كانط يريد الاحتفاظ بما يقترحه منفصلا عن علم النفس، فإن الأبحاث النفسية في الإدراك تثبت أن ما نراه يتشكل من خلال تراكيب تصورية نمتلكها بالفعل. وعلى الرغم من المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين معطيات الإدراك وتفكيرنا، فإن كانط لا يشك في أن المعرفة العلمية ممكنة؛ ولذا فالمهمة هي الوقوف على ما يجعلها ممكنة. إن التماثل ليس بالأمر الوارد في عالم المعطيات الإدراكية، الذي لا يمكن أبدا إظهاره على أنه متطابق تماما ويقع في أماكن وأوقات محددة؛ ومن ثم فالمثالية المتعالية تزعم أنه يجب أن توجد قواعد عقلية لإدراك العالم، بحيث يتعين أن تسير الموضوعات وفقا لطرق تفكيرنا لا العكس. وقد رأى كانط هذا التغير في المنظور باعتباره «تحولا كوبرنيكيا»؛ مماثلا لما فعله كوبرنيكوس عندما قلب علم الكونيات البطلمي رأسا على عقب وقال: إن الأرض ليست مركز الكون.
Bilinmeyen sayfa
ويسمي كانط القواعد العامة لفهم الموضوعات «مقولات»، وهو مصطلح أخذه عن أرسطو الذي نظر إلى المقولات باعتبارها تحدد الطرق التي يمكن أن يعبر بها عن الأشياء. وبالنسبة لكانط تحدد المقولات «تصورات أي موضوع بوجه عام»، الأمر الذي لا يمكن استمداده من النظر إلى العالم. ومقولات الوحدانية والتعددية هي أساس ما يصطلح كانط على تسميته «الأحكام التركيبية القبلية»، وهذه هي الأحكام الرياضية التي كان يظن من قبل أنها بديهية، لكن يرى كانط أنها تثبت كيف استطاع العقل أن ينمي معرفته عن طريق التفكير المحض. فالعدد 4 لا يمكن تعريفه مثلا على أنه 2 + 2 فقط؛ لأنه يمكن أيضا أن يكون مركبا من 3 + 1 و4 + 0 ومجموعات أخرى لا نهائية، من قبيل 3,3333 + 0,6667، وكلها يمكن أن تزيد معرفتنا بالعدد 4. (ومن القضايا التي لا تزال محل نزاع حقيقة ما إذا كان يجب التفكير في هذه التراكيب على أنها بالفعل «مضمنة في» 4، حتى إذا لم نكن نحسبها.) وتقدم مقولة السببية أفضل طريقة لفهم حجته بشكل عام؛ فإذا كنت أظن أن شيئا علة شيء آخر، فسوف أحكم بأن الحدث (ب) يتبع بالضرورة الحدث (أ)، وما أدركه أنا هو (أ) ثم (ب): والتفكير فيهما على أنهما مرتبطان بطريقة سببية يتطلب أكثر من تعاقب حدث على آخر؛ فهو يتطلب كلا من مقولة السببية والقدرة على الحكم بأن ارتباط الحدث (ب) مع الحدث (أ) السابق عليه ارتباط ضروري. ويركب الحكم على نحو فاعل الأجزاء المختلفة للتجربة الإدراكية في علاقة بعضها مع بعض. ويرى كانط الأحكام على أنها «تلقائية»: بمعنى أنها - خلافا لكل شيء في عالم الطبيعة - ليست مسببة عن شيء آخر . والأحكام تقتضي منا اتخاذ موقف بشأن إن كان شيء ما هو الواقع القائم أم لا؛ فمادة الإدراك تعطيها لنا «القابلية السلبية للتلقي»، والمعرفة تنتج من التطبيق الفاعل للمقولات والتصورات على تلك المادة. ولعل كانط بطريقة مذهلة (ومحل تساؤل) يصر على أن المكان والزمان هما إطار يقدمه تفكيرنا، وليسا خاصيتين للعالم الموضوعي؛ وهذا لأننا إنما ندرك الأشياء في مكان وزمان محددين، حيث لا توجد طريقة لإدراك الأشياء «كلها دفعة واحدة». والحاجة إلى التركيب تأتي بسبب أن التجربة تقع داخل هذا الإطار المحدد، وعلى التفكير أن يربط اللحظات المختلفة للتجربة ليجعلها مفهومة.
الذات الحديثة
يعتمد البناء الكامل لتوصيف كانط للمعرفة على ما يسميه «الوحدة التركيبية للإدراك الواعي». و«الإدراك الواعي» هو القدرة على تأمل المرء في أحكامه: بمعنى أنني يمكنني أن أدرك عن وعي بعد ظهيرة اليوم حقيقة أنني فكرت هذا الصباح في أيام عطلتي؛ ومن ثم فقد كنت حتما موجودا في لحظة التفكير بشأن أيام عطلتي، وفي لحظة التفكير بشأن التفكير فيها. وهذا التتابع «التركيبي» لذاتي هو أساس الذاكرة. ودون وجود ما يربط لحظات التجربة - والذي يجب من وجهة النظر المنطقية أن يكون هو الشيء نفسه في كلتا اللحظتين - لن توجد طريقة لجمع ما هو مختلف معا؛ ومن ثم يقول كانط إنه «يجب أن تكون «أنا أفكر» قادرة على مصاحبة جميع تمثيلاتي.» ولكن الشق المنطقي يمكن أن ينطوي على شيء أكثر تأكيدا؛ ففكرة العالم المتسق الآن تبدو هي نفسها معتمدة على وحدة الذات، ومن ثم يمكن التفكير في هذه الوحدة بطريقتين: الأولى تتضمن فقط الشق المنطقي المبين توا، أما في الثانية فيمكن تضخيم الوحدة إلى فكرة النفس باعتبارها «النور» الذي يجعل العالم مفهوما. وستحظى هذه الحالة الازدواجية للنفس بأهمية بالغة في الفلسفة الألمانية اللاحقة.
تنطوي الحداثة على زيادة هائلة في قدرة الإنسان على تحصيل المعرفة والسيطرة على الطبيعة، وإذا كان أساس هذه القدرة هو حقا فاعلية الذات، فمن الممكن إذن ربط المشكلات التي تجلبها التغيرات العلمية والتقنية بالتفسيرات المختلفة للذاتية. ولأن الذات متناهية وفانية، فإنها تعتمد بطبيعتها على كونها كائنا طبيعيا، ويمكنها أيضا في الوقت نفسه الهيمنة أكثر فأكثر على الطبيعة الخارجية والداخلية، وربما تؤدي الهيمنة على الطبيعة عندئذ إلى محاولات كارثية للتغلب على اعتماد الذات على الطبيعة. وعلاوة على ذلك، فإن الذات تبدو في الوقت نفسه جزءا من الطبيعة الفيزيائية، ولكنها أيضا ليست جزءا من الطبيعة؛ لأنها تتمتع بحرية أخلاقية في مقاومة دوافع طبيعية. ويتصدى كانط للإشكاليات التي تنشأ من هذا الوضع الثنائي؛ ومن ثم يمكن أن تقرأ الطرق المتناقضة التي فسرت بها أقوال كانط على أنها تعبيرات عن الطبيعة المنقسمة لرؤية البشر لأنفسهم في الحداثة.
الأشياء في ذواتها
إن الانقسامات في الوجود البشري الحديث هي العنصر الأكثر تجليا في تأملات كانط عن الحرية، وتعتمد هذه الانقسامات على تمييزه بين الكيفية التي يظهر بها العالم وكينونة العالم «في ذاته»، وبين العالم باعتباره «ظاهرة» والعالم باعتباره «شيئا في ذاته»؛ فكل شيء في العالم الظاهر خاضع للقوانين الحتمية، بما في ذلك عقولنا وسائر أجسادنا. وفي الوقت نفسه، عندما نقاوم نزغات غرائزنا التي يمكن تفسيرها على نحو سببي، فنحن نتصرف وفق «سببية نابعة من الحرية»؛ فنحن نمنع أنفسنا من فعل شيء لأننا نظن أنه خطأ. وينعكس الجانب غير المعقول من رؤية كانط في حقيقة أن تلك القرارات لا تقع في مكان وزمان؛ لأن كل شيء يقع خاضع للقوانين الحتمية. أما الجانب المعقول في هذه الرؤية، فإنه ينعكس في حقيقة أن المجتمعات تحمل أفرادها مسئولية ما يفعلون، ما لم يتأت إظهار أنهم أكرهوا على فعله من خلال قوى خارجة عن نطاق سيطرتهم.
ويرانا كانط أحرارا «في ذواتنا»، لكن وفقا للكيفية التي تحددنا بها القوانين الطبيعية على أننا موضوعات ظاهرة في الطبيعة. ومع ذلك، فمعنى «الشيء في ذاته» مشاع عنه الغموض؛ فلا يمكننا أن ندرك كل ما يتعلق بموضوع ما دفعة واحدة، ولذا ربما يعني إجمالي أوجه الموضوع، ولكنه يمكن أيضا أن يعني أن الطبيعة الحقيقية للأشياء مخفية في جوهرها؛ لأننا إنما نصل إلى الأشياء «بالنسبة إلينا». ويوحي هذا الغموض بشعور حديث بعدم الارتياح بشأن مكان الجنس البشري في الطبيعة. وربما يمكن للمعرفة البشرية الوصول إلى الطبيعة بصورة احتمالية - إن لم تكن فعلية - في جميع جوانبها، إلا أنه يحتمل أيضا أن المعرفة العلمية تحجب أو تحدث طرقا نخفق بها في فهم الطبيعة. وتوجد مجموعة من أهم العلاقات الإنسانية بالطبيعة لا تعتمد على معرفة القوانين السببية، ولكن ربما تكون لها صلة - على سبيل المثال - بالكيفية التي يمكن بها للطبيعة أن تكون مصدرا للتجديد الروحي، أو أن تكون شيئا يصان ضد صروف التكنولوجيا وسلبياتها. ويرجع السبب في نشأة هذه الأفكار إلى أن ثمة علاقة فيما يبدو بين حرية الإنسان والشعور بجانب لا يمكن معرفته من الطبيعة: فلا الحرية ولا الطبيعة في ذاتها جزء من عالم الظواهر.
العقل والحرية
يدرك كانط أن المرء لا يمكنه ببساطة أن يستبعد القضايا التي تثيرها «الميتافيزيقا»؛ أي وضع صورة عامة عن الكيفية التي يتشكل بها العالم. ومهمة «العقل»، في مقابل مهمة «الفهم» المعرفي، هي إرساء مبادئ تجعل أفكارنا مترابطة. واكتشاف المزيد دوما من القوانين الجديدة للطبيعة لا يخبرنا عن ماهية ارتباط هذه القوانين بعضها ببعض؛ ولأجل ذلك يحتاج المرء إلى «فكرة» أن جميع الظواهر الطبيعية محكومة بقوانين وتؤلف نظاما كليا، وهو ليس بالأمر الذي يمكننا التأكد منه. وللأفكار مكانة تنظيمية؛ فنحن نحتاج إليها لترتيب الأفكار عن الأشياء بوجه عام، لكن ما تزعمه ليس «جوهريا»؛ لأن ذلك سيتضمن زعما من النوع الذي يرفضه كانط باعتباره «دوجماتيا». ومن ثم، فجميع التساؤلات المتعلقة بالطبيعة المطلقة للأشياء تصبح مستعصية الإجابة، لكن هذا - كما يصر كانط نفسه - لا يتخلص من الدافع لطرحها.
في النقد الأول، يثبت كانط - الذي كان هو نفسه مؤمنا - على نحو هادم أن البراهين الفلسفية على وجود الإله غير صحيحة؛ ومن ثم فالدين يجب أن يكون مسألة إيمان لا معرفة. فأين يدع ذلك الأسئلة «الكبيرة» عن معنى الحياة؟ ترجع صرامة بعض ما توجب على كانط أن يقدمه هنا إلى القيود التي لاحظناها، ويعد النقد الثاني وكتاب «أساس ميتافيزيقا الأخلاق» محاولتين لإعطاء أساس للأخلاق دون الاحتكام إلى السلطة الإلهية. وليس بالضرورة أن يكون الاعتقاد الذي لا يزال شائعا بأن الأخلاق تحتاج أساسا مطلقا من النوع الذي يقدمه علم اللاهوت؛ مقنعا. ولعل كل ما يحتاج إليه المرء من دافع للتصرف بأخلاقية هو إدراك أن الآخرين يمكن أن يعانوا مثلما يعاني. ورغم ذلك، يظل كانط مهتما بإعطاء تبرير حاسم للمعايير التي يستخدمها المرء للحكم على ما ينبغي أن يفعله؛ لأسباب أهمها أنه يرى ضرورة الحصول على طرق لتبرير العقوبات القانونية على الذين لا يطيعون أمر التصرف على نحو أخلاقي. والشيء المذهل فيما يقترحه هو أنه لا ينطوي على وصايا أخلاقية ملموسة.
Bilinmeyen sayfa
من المعروف عن كانط أنه يرى أن «الإرادة الخيرة» وحدها يمكن اعتبارها خيرا دون قيد؛ فأي شيء نعتبره خيرا في العالم التجريبي يمكن في ظروف أخرى أن يتحول إلى شر، أما الإرادة فتقع خارج الطبيعة، حيث كل شيء مسبب عن شيء وسبب لشيء آخر. ومع ذلك، فخيرية الإرادة الخيرة لا تعطي أي توجيه فيما يتعلق بما ينبغي في الواقع أن نفعله، وما نفعله يعتمد على «أوامر»، فإذا كنا نرغب في تحقيق هدف، فعلينا أن ننشد الوسائل لتحقيق ذلك الهدف، وهذا يقتضي أوامر «افتراضية»، لكن هذه ليس لها مضمون أخلاقي بالضرورة؛ لأنها يمكن أن تتضمن إرادة الوسيلة لقتل شخص ما. وتعتمد الأخلاق بدلا من ذلك على «الأمر المطلق»: «علي ألا أتصرف إلا على النحو الذي يمكنني أيضا أن أريد به لمبدئي أن يصير قانونا عالميا.» لا يملي كانط على المرء ما ينبغي أن يكون عليه مبدأ تصرفه، وهذا هو صلب الموضوع؛ فعلى الأفراد أن يقرروا أساس تصرفاتهم، لا أن يتركوها تفرض عليهم، وإلا فهم فاقدون لما يميز ما نفعله عما يحدث في عالم الطبيعة. والاستقلال الذاتي لا يكمن في قدرة المرء على فعل ما يشتهي (ومن ثم يكون عبدا لشهواته كما رأى روسو)؛ بل في القدرة على التصرف حسب المبادئ المختارة على افتراض أننا ينبغي ألا نمنح أنفسنا ما لا نمنحه للآخرين.
إن استراتيجية كانط هي الإشارة إلى الطرق التي نقر من خلالها بإنسانيتنا المشتركة، مثل مشاركة القدرة على ضبط النفس وفق مبادئ لا تمليها المصلحة الشخصية. وربما يبدو هذا ساذجا: فكيف نعرف ما إذا كنا في الحقيقة نتصرف على نحو مستقل أم لا، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى قدرتنا على خداع النفس؟ يوافق كانط على أننا لا يمكننا معرفة هذا، وكل ما يمكن الاحتكام إليه هو شعور بأن لدينا «فكرة غرض آخر أكثر قيمة للوجود» مما تحكمه السببية الطبيعية. وهذه الفكرة يمكن أن تقودنا إلى إدراك أن الكائنات العاقلة الأخرى ينبغي ألا تكون مجرد وسيلة لغاياتنا؛ فالكائنات العاقلة لديها قيمة أصيلة، وهي «الكرامة»، والتي هي أمر لا يقدر ب «ثمن»؛ لأنها غير قابلة للمبادلة بشيء آخر.
إن احتكام كانط لإنسانية مشتركة يبدو ساذجا في ضوء ما تتسم به الحداثة من الاستغلال والحرب شبه المتواصلة والقتل الجماعي المستند إلى دوافع عرقية، وسوف ينتقد هيجل مبدأ «الأمر المطلق»؛ لافتقاده أي جذور في العادات والممارسات الأخلاقية التي تتطور في المجتمعات التاريخية الواقعية. ومع ذلك، فإن تلك الانتقادات لم تجعل مطالبات كانط بالعالمية ضربا من التكرار؛ فدون المطالبة بفكرة عالمية للإنسانية، يكون القانون الدولي مفتقرا لوجود مبدأ مؤسس. وفي أعقاب النازية، صارت فكرة «الجريمة ضد الإنسانية» ضرورية في القانون الدولي، وبالطبع يمكن أن يكون تنفيذ القانون الدولي صعبا على نحو باعث على اليأس، إلا أن جزءا من غرض كانط من فصل العالم التجريبي عن عالم الحرية، هو الإبقاء على فكرة أنه لا يمكن أبدا اختزال الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء في الكيفية التي كانت ولا تزال عليها. وغالبا ما ينتقد موقفه من وجهة نظر فلسفية؛ لأن هذا الفصل يتطلب فكرة عالم «معقول» من الحرية خارج المكان والزمان. لكن المشكلة الفلسفية في تأسيس نظرية متفق عليها بشأن تلك الأمور لم تدمر فكرة الإنسانية باعتبارها تمتلك حقوقا متساوية؛ وذلك استنادا إلى فكرة القدرة الكامنة للبشر على الاستقلال.
الطبيعة والجمال والحرية
يكشف كانط الصعوبات ويطرح احتمالات جديدة تتعلق بكيفية اتصال البشر بالطبيعة، فإذا كانت الطبيعة هي خلق الإله، فإن محدودية معرفتنا بها ترجع إلى محدودية قدرات الإنسان وعدم معصوميته من الخطأ، أما العلم التام فيفترض أنه لدى الإله. ومن ثم تعتمد الاستجابات الأخرى للطبيعة، كالاستجابات الجمالية، على فكرة أن عجائب الطبيعة وأسرارها تتعلق بالأصل الإلهي لها، كما هو مطروح في فكرة «كتاب الطبيعة»، وإذا لم يعد لتلك التصورات اللاهوتية أي دعم فلسفي؛ فإن علاقة البشر بالطبيعة تصبح مشكلة. في «النقد» الأول، الطبيعة هي مجرد منظومة من القوانين الحتمية، ولا يمكن أن تطرح هنا تساؤلات عن الدلالات الأخرى للطبيعة؛ لأن كل ما يمكننا قوله عن الطبيعة يعتمد على تطبيق المقولات والتصورات على الأحداس. وبالمثل، فإن التصورات «المادية» أو «الفيزيائية» الفلسفية الحديثة تحصر التفسيرات الصحيحة في التفسيرات التي تقدمها العلوم، أما الظواهر التي تبدو خارج نطاق التفسير العلمي، مثل الوعي أو المتعة الحسية، فستحظى في النهاية بتفسيرات محكومة بالقانون.
ويرجع أحد أسباب عدم تبني كانط هذه الرؤية الاختزالية إلى أنه حتى المعرفة الكاملة نظريا بالطبيعة لا تؤسس «غرض» هذه المعرفة. فما هو الغرض من رؤية موضوعية بالكامل للوجود بالنسبة لبشر واقعيين في المواقف الحياتية الملموسة؟ وفي النقدين الأولين، يفصل كانط جذريا المعرفي عن الأخلاقي؛ وهذا يؤدي إلى القلق من أن الطبيعة هي حقا مجرد آلة محكومة بالقانون. وهنا تنشأ فكرة «العدمية» الحديثة، التي هي نتاج فكرة أنه لا توجد قيمة في أي شيء يحدث في الطبيعة؛ لأن الأمر ليس سوى سلاسل من الأسباب لأسباب أخرى. وقبل كانط لم تكن تلك الهموم ملحة؛ لأنه كان يفترض أن الأشياء في الطبيعة لها غاية - «علة غائية» - تتطور باتجاهها. والمزاعم الوضعية بشأن الغائية في الطبيعة «دوجماتية»؛ لأنه لا يمكن تقنينها كمعرفة. لكن كانط لم يكن يرغب في التخلي عن الغائية، وطريقته لمحاولة الإبقاء عليها في النقد الثالث لا تزال محل خلاف؛ فهو يربط الغائية بالجمال الطبيعي والفني.
وعلى الرغم من أن موقفه هنا مشكل جدا، فهو تعبير تاريخي مهم آخر عن تغير الطريقة التي يفسر الناس بها العالم. وأثناء النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مر تقدير جمال الطبيعة بتحول جذري في العالم الغربي؛ فبعد رؤيته على أنه تهديد، صارت الطبيعة البرية - مثل جبال الألب - ينظر إليها على أنها مورد ذو قيمة؛ لأننا لا يمكننا السيطرة عليها بصورة تامة. فالطبيعة أصبحت ذات قيمة في ذاتها، والعلاقات الأخرى بالطبيعة خلاف المعرفية أو اللاهوتية أصبحت مهمة، وهذا التغير هو جزء مما يمهد لنشأة علم الجمال الحديث. ويربط كانط الجمال الفطري للعالم الطبيعي بالجمال الفني وبالاستجابات غير المعرفية للطبيعة، فشكل الموضوع الطبيعي ليس شيئا تفسره القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تحكمه؛ لأنه يعتمد على العلاقة التبادلية للمكونات المختلفة للشيء. ويزعم كانط أن التماسك العضوي للأشياء في الطبيعة يعني أن الأمر «كما لو أن عقلا قد اشتمل على أساس وحدة تعددية القوانين التجريبية [للطبيعة]». وهذه طريقة لاهوتية غير مباشرة للإبقاء على الغائية، رغم أن كانط يقر بأن المرء لا يمكنه معرفة إن كان ذلك «الفهم» موجودا أم لا. والشيء الأقل خلافا هو اقتراحه أن المتعة التي ينبغي الحصول عليها من تأمل شكل الكائنات الحية في الطبيعة تجبرنا على التفكير بطريقة لا يمكن اختزالها في قوانين علمية.
إن الهدف من كتاب «نقد الحكم» هو البحث في كيفية عمل الحكم «وفق مبدأ ملاءمة الطبيعة لقدرتنا على المعرفة»؛ ومن ثم، فالمقصود من النقد هو تقديم مبدأ وحدة الجنس البشري والطبيعة المفتقد في النقدين الأولين. ويتيح لنا هذا المبدأ فهم الموضوع الطبيعي ككل، بدلا من مجرد تحليل أجزائه، ويتضح في تمتعنا بشكل الموضوعات الطبيعية. وهذه الفكرة مرتبطة بكل من قدرتنا على الانتقال من فهم الجزئيات إلى صياغة القواعد التي تحكم تلك الجزئيات، وبفكرة أن تقدير الفن ليس ذاتيا فحسب؛ فبينما يئول تفضيل نوع من الخمر على آخر إلى ما هو «ملائم» لي أو لك، فإن الأحكام على الجمال تنطوي على الزعم بأن الآخرين ينبغي أن يوافقوا على الحكم نفسه. ويعتقد كانط أن ذلك الاتفاق الضمني يشير إلى «شعور عام» ضمني يمكننا من مشاركة عالم يمكننا إدراكه بالطريقة نفسها، وهنا يصبح المعرفي والجمالي متلازمين.
من الأمور المحورية في تصور كانط مفهوم «الفكرة الجمالية»، وهي: «تمثيل للخيال يعطي المرء الكثير للتفكير فيه، لكن دون وجود أفكار معينة مسبقة؛ أي «تصور» قادر على أن يكون ملائما له.» وترمز تلك الأفكار إلى ما لا يمكن للمعرفة الوصول إليه بطريقة أخرى، مثل فكرة الحسن، فالوصول إلى الأفكار العليا التي تشير إلى شعور إنساني مشترك بالقيمة لا تصوري؛ لأنه لا ينطوي على تطبيق قاعدة على حدس. وبالمثل في تجربتنا مع «السامي»، عندما نتأمل ظواهر طبيعية مهددة، مثل البرق والبراكين والأعاصير من موضع أمان، فإننا ندرك طريقة أخرى للارتباط بالطبيعة لا يحددها ما نستطيع معرفته. والطبيعة هنا تقهر قدرتنا على فهمها، ويرى كانط أن فكرة الحرية واضحة في شعورنا بحدود ما يمكننا فهمه عقلانيا وتجريبيا.
قد يبدو كانط فيلسوفا عقلانيا إلى حد مفرط، يترك مساحة قليلة جدا للاهتمامات التي تعطي معنى لحياة الناس، لكن في تعيينه لحدود ما يمكن للفلسفة أن تزعمه بطريقة مبررة، فإنه يكون مدفوعا أيضا باتجاه يتجاوز تلك الحدود. وتكمن أهمية الأفكار التي يعتزم تناولها في الفصول التالية في الكيفية التي تساعدنا بها على فهم ما صار أهدافا مهيمنة للعالم الحديث، وأفول فكرة أن الأهداف الأهم متأصلة في نظام العالم نفسه؛ يعني أن مهمة تأسيس الأهداف تقع صراحة علينا. فالمعارك الأيديولوجية الكبيرة إبان الثورة الفرنسية، التي أدت إلى تطور الديمقراطية الحديثة، وإلى كوارث الحداثة التي تمثلها النازية والستالينية؛ ترتبط ارتباطا وثيقا بالقصة الفلسفية التي رأيناها تبدأ بإصرار كانط على استقلال البشر.
Bilinmeyen sayfa
هوامش
الفصل الثاني
المنحى اللغوي
البعد المفقود
يقدم كانط رؤية فلسفية غاية في الجدة والعمق، حتى إنه من المذهل إدراك أنه يتجاهل إلى حد كبير أحد الهموم الكبرى للفلسفة الحديثة. ففي عام 1812، لاحظ كارل ليونارد راينهولد (1757-1823) الذي كان مسئولا عن تزايد الاهتمام في البداية بفلسفة كانط الذي أدى إلى المثالية الألمانية (انظر الفصل الثالث)؛ أن «علاقة التفكير بالكلام، وأسلوب التوظيف اللغوي في التفلسف لم يخضعا مطلقا للتدقيق والصياغة» لدى كانط والمثالية الألمانية. لكن حتى قبل أن يكتب كانط أهم نصوصه وجد فلاسفة في ألمانيا كانت اللغة بالنسبة لهم أمرا فاصلا. فما الذي جعل هؤلاء المفكرين يركزون على اللغة بينما يبدو أن آخرين لم يعتبروا اللغة أمرا حاسما على الإطلاق؟
رأى كانط أن نظام العالم الذي يمكن معرفته يعتمد على النشاط المعرفي للذات، والتفسيرات المتضاربة لذلك النشاط تزداد تعقيدا حالما تؤخذ في الاعتبار علاقة اللغة بالذات. فعلى الرغم من أن الذوات تستخدم اللغة فهي لا تخترعها، وبمعنى لا يزال محل نزاع فإنها تحتاج إلى اللغة؛ لكي تصبح ذواتا على أية حال. فما هو أصل اللغة؟ لقد افترض بوجه عام أن أصل اللغة - مثل نظام العالم - إلهي، وهذا الافتراض ربط فكرة اللغة كجزء من خلق الإله بإمكانية فهم العالم؛ إذ تشير اللفظة اليونانية
logos
إلى كل من «الكلمة» بمعنى الكلام، وإلى النظام العقلاني للأشياء. وأما بداية الحداثة في الفلسفة، فيمكن تمييزها من خلال التزامن القريب للأسئلة الفلسفية الجديدة لدى هيوم وكانط مع التشكيك بالأصل الإلهي للغة. فالأول يقود إلى فكرة الذات كمركز للفلسفة، والآخر يكشف في المقابل عن اعتماد الذات على شيء لم تنشئه، وتصبح اللغة هي «الآخر» الذي يستمر أصله حتى اليوم في طرح مشكلات مهمة. (فكر في الخلافات المتعلقة بمدى إمكانية تفسير اللغة بطريقة ملائمة من حيث الجينات.) تتسم الفلسفة الألمانية بصراعات بين مناهج وضعت الذات في مركز الفلسفة، ومناهج تشير إلى أن الذات تعتمد على شيء مغاير لذاتها، وتشير فكرة هذا الاعتماد إلى سبب تطور فكرة «اللاوعي» في هذا الوقت، والقضايا النظرية هنا هي مجددا إشارات لتغيرات تاريخية. ومزجت فكرة «الأيديولوجيا» بين قضايا اللغة وقضايا اللاوعي؛ فقد ظهرت أثناء الثورة الفرنسية، وكانت في البداية تعني فقط منظومة من الأفكار، ولكن سرعان ما تطورت «الأيديولوجيا»، من خلال ماركس على وجه التحديد، إلى مصطلح يستخدم لتمييز اعتقاد الناس في أن أفعالهم تحددها الإرادة الحرة، عندما يعتمدون في الحقيقة دون وعي على الطرق السائدة للتحدث والعمل في طبقتهم الاجتماعية.
يعد ظهور فرع «الأنثروبولوجيا» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر إشارة أخرى لما هو موضع نقاش هنا؛ فجزء مما أدى إلى نشأة الأنثروبولوجيا هو الوعي بأن اللغة الطبيعية لشعب ليست مجرد وسيلة لقول الأشياء نفسها التي يمكن قولها بلغة أخرى، فلغة الشعب هي أيضا نتاج مواجهاته الخاصة مع العالم. ويؤدي فهم هذه المواجهات إلى وعي جديد بحجم الاختلاف الذي ربما يكون عليه العالم بالنسبة لثقافات أخرى. ويستدل على أهمية هذا الأمر بالحالات التي يمكن فيها أن تصبح لغة أقلية عرقية أمرا فاصلا بالنسبة لهويتها، ولكن هذا النوع من الهوية يمكن أن يكون في الغالب ذا حدين؛ فما يربط بعض الناس ببعض يمكن أن يكون هو نفسه ما يفصلهم عن آخرين عندما يصبح من ليسوا أعضاء في مجتمع لغوي «الآخر» الغريب. وتتعلق أسئلة الهوية اللغوية أيضا بظهور القومية، التي هي مصدر لكثير من إراقة الدماء في التاريخ الحديث، ولعله لهذا السبب ينظر إلى يوهان جوتفريد هيردر (1744-1803) أحيانا بارتياب - غير مبرر - إلى حد كبير؛ بسبب تركيزه على دور اللغة في تشكيل الهوية.
التمثيل والتعبير
Bilinmeyen sayfa
يكشف هيردر - الذي كان تلميذا مفضلا لكانط حتى تنازعا في ثمانينيات القرن الثامن عشر - ومعاصره وصديقه يوهان جورج هامان (1730-1788)، عن مفارقة في المفاهيم الحديثة للغة. كما رأينا، فإن النجاح الجديد للعلوم الطبيعية مصحوب بشكوك حول أساس ذلك النجاح. وبرؤية عقلانية، يمكن تجاوز الفوارق بين اللغات؛ لأن حقائق العلم يمكن صياغتها بأية لغة طبيعية. ومن ثم، قد تبدو الرؤية العقلانية متوافقة مع تصورات نظام الكون الممنوح من الإله. إلا أن احتكام عقلانية القرن الثامن عشر إلى فكرة «لغة عالمية» توضع تماما على غرار العلم المؤسس على الرياضيات الذي يساعد في الوصول إلى هذه الفكرة، يقوض بالفعل كثيرا من الأسس السابقة لعلم اللاهوت. ومن جانب آخر، تشكك المناهج الجديدة في اللغة، موضع النقاش هنا، في فكرة أن جميع اللغات يمكن - أو ينبغي - أن تكون قابلة لقياس واحد.
تنزع الرؤى العقلانية إلى النظر إلى اللغة بالأساس من حيث الكيفية التي «تمثل» بها الأشياء في العالم، فهدف العلم هو في النهاية الوصول إلى الكلمات التي تعطي إعادة عرض حقيقية للعالم - بمعنى تلك التي «تعرض مجددا ما هو موجود بالفعل كما هو». ويرى هامان وهايدجر، في أعقاب جان جاك روسو وآخرين، أن هذا النهج أخفق في تقدير كيفية أن اللغة تعبير جوهري عن ماهية أن تكون إنسانا، فاللغة لها دور أبعد من مجرد تمثيل العالم؛ إذ يمكنها أن تظهر جوانب جديدة من أنفسنا ومن العالم لم تكن لتظهر دونها، ومن ثم يمكن فهم جميع الأشكال الرمزية البشرية بما فيها الموسيقى والفن المرئي على أنها «لغة».
اللغة والعقل
في كتابه «عن الأدب الألماني الحديث: مقتطفات» عام 1766-1768، يعلن هيردر بالفعل ما سوف يكون المقدمة المنطقية الأساسية للفلسفة التحليلية للقرن العشرين: «فلو صح أننا لا يمكننا التفكير دون أفكار، وأننا نتعلم التفكير من خلال الكلمات، فإن اللغة تعطي للمعرفة الإنسانية كلها حدودها وإطارها»، وهي «أداة الأفكار البشرية ومضمونها وشكلها». والسؤال هو: كيف بالضبط نفهم اللغة؟ فالفوارق حتى اليوم بين الفلسفة التحليلية و«القارية/الأوروبية» قائمة في الغالب على تأويلات مختلفة لماهية اللغة. وفي نقلة نبوئية، يقترح هامان أن اللغة يمكن أن تؤثر على تقييم الفلسفة المتعالية لكانط، فهو يتساءل كيف ترتبط مقولات كانط باللغة مقترحا أن «الكلمات هي «أحداس» محضة وتجريبية وأيضا «تصورات» محضة وتجريبية»، وتشكيكه في فصل كانط للأحداس القابلة والتصورات التلقائية هو جزء مما يمهد لنشأة المثالية الألمانية.
من الأهداف المحورية للمثالية الألمانية التغلب على مقابلات كانط بين المظاهر والأشياء في حد ذاتها، وبين القابلية والتلقائية. وتتمثل فكرة هامان في أننا نكتسب الكلمات بطريقة استقبالية كضوضاء أو علامات في العالم الموضوعي، لكنها ليست مجرد موضوعات؛ فالكلمات لا يمكن أن تكون إلا كلمات، لا مجرد علامات أو ضوضاء، إذا كان لها معنى يؤثر على كيفية فهمنا للعالم، وقد يبدو واضحا أن الشيء التالي الذي ينبغي فعله هو فصل اللغة إلى تلك الأجزاء التي لها مغزى موضوعي بحت ، وتلك الأجزاء التي هي «ذاتية». إلا أنه قد ثبت حتى الآن في الفلسفة الحديثة استحالة رسم هذا الخط الفاصل بطريقة متفق عليها؛ لأسباب أهمها: أن اللغة نفسها لازمة لرسم الخط. وإذا كانت اللغة تقاوم الفصل الحاسم بين الذاتي والموضوعي، فيمكن التشكيك في نوع الفلسفة التي تحاول بيان الكيفية التي يعكس أو يمثل بها العقل الذاتي بنجاح - يكثر أو يقل - طبيعة العالم الموضوعي؛ فالدعاوى المتعلقة بالموضوعية تعتمد على استخدام اللغة، واللغة نفسها لا يمكن القول بأنها موضوعية محضة أو ذاتية محضة.
وعلى الرغم من الدعاوى المتكررة بعكس ذلك، فإن الشعور اليومي بالحقيقة يجب ألا يتأثر إلى حد بعيد بتلك الأفكار؛ فالمتشككون لا يمكنهم الاحتجاج على عجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة دون التسليم مقدما بأن حقيقة مزاعمهم يمكن نقلها عن طريق اللغة. وبدلا من ذلك، تطرح الأفكار الجديدة المتعلقة باللغة أسئلة عما يعنيه التعبير عن الحقيقة، فالقول بأن شيئا ما موضوعي محض سوف يتطلب منظورا فوقيا، خارج اللغة - «رؤية من لا مكان» - والفكرة هي أن الحاجة إلى وصف ذلك المنظور باللغة نفسها يضع هذا الأمر موضع تساؤل. ومن ثم، فالحقيقة ربما تكون هدفا تصوريا يحفز على البحث، لا شيء نعرف دوما على نحو قاطع أننا قد فهمناه. وسوف تنطوي فلسفة القرن العشرين على نزاعات سكولاستية بين مناهج تسعى إلى قصر نطاق الحقيقة في عبارات يمكن التحقق منها كوسيلة لمحاولة ضمان الموضوعية الكاملة، ومناهج توسع نطاق الحقيقة ليشمل أي تعبير يجسد جانبا من العالم. وفي المنهج الأخير، يمكن للفن أن يكون أداة لنقل الحقيقة عندما يكشف أو يعطي معنى جديدا لمنظور عن العالم. وتحمل المناهج الأخيرة كثيرا مما ابتدأه هامان وهيردر.
وبينما يمكن للمرء تجاهل الكثير من القضايا التاريخية والأسلوبية في نصوص كانط ويظل يستخدمها في الفلسفة المعاصرة، فإنه لا يمكن فصل الأسلوب المعقد والإيمائي لنصوص هامان عن مضمونها؛ إذ تخلق نصوصه شبكة من الترابطات التي تربط جوانب العالم بطرق غير متوقعة غالبا. فبالنسبة لهامان، النظر إلى اللغة باعتبارها تحدد معاني الكلمات ، ليست هي الطريقة المثلى للنظر إليها؛ فاللغة هي احتفال بتنوع الخلق الإلهي، الأمر الذي يفتح الباب لوجهات نظر جديدة. وهناك عملية ترجمة لا نهائية «من لغة الملائكة إلى لغة البشر؛ أي من الأفكار إلى الكلمات - من الأشياء إلى الأسماء - من الصور إلى العلامات». وعليه، فإن الجانب «الأدبي» للغة ليس إضافة عارضة إلى اللغة، بل هو لبها؛ فمثلا عندما ينتقد هامان كانط، فإنه يفعل ذلك بطريقة بلاغية جدا. وقبل أن نصل إلى السؤال الكانطي عن كيف تكون المعرفة الموضوعية ممكنة، يؤكد هامان:
يبقى سؤال رئيسي آخر: كيف تكون القدرة على التفكير ممكنة؛ أي القدرة على التفكير «يمين التجربة وشمالها، قبلها ودونها، معها وبعدها»؟ إن المرء لا يحتاج إلى استدلال لإثبات الأولوية النسبية للغة قبل الوظائف المقدسة «السبعة» للافتراضات والاستنتاجات المنطقية وشعاراتها.
إن ما تعنيه هذه الفقرة غريبة الأسلوب يتضح من خلال علاقته باهتمام هامان بأخطار التجريد.
لا يزال قدر كبير من الفلسفة الحديثة منذ ديكارت مهتما بنموذج معين من مذهب الشك؛ إذ يفصل ديكارت العقل عن الجسد بدعواه أن اليقين المعرفي الوحيد هو وعي العقل بنفسه. ومعرفة عالم الموضوعات، بما في ذلك جسد المرء نفسه، مشكوك فيه بطبيعته. ولا يقبل هامان الصورة الديكارتية؛ لأنها تفترض أن معرفة العالم القائمة على تبرير عقلي هي الأساس الجوهري للفلسفة، لكنه يظن بدلا من ذلك أن «الاعتقاد قليلا ما يقع بلغة الأسباب كالتذوق والشم»، واتصالنا الجوهري مع العالم «حسي». وينبغي ألا يفهم هذا الاتصال باصطلاحات «المذهب التجريبي» للوك وآخرين (ممن أثروا عليه رغم ذلك)؛ حيث إن «معطيات الحس» هي المصدر الوحيد للمعرفة. واهتم هامان عوضا عن ذلك بالكيفية التي نصل بها إلى عالم مفهوم. والبدء بوصف نقدي لل «عقل» - على غرار فلسفة كانط - لا يفسر كيف يوجد عقل من الأساس، وهو أمر يتعلق بالسؤال عن أصل اللغة.
Bilinmeyen sayfa
يسعى كل من هامان وهيردر إلى الإجابة عن سؤال: لماذا نحتاج العقل لفهم اللغة، بل ونحتاج أيضا اللغة لنعقل؟ بيد أن أحدا منهما لم يوفق في الحقيقة للإجابة عن السؤال بطريقة مقنعة. ويحاول هامان استخدام علم اللاهوت كمخرج من المشكلة الفلسفية، عن طريق رؤية الخلق نفسه كلغة تخلق فيها كلمة الإله الشيء الذي تعينه، وهو بذلك يسير وفق موروث القبالا اليهودية. ويستمد شكه في التجريد من فكرته التي مفادها أن اللغة تنشأ من اتصالنا العملي والحسي بالعالم؛ وهو من ثم يرفض قبول الرياضيات كأساس للعقل، ويرى بدلا من ذلك أن «الأساس والمعيار الأول والأخير الوحيد للعقل» هو اللغة التي لا تستند لشيء سوى العرف والاستخدام، ولا يمكن النظر إليها من حيث «الموثوقية العامة والضرورية».
وسيكون هذا الموقف حيويا في ظهور المفهوم الحديث لل «هرمنيوطيقا»؛ أي فن أو علم التأويل. فالهرمنيوطيقا مهمة بالنسبة لتساؤل الفلسفة الألمانية عن الاعتبارات العلمية للغة، ولنقدها لمذهب «العلموية»؛ أي الاعتقاد بأن الحقائق السائغة الوحيدة هي الحقائق العلمية. وبالنسبة للهرمنيوطيقا، لا يمكن أن تنشأ الأسئلة العلمية على الإطلاق ما لم نفهم بالفعل العالم من خلال استخدامنا العملي للغات الطبيعية. ولا يمكن تفسير المدركات القبلية السابقة المتضمنة في هذا الرأي بوصف علمي؛ لأن قابلية فهم هذا الوصف ستعتمد في حد ذاتها عليها. وثمة فكرة حاسمة لو صحت سيكون لها توابع مدمرة للمفاهيم العلمية، وهي أن الفهم لا يمكن اختزاله في التفسير؛ لأن التفسير دوما يفترض شكلا ما من الفهم المسبق.
غالبا ما لا يشارك هيردر الاهتمامات اللاهوتية لهامان، لكنه مهتم بالدرجة نفسها بتنوع اللغات البشرية. وعدم تأييده لفكرة أن اللغة ما هي إلا تمثيل للأشياء واضح تماما، «ليس السؤال كيف يمكن اشتقاق تعبير أتيمولوجيا وتحديده تحليليا، بل كيف يستخدم؟ فالأصل والاستخدام في الغالب مختلفان جدا.» وفي مقاله المهم «مقال في أصل اللغة» عام 1772، لم يستطع هيردر أن يعطي إجابة مقنعة عن كيفية وصولنا إلى لغة دون عقل وإلى عقل دون لغة، لكنه اقترح جانبا رئيسيا للطريقة التي يمكننا بها تمييز اللغوي عن اللالغوي. وفكرة هيردر أننا لدينا القدرة على صفاء الذهن
Besonnenheit ، الأمر الذي يمكن المرء من انتقاء خصائص الأشياء في العالم، مثل ثغاء الشاة، ويستطيع المرء استخدام عدد غير محدد من الألفاظ الأخرى لتمييز الشاة؛ ومن ثم تظل الخاصية الرئيسية للغة هي على وجه الدقة قدرتها الأبدية على تمكين تلك التمييزات. فاللغة تجعلنا قادرين على فهم أن الشاة من الثدييات، وأنها غذاء، وأنها رمز للمسيح، وأنها ما ينتج أصواتا معينة بالريف ... وهكذا. إن رؤيتي هيردر وهامان «كليتان»: فالعالم بالنسبة لهما لا يتألف من مجموعة موضوعات معينة يمكن تسميتها، وإنما تتحدد ماهية الأشياء من خلال الطرق التي تجسد بها اللغة وغيرها من أوجه النشاط البشري الأشياء الأخرى. فما ترى عليه الشاة يعتمد على مكانها في عالم من الدلالات التي تظهر من خلال ممارسات ثقافة معينة؛ ومن ثم يصبح العالم شبكة من الدلالات التي تتغير خصائصها بتغير علاقات الإنسان بالعالم.
شلايرماخر
إن التأملات الرائدة لهيردر عن اللغة مبعثرة في كتبه، وغير متسقة على نحو ملحوظ، وفريدريش دانيال أرنست شلايرماخر (1768-1834) هو من سيطور الأفكار التي تم استعراضها هنا إلى مفهوم أكثر تنظيما وتماسكا. فكثير من آراء شلايرماخر قد بدأت تعاود الظهور في ضوء إخفاق بعض المناهج التحليلية في إيلاء ما يكفي من الاهتمام للطبيعة الكلية للغة. وعادة ما يقدم شلايرماخر على أنه منظر التفسير «التقمصي»، الذي «يتحسس المرء فيه طريقه» إلى عقل المؤلف. وهذه النظرة خاطئة تماما؛ فبدلا من ذلك، تعرض هرمنيوطيقيته ونصوص أخرى وصفا متطورا للغة يعتمد على شكل من الأفكار الفلسفية من النوع الذي سنقابله في الفصل الثالث (وهو لا يستخدم الكلمة الألمانية لل «تقمص»). ويتصدى شلايرماخر للصراع بين نظرة أن المعنى واللغة تتحكم فيهما نوايا الذات، ونظرة أن اللغة موجودة قبل الذات في شكل تراكيب وقواعد مشتركة.
يشتهر شلايرماخر بأنه اللاهوتي الذي لعب دورا حاسما في تطور البروتستانتية الحديثة، وأوضح لاهوته السبب في أن اللغة أصبحت محورية جدا لتفكيره. وما أوضحه كانط عن كون البراهين الرئيسية لوجود الإله غير صحيحة، كان يعني أنه على علم اللاهوت أن يعيد بناء نفسه على نحو لا يعتمد على البرهان الفلسفي. أما شلايرماخر، فيؤسس لاهوته على ما يسميه «شعورا بالافتقار المطلق » للذات؛ فهو يرى الذات - على نهج كانط - قابلة وتلقائية، لكن بالنسبة له لا يوجد فارق أساسي بين القابلية والتلقائية، فكلتاهما تشمل الذات والعالم بدرجات مختلفة. وبالنسبة لشلايرماخر، فإن الحقيقة المحضة في كوننا نفهم العالم ونفسره بطريقة فاعلة على أية حال يتعذر تفسيرها بمصطلحات فلسفية. ورغم أننا يمكننا توجيه فاعليتنا العقلية والفلسفية، فإننا لسنا مصدر كوننا فاعلين، فهذا ممنوح كجزء من طبيعتنا، وعلينا أن نستجيب لهذا الافتقار بطرق غير معرفية؛ لأن معرفتنا تعتمد على هذه الفاعلية أيضا، والشعور بأن فاعليتنا ترتبط بفاعلية سائر الكون الحي هي ما يقود إلى الدين. فالشعور بالإله إذن قائم على هذا الشعور بالارتباط بكل أكبر ليس في نطاق قدرتنا.
تنطوي اللغة أيضا على القابلية والتلقائية، وهي تستلزم نوعا آخر من اعتماد الذات على شيء لا تنشئه. وتنطوي الطبيعة الاجتماعية المتأصلة للغة على شعور باعتماد الذات على «الآخر»، بل أيضا شعور بالترابط البشري الذي يأخذ الذات إلى ما وراء نفسها. إن تركيز شلايرماخر على اللغة يقوده في نصوصه عن الهرمينوطيقا من عام 1805 فصاعدا إلى تأملات مؤثرة في مشكلات التأويل. وهو يؤسس هذه التأملات على الصراع بين اللغة كشيء سابق الوجود في المجتمع، وكشيء يمكن للذوات الفردية استخدامه للتعبير عن فرديتها؛ والهدف هو فهم العلاقة بين هذين الجانبين في النص أو القول المراد تأويله. ولا يمكن أبدا تحقيق هذه المهمة بطريقة حاسمة؛ لأن المرء لا يمكنه أبدا الوصول إلى جميع سياقات القول، ولا كل الدوافع له. ومن ثم، يوضح شلايرماخر أن التأويل محدود بالضرورة، وهو ممارسة لا يمكن أن تكون لها قواعد حاسمة.
ويقوده هذا الموقف إلى أفكار متبصرة تشير إلى السبب في أن مناهج اللغة التي كانت الأساس المبدئي للفلسفة التحليلية كانت مخطئة (انظر الفصل السابع). فقد فرق كانط بين الأحكام «التحليلية» التي هي صحيحة بفضل معاني الكلمات فيها، مثل: «الأعزب هو رجل غير متزوج»، والأحكام «التركيبية» التي تتطلب معرفة بالعالم مثل: «فريد سميث أعزب.» وعلى أساس هذه التفرقة، حاول فلاسفة مثل جوتلوب فريجه وبرتراند راسل في مطلع القرن العشرين وضع أسس منطقية لفهم اللغة تكون مستقلة عن الحقائق الممكنة عن العالم المستمدة من التجربة. وكرس كثير من الجهد الذي تلا ذلك لمحاولة إنجاح هذا المشروع؛ ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الفيلسوف الأمريكي «دبليو في أوه كواين» أن هذه التفرقة لا يمكن الدفاع عنها؛ لأن فهمنا لأية عبارة يمكن تعديله في ضوء عبارات صحيحة أخرى، حيث لا توجد كلمات يمكن أن يقال إنها مترادفة تماما. وهذه الرؤية تعكس الشمولية التي رأيناها لدى هيردر وهامان، وفي حال قبولها فإنها تؤذن بنهاية مشروع الفلسفة القائمة على تحليل التصورات التأسيسية. والحقيقة المثيرة للاهتمام أن شلايرماخر قد أوضح هذه الفكرة جيدا حتى قبل أن توجد «الفلسفة التحليلية»؛ ففي كتابه «الجدل» الذي نشر بعد وفاته يقول:
إن الفارق بين الأحكام التحليلية والتركيبية مائع لا نتحصل منه على قيمة ... وهذا الفارق ... يعبر فقط عن حالة مختلفة من صياغة المفاهيم.
Bilinmeyen sayfa
وما يعد تحليليا لن يعد كذلك في سياقات أخرى؛ حيث لا توجد مفاهيم تأسيسية راسخة خارج الشبكة المتغيرة للغة. وبالنظر إلى تاريخ مقاربات الفلسفة الألمانية في اللغة بعد كانط، يمكن الاستدلال على مقدار ما تم تجاهله في تناول اللغة في الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ويتعلق السبب في تجاهل المقاربات الألمانية بالرغبة التحليلية للفلسفة في منافسة العلوم الطبيعية بشدة، وسيكون موضوع الفصول التالية هو بيان إن كان هذا هو المسار الأفضل للفلسفة أم لا.
الفصل الثالث
المثالية الألمانية
ما المثالية الألمانية؟
يمكن تفسير الذات الحديثة على أنها - حسب عبارة كانط - «تمنح التشريع» لكل من الطبيعة (ممثلة في العلوم) والذات نفسها (ممثلة في حرية الإرادة الأخلاقية)، وأيضا على أنها مبتلاة بإحساس ب «الضياع» ناتج عن ارتيابها في اللاهوت وفي الأدوار والهويات التقليدية. وقد سعى كانط إلى إثبات فكرة حرية الإرادة عن طريق وضع الحرية في مجال لم يكن خاضعا لقوانين الطبيعة. وفي الوقت نفسه، كان يتعذر على المعرفة البشرية بلوغ الطبيعة «في ذاتها»؛ فكيف إذن تتصل الطبيعة في حد ذاتها بحرية الإنسان؟ تهدف «المثالية الألمانية »، التي ظهرت في تسعينيات القرن الثامن عشر، إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الذاتي والموضوعي في ضوء دعاوى كانط. كيف تتصل قدرتنا «التلقائية» على «منح التشريع» للطبيعة بالطبيعة التي يمنح لها التشريع؟ إن هذه القدرة يجب - على نحو ما - أن تمنحها لنا الطبيعة نفسها؛ لأننا كائنات طبيعية. لكن على النقيض من سائر عناصر الطبيعة لا يمكن للقدرة أن تظهر؛ لأنها هي التي تجعل التفكير في الطبيعة بطريقة موضوعية «كمظهر» ممكنا على أية حال. وما تظهر له الأشياء لا يمكن أن يكون شيئا كالذي يظهر تماما، وهذا يعني أن الدعاوى بشأن قدرتنا التشريعية لا يمكن أن ترتكز على دليل موضوعي عن العقل، كالذي يمكن الحصول عليه من علم النفس؛ لأن ذلك العلم نفسه يعتمد أيضا على تلك القدرة. وعليه، فإن الفكرة التي تراها المثالية الألمانية ضمنية لدى كانط، هي أن المعرفة التي تعتمد على تلقائية الحكم والفعل الإرادي التلقائي يمكن النظر إليهما على أنهما يشتركان في المصدر نفسه، ويتعذر الوصول إلى هذا المصدر بنوع البحث المتبع في العلوم، وتقود هذه الفكرة إلى احتمالين أساسيين يشتركان في نقاط معينة.
يرى أحد الاحتمالين «الذاتية» - «الأنا» بالمعنى الواسع جدا لها في المثالية الألمانية - على أنها أساس وجود «عالم» في المقام الأول، وليست الفوضى اللامتسقة؛ ومن ثم فإن «الذاتية» هي ما يولد أشكالا قادرة على البقاء تصبح من خلالها الطبيعة شيئا حيا ومفهوما، ودون «الضوء» الذي يضفيه التفكير على الطبيعة، ستكون الطبيعة عصية على الفهم لنفسها. ويمكن الاستدلال على أهمية هذا النوع من المقاربة بفكرة أن المادة التي تتألف منها الكائنات الحية تستبدل أثناء حياتها، دون أن تصبح شيئا مختلفا. والفكرة هي أن هذا يوحي بسيادة نوع معين من مفهوم «العقل» - بالمعنى الذي ينشئ أشكالا مفهومة - على الطبيعة؛ فدون فاعلية العقل لا شيء محددا يمكن أن يظهر من الأساس. وهكذا يصبح جوهر الفلسفة هو فاعلية الذات، وليس تفسير العالم الطبيعي الموضوعي.
والاحتمال الآخر هو أن كلا من فاعلية العقل والحرية متأصل في «إنتاجية» الطبيعة. فالطبيعة مرة أخرى ليست مجرد نظام موضوعي من القوانين؛ لأنها «تنتج» الذاتية، التي عن طريقها تعرف نفسها وتصبح متمتعة بحرية الإرادة، بدلا من البقاء منغلقة على نفسها. ومع ذلك، فإنتاجية الطبيعة لا تقع في النهاية في نطاق سيطرتنا، حتى إن تفكيرنا «يحدث»، وهو ليس بالشيء الذي ندفع أنفسنا عن وعي إلى القيام به. وما إن يظهر التفكير حتى توجد درجة من حرية الإرادة في التفكير. والسؤال هو: ما مدى الحسم الذي تكون عليه حرية الإرادة هذه؟ فالذات المفكرة هنا ليست شفافة تماما لذاتها، وتعتمد إلى حد ما على شيء «غير واع».
يشترك كلا الاحتمالين في فكرة أنه على الرغم من أن التغيرات في الطبيعة تحددها القوانين، فإن فكرة أن الطبيعة مهيكلة من الأساس، وديناميكية لا ثابتة، لا تتحدد على هذا المنوال نفسه. تتعلق الأفكار المتصلة بالبديل الأول بسالومون ميمون (1754-1800) ويوهان جوتليب فيشته (1762-1814)، بينما تتعلق الأفكار في البديل الثاني ب «فلسفة الطبيعة» لفريدريش فيلهيلم جوزيف شيلينج (1775-1854). ويحاول جورج فيلهيلم فريدريش هيجل (1770-1831) تجاوز الفروق بين هذين البديلين عن طريق وصف العلاقة بين الذاتي والموضوعي بطريقة جديدة، كما سنرى. ومنذ نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، سيبرهن شيلينج على أن وصف هيجل للمثالية عاجز عن فهم الملامح المحورية للوجود الإنساني.
شكل : فريدريش فيلهيلم جوزيف شيلينج، عام 1848.
1
Bilinmeyen sayfa
في الحداثة، من الصعب أن تصمد فكرة الانتماء إلى كل ذي معنى، ويعني التمدن أن الاتصال المباشر بالطبيعة يميل إلى الانحسار بالنسبة إلى شرائح كبيرة من السكان. ويتزايد أيضا خضوع الطبيعة لآثار تحليل العلم لعناصرها، وهذا الخضوع يعطي أولوية لموضعة المناهج على الطرق الأخرى لفهم العالم. والنتيجة يمكن أن تكون كبتا لجوانب معينة من ذواتنا، مثل الحاجة إلى التعامل مع العالم على أنه ذو مغزى في جوهره؛ وسيسمي عالم الاجتماع ماكس فيبر فيما بعد هذا النهج في تفريغ المعنى من الطبيعة ب «التحرر من أوهام» العالم. لكن - كما يتضح الآن من الأزمة البيئية - توجد على الأرجح حدود لقدرة البشر على إخضاع الطبيعة، ويبدي شيلينج بالفعل ملاحظات نقدية عن الآثار المدمرة لاعتبار البيئة مجرد موضوع للأهداف البشرية في نهاية القرن الثامن عشر. وبالمثل، يطالب بيان رسمي موجز - غالبا ما يشار إليه ب «البرنامج الأقدم لنظام المثالية الألمانية» عام 1796 (مؤلفه شيلينج أو هيجل أو صديقهما الشاعر فريدريش هولدرلين 1770-1843) - ب «ميثولوجيا العقل»، وسيعمل هذا على مواءمة رؤية العالم العلمية الجديدة مع الأشكال الرمزية الموظفة في حياة الناس اليومية. فما يخبرنا به العلم الحديث يجب أن تصاحبه قرارات بشأن ما ينبغي فعله عن طريق إيجاد طرق لإيصال وتقييم المعرفة تشرك التخيل الجمالي والأخلاقي لجميع مستويات المجتمع، على النحو الذي قد انتهجه علم الأساطير في المجتمعات التقليدية. وعلى الرغم من أنه سينظر إلى هذه الرؤية على أنها متعذرة التحقيق، فإن التناقضات التي أحدثتها لا تزال ظاهرة في إخفاق القدرة التكنولوجية المتزايدة للجنس البشري على إيجاد عالم أكثر عدلا وإنسانية.
تحاول أيضا المثالية الألمانية حل التناقضات التي تنشأ عن تآكل النظام الذي تمثله فكرة أن سلطة الملك مستمدة من الإله، فضرب عنق الملك في كل من الثورتين الإنجليزية والفرنسية يلخص تغيرات وقعت في طبيعة الشرعية المميزة للحداثة؛ إذ يجب أن يؤسس النظام الآن بحرية بمعرفة البشر، من دون احتكامات إلى سلطة أعلى. ولكن المصالح البشرية متشعبة بطبيعتها، ولا سيما عندما يزداد الحراك الاجتماعي كنتاج لظهور الرأسمالية، فكيف إذن يمكن شرعنة السلطة بوجه عام؟ فالثورة الفرنسية تمارس الإرهاب باسم العقل، وتشي الطرق التي يمكن بها للمبادئ العالمية أن تؤدي إلى اللاإنسانية بالحاجة إلى مناهج جديدة لتصالح الفرد والمجتمع. وتتضح الصعوبات التي ينطوي عليها هذا التصالح في حقيقة أن عمل هيجل على هذه القضية في «فلسفة الحق» (1820) قد قرئ على أنه أول دفاع شمولي عن سلطة الدولة التي تعلو على الفرد. ومع ذلك، فالأمور ليست بهذه السهولة، وكما يرى هيجل فدون نظام اجتماعي يحكمه القانون لن تكون للفرد حقوق من الأساس؛ فالحقوق تعتمد على الإقرار بأن القانون يطبق على النفس وعلى الآخرين. ويأتي فهم اعتماد المصطلحات المتعارضة على بعضها - كالحال بين «الإرادة العامة» للدولة وإرادة الفرد - في صميم الفكر المثالي الألماني الذي يسعى إلى التغلب على التناقضات الاجتماعية والفلسفية التي نشأت من نهاية النظام الإقطاعي.
مصادر المثالية الألمانية
إن المثالية الألمانية ليست مشابهة لمثالية بيركلي التي فيها «الوجود إدراك». ومع ذلك، فإن أحد مصادرها هو التساؤل عما إن كان كانط - على الرغم منه - مثاليا بركليانيا. يرفض كانط المثالية؛ إذ إنه على الرغم من أننا نعرف الأشياء من خلال الطريقة التي ندركها بها، فإنها لا تزال موجودة «في ذواتها»، فكيف مع ذلك ترتبط المظاهر بالأشياء في ذواتها؟ في عام 1789 شكك فريدريش هاينريش جاكوبي (1743-1819) في دعوى كانط أن الأشياء في ذواتها تسبب المظاهر. فبالنسبة لكانط، يربط السبب مظهرا بآخر يخلفه بالضرورة، والأشياء في ذواتها لا تظهر؛ ولذا لا يمكن - حسب كانط نفسه - أن يقال عنها إنها تسبب المظاهر. وهذا على ما يبدو يطرح الاختيار بين بديلين: إما التخلص من الأشياء في ذواتها بالكلية عن طريق تبني مثالية شاملة، وإما التخلي عن المثالية المتعالية، مع خطر العودة إلى الميتافيزيقا «الدوجماتية» التي انتقدها كانط. ويشكل التغلب على ما هو محل نزاع في هذا البديل إحدى المهام الجوهرية للمثالية الألمانية.
توضح تساؤلات جاكوبي عن اتجاه الفلسفة في هذا الوقت السبب في أن اهتمامات المثاليين الألمان أكثر من كونها مجرد اهتمامات إبستمولوجية. وقد نشأ ما يسمى «جدل وحدة الوجود»، الذي بدأ عام 1783، حول دعوى جاكوبي عن أن كاتب حركة التنوير جي إي ليسينج قد أقر بكونه إسبينوزيا، وكان إسبينوزا قد حرم كنسيا من قبل الكنيسة اليهودية الهولندية بسبب الإلحاد عام 1656، وكان الإلحاد لا يزال غير مقبول للسلطات الحاكمة في ألمانيا في القرن الثامن عشر. وفي نهاية القرن، فقد فيشته عمله الأكاديمي نظرا لاعتباره ملحدا؛ فإله إسبينوزا ليس هو خالق العالم والمشرع له، بل مجموع الطبيعة المنظم: فالإله والطبيعة سواء. وفي نظام إسبينوزا، تعتمد ماهية الأشياء على عدم كونها أشياء أخرى، لا على شيء متأصل في ذواتها. وكل شيء «يقيد بشروط» الأشياء الأخرى، وهي بدورها تقيده. ويرى جاكوبي أن هذا يؤدي إلى تسلسل من «شروط الشروط»، لا يمكن تبرير أي تفسير فيه على نحو قاطع؛ ومن ثم فالمعرفة الأساسية تتطلب شيئا «غير مشروط». وبالنسبة لجاكوبي، هذا هو الإله الذي يجعل التفاصيل أجزاء ذات معنى لعالم نستثمر فيه معرفيا وأخلاقيا وعاطفيا، لا مجرد أجزاء من نظام ميكانيكي. ويتوقف تسلسل التفسيرات - في رأي جاكوبي - عن طريق إدراك أن «إيماننا/اعتقادنا» في الحقيقة لا يمكن تبريره بمصطلحات معرفية (والتي تؤدي إلى التسلسل الموصوف توا)؛ ولذا يتوجب عليه اللجوء إلى علم اللاهوت. ولكن إذا كان غير المشروط سيكون بمنزلة تفسير فلسفي (أي تفسير لا يرى الإله على أنه تفسير لعالم الشروط)، فالمرء ينتهي إلى موقف متناقض من «تحتم اكتشاف شروط لغير المشروط»؛ لأن التفسير هو بدقة إيجاد شروط الشيء.
ولذلك، فالمثالية الألمانية تحاول إيجاد طرق جديدة لتفسير «غير المشروط» أو «المطلق»؛ ففي العلم الحديث، تفسر الأشياء عن طريق طلب شروط للشروط. وفي اعتقاد جاكوبي أن هذا يعني أنه لا توجد شرعية نهائية للعلم؛ فالمرء بإمكانه دوما أن يسعى وراء تفسيرات سببية، لكن لا يمكن أن يوجد سبب نهائي لفعل هذا. علاوة على ذلك، فالعلم لا يمكنه أن يؤدي وظيفته إلا في عالم قد كشف نفسه بالفعل على أنه مستساغ ومفهوم «قبل» أن نطلب أوصافا علمية له. (وهذه النقطة ستشكل لاحقا جوهر فكر هايدجر.) ويعتبر جاكوبي ما ينشأ عن مذهب إسبينوزا «عدمية»؛ لأنه لا يقدم وصفا للكيفية التي يكون بها الوجود قابلا للفهم من الأساس، فيجب أن يوضع سبب الانخراط في النشاط العلمي في نطاق الفعل البشري. لكن المشكلة هي كيف يمكن شرعنة الفعل، وهذه هي المشكلة التي سيكون حلها هو فهم «المطلق».
ومن ثم، يمكن فهم المثالية الألمانية على أنها استكشاف لفكرة أن الذاتية «غير مشروطة». وفي محاولاته خلال الفترة ما بين 1789 و1790 تقريبا لجعل كانط أكثر إقناعا لجمهور أعرض من الناس، أصر كارل ليونهارد راينهولد على أن الفكر في حاجة لأساس إذا كان يتعين تجنب تسلسل من النوع الذي وصفه جاكوبي، ورأى أن «حقيقة الوعي» لم تكن نفسها مشروطة؛ لأنها أساسا هي ما يمكننا من أن نكون مدركين للشروط. وأكد ميمون على أن تمييز كانط بين القابل والتلقائي تتعذر استمراريته، فوجود العالم الموضوعي مستنبط من السببية المفترضة للأشياء في ذواتها؛ لكن مقولة السببية تعتمد على الذات وليس على الموضوع، وما هو مسبب هو إدراكات «الذات». وعليه، فإن علاقة الذات-الموضوع تستلزم فقط نوعين من الوعي: لاوعيا ذاتيا وعالما موضوعيا منفصلا، ويظهر العالم موضوعيا؛ لأن ما ينتج إدراكات «العالم الخارجي» هو الجانب «اللاواعي» من الذات. إن فكرة هامان أن القابل والتلقائي لا يمكن أن يكونا منفصلين بالكلية فكرة فاصلة بالنسبة إلى المثالية الألمانية. وإذا كانت القابلية السلبية والتلقائية الفاعلة في الظاهر درجتين مختلفتين في الحقيقة لنفس «الفاعلية»، فإن الفجوة بين الذات والعالم يمكن سدها، وعندئذ سينظر إلى الوعي على أنه وعي «بالعالم» بمعنيين: فهو ينتمي إلى العالم كشيء ينبثق من الطبيعة، كما أنه يجعل العالم موضوع المعرفة والفعل. والسؤال هو: كيف يفسر هذان المعنيان؟
فيشته
إن الفرض المحوري لفيشته هو أن فاعلية الإرادة الحرة للذات هي جوهر الفلسفة، فيمكن للذات فهم العالم بطريقة موضوعية، لكن لا يمكن أن تكون هي نفسها موضوعا. وبالنسبة لفيشته، فإن الذات حرة الإرادة يجب ألا تقيد بأي شيء خارج عنها؛ فلو كانت قابلة للتفسير من خلال ما يقيدها لكانت مجرد موضوع تحدده القوانين الطبيعية. ويمكن تصور الذوات البشرية مجرد روبوتات شديدة التعقيد، ومع ذلك - بالنسبة إلى فيشته - فقدرة الذوات على «التأمل» هي التي تؤكد على أن هذا لا يمكن أن يكون واقع الأمر؛ فما يمكننا من التأمل في معرفتنا وفعلنا ليس أية علة من النوع الذي نقابله في الطبيعة، بل حريتنا. ومن ثم، تنطوي «الأنا» التي يمكنها التأمل على شيء «مطلق»، غير مقيد بأي شيء خارج ذاته. وفي التأمل، يظهر الذاتي جزءا من «نفسه» في شيء موضوعي، لكنه لا يفعل ذلك مدفوعا بشيء موضوعي. والموقف الذي يقرر فيه المرء أن يكون ناقدا لنفسه يمكن أن يوحي بالمراد هنا، فالمرء بفعله ذلك «يردع » نفسه من أجل إعلاء قيمة الدلالة الموضوعية لما يتحتم عليه فعله، وبعبارة فيشته، فإنه ينظر إلى العملية الأساسية على أنها «الأنا المطلق» الذي لا ينطوي على شيء يعتمد على شيء غيره، مقسما نفسه ومؤسسا بذلك العلاقة بين الذاتي والموضوعي، الأنا واللاأنا.
ولأن المرء يمكنه أن يرى الكون نفسه بطرق مماثلة - حيث يصبح الكون موضوعا منفصلا عن الذات عندما ينشأ الوعي - فليس من الواضح دوما كيف أعد فيشته تصوره؛ فقبل أن يوجد الوعي كان الكون موجودا «في ذاته»، ثم أصبح بعد ذلك موجودا «من أجل ذاته» - وهي مصطلحات سوف يستخدمها جان بول سارتر، على سبيل المثال، لاحقا فيما يتعلق بالذات الفردية. وتعني كلمة
Bilinmeyen sayfa
Gegenstand - أي الموضوع - الشيء الذي «يعارض» شيئا آخر، والذي هو في هذه الحالة الأنا. وبالنسبة لفيشته، يقسم «الأنا المطلق» إلى ذات نسبية وموضوع، لكن يجب أن يظل الذاتي مسيطرا على الموضوعي، وإلا فالعالم لن يتطور أبدا. فالعالم الموضوعي لا يمكن معايشته كموضوعي إلا عن طريق ذات؛ ولذا فالذات يجب أن تكون سابقة. وإذن، فالغرض من الوجود إنما يوجد في فاعلية الذات، في العقل العملي لا النظري.
لا يزال المعلقون على فيشته غير متفقين على ما يعنيه بالضبط؛ فكيف على سبيل المثال ترتبط الذوات البشرية الفردية - التي ربما نادرا ما تمارس حريتها في الحقيقة - بالمبدأ التوليدي للذاتية المضمن في «الأنا المطلق»؟ يصف فيشته «الأنا» بأنها «عمل-فعل»، في مقابل «حقيقة». ف «الأنا» هي بداية مطلقة؛ لأنها لا تستمد من شيء سوى نفسها، وإلا فحرية الإرادة وهم. لكنه في دعواه أن «الوعي بشيء خارجنا ليس قطعا سوى نتاج قدرتنا على التفكير»، يجعل «الوعي» بالشيء خارجنا هو وحده نتاج قدرتنا على التفكير، وليس الشيء نفسه؛ ولذا يمكن النظر إليه على أنه يقدم شكلا من أشكال المثالية المتعالية لكانط. لكن كيف يمكن للمرء أن يفهم «الأنا» في الفلسفة من دون تحويلها إلى موضوع؟ وجواب فيشته أن هذا يحدث عن طريق «حدس عقلي»، «أعرف من خلاله الشيء؛ لأنني أقوم به»، بدلا من معرفته كشيء موضوعي. ويدور كثير من التطور التالي للمثالية الألمانية حول تداعيات هذا المصطلح.
والسبب هو أن ذلك الحدس العقلي يتعلق بالطريقة التي تصف بها الفلسفة اتصال العقل بالعالم؛ فقد رأى كانط الحدس العقلي على أنه نوع من الفكر المميز للإله، الذي يخلق الموضوع الحقيقي عن طريق التفكير فيه؛ وكان هذا يعني أنه أنكر إمكان وجود ذلك الحدس لدى عقول محدودة مثل عقولنا. وبالنسبة لفيشته، فإن التزامن في الحدس العقلي لفعل التفكير مع ما يفكر فيه هو ما يتغلب على فكرة الفجوة بين العقل والعالم. ولكن أليس هذا - كما سيعترض جاكوبي - ضربا من النرجسية يعكس فيه التفكير نفسه أمام نفسه فحسب؟ يبدو أن الأهمية التي وضعها فيشته على الذات لا تترك مجالا لأي استقلال لعالم الطبيعة، الذي يصبح مجرد موضوع للفاعلية البشرية. وعلاوة على ذلك، فإن تبرير التأكيد على «الأنا» يعتمد على فعل الحدس البشري الذي يمكن الوصول إليه فقط عبر فعل التأمل، فكيف يتصل تأمل ذات واحدة بتأمل ذات أخرى؟ إن تأكيد فيشته على حرية الإرادة الفردية يعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية الحيوية في العالم الحديث، لكنه أيضا يوحي بالأخطار. ومن شيلينج إلى هايدجر وما وراءهما، ينظر في الغالب إلى مشكلات العالم الحديث على أنها تتصل بدافع الذات إلى الهيمنة على ما يعارضها.
شيلينج
بعد أن طرح في البداية موقفا قريبا من موقف فيشته، يخلص شيلينج إلى اتهام فيشته باختزال الطبيعة في كونها موضوع الغايات البشرية، بينما ينبغي فهمها أيضا على أنها مصدر للمعنى والغاية. وفي نهاية القرن الثامن عشر، ربط تطوير إعلاء جديد لقيمة جمال وعظمة الطبيعة غير البشرية بالبحث عن الاهتداء في عالم يتزايد النظر إليه على أنه يفتقر إلى الأسس اللاهوتية، وكان ظهور علم الجمال في النقد الثالث لكانط وثيق الصلة أيضا بإعادة تقييم علاقات الجنس البشري بالطبيعة، فليس مصادفة إذن أن يحاول شيلينج في أعماله أن يطور مفهوما جديدا للطبيعة، ويرى الفن على أنه طريقة لفهم العلاقة بين العقل والعالم.
إن أفضل طريقة لتناول «فلسفة الطبيعة» لدى شيلينج إنما تكون من خلال فكرة «التنظيم الذاتي»؛ فعندما يتطور نظام عضوي عن طريق تفاعل مكوناته يصبح أكبر من مجموع أجزائه المادية التي يحكمها القانون. ويرى شيلينج التطور العضوي مرتبطا بحرية الإرادة الإنسانية؛ لأن كليهما ينطوي على ما هو أكبر من التقرير عن طريق القوانين الطبيعية. وتتضح الحاجة لربط أنفسنا بالطبيعة على نحو أكثر ملاءمة في الفصل الديكارتي بين العقل والطبيعة: «يستطيع المرء أن يدفع بما يشاء من المواد العابرة الكثيرة ... بين العقل والمادة، لكن يجب أحيانا أن تأتي المرحلة التي يكون فيها العقل والمادة كيانا واحدا.» ويتناول شيلينج تفرقة إسبينوزا بين الطبيعة «المنتجة» و«المنتجات» الموضوعية للطبيعة فيما أسماه
natura naturata . فالأولى تشير إلى مفهوم بديل للطبيعة عما نجده في العلوم الطبيعية، والحقيقة الأساسية بشأن الطبيعة هنا أنها تتضمن الحياة وتتطور إلى أشكال جديدة؛ فبينما تعتمد العلوم على تحليل الأجزاء، تهتم فلسفة الطبيعة بالروابط الأساسية بين تلك الأجزاء. وفي ضوء الأزمة البيئية، فإن ذلك النهج يبدو ذا بصيرة؛ فهو يوضح كيف أن التحليل التجزيئي عن طريق العلوم الجزئية ربما يكون غير قادر على فهم تفاعل الجوانب المنفصلة - وإن كانت في النهاية متصلة - للطبيعة ككل. وتهدف فلسفة الطبيعة لدى شيلينج إلى ربط «الإنتاجية غير الواعية» للطبيعة ب «الإنتاجية الواعية» للعقل. والفكر هو النقطة التي عندها «تعود الطبيعة تماما إلى نفسها»، وهو يكشف أن «الطبيعة متطابقة في الأساس مع ما هو معروف فينا على أنه ذكي وواع.» فدون فكر تكون الطبيعة مبهمة، وبدون الطبيعة لا يتمكن الفكر من الحدوث إطلاقا؛ ومن ثم فالمهمة هي فهم الانتقال من الإنتاجية اللاواعية إلى الواعية.
وهنا يظهر انقسام في الفلسفة الألمانية بين النظريات التي تسعى إلى وصف تصوري كامل لكيفية اتصال العقل بالعالم والمناهج التي تحتكم إلى الأشكال اللاتصورية من «الحدس»، وخطورة الأخيرة أنها يمكن أن تؤدي إلى إهمال الحجة العقلية، لكن توجد أسباب جدية لأنواع معينة من الاحتكام إلى «الحدس». ويؤكد شيلينج في كتابه «نظام المثالية المتعالية» (1800) أن الأعمال الفنية هي التجسيد الموضوعي ل «الحدس العقلي». وإذا كان الحدس العقلي واقعا داخل الذات، كحال المعرفة عن طريق الفعل لدى فيشته، فمن غير الواضح كيف يمكن أن يلعب دورا تسويغيا في الفلسفة. وبالنسبة لشيلينج، يتطلب إنتاج الفن إنتاجية غير واعية تأخذ الفنان إلى وراء ما تحكمه قواعد الوسيط الفني الموجودة. وعن طريق إظهار هذه الإنتاجية اللاواعية في شيء موضوعي يمكن إدراكه على نحو واع، يظهر الفن ما لا يمكن للفلسفة أن تقوله؛ ومن ثم فإن الفن هو «أداة» الفلسفة، وهو وسيط سهل المنال للعامة يعبر عن كيفية اتصال الواعي باللاواعي. وإذا نظرنا إلى عمل فني على أنه موضوع للمعرفة يجب أن تحدده التصورات، فلن نفهم كيف يمكنه تغيير علاقة الذات بالعالم؛ فالفن يمكنه فعل هذا لأنه يمكن دوما تفسيره بطرق جديدة، وهذا يجعل معنى الفن «لا متعينا» على نحو ما؛ لأنه لا يمكن تقريره بصورة قاطعة. ولكن بدلا من أن يكون إخفاقا فلسفيا، يظهر هذا اللاتعين - الذي يجعل العمل «لا متناهيا» على نحو ما - كيف يمكن السمو فوق عالم المعرفة المتناهية، دون إطلاق دعاوى فلسفية «دوجماتية».
لا يؤيد شيلينج فكرة الفن كتوفيق بين الذاتي والموضوعي، ويرى أنه لو وجد تناغم بين الذاتي والموضوعي فإن الحرية ستكون مجرد جزء من الغرض العام للطبيعة، وسيكون كل شيء مقررا سلفا. ومن حوالي عام 1809 فصاعدا، يخلع شيلينج على فكرة الحرية صفة الراديكالية عن طريق رؤيتها من حيث إمكانية فعل الشر، من خلال التأكيد على إرادة المرء على نحو لا تحكمه الأعراف الموجودة. ودون هذه الإمكانية، فإن «جوهر» الحرية - الذي يتطلب شعورا بانفتاح محتمل - يكون مفتقدا. لا ينكر شيلينج الضروريات في الفكر العقلاني ولا يتوقف عن محاولة تطوير فلسفة منهجية، ومع ذلك فهو يشكك في فكرة أن العقل يمكنه تفسير وجود ذاته؛ ولذا يقدم احتمالا أساسيا في التفكير الذي هو على خلاف مع مشروع المثالية للتوفيق بين العقل والعالم.
وتصبح مهمة فلسفة شيلينج اللاحقة هي فهم كيفية ظهور العالم المفهوم أصلا من حالة قبل عقلانية. فمنذ حوالي نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر حتى وفاته عام 1854، يشكك شيلينج في نفس إمكانية إدراك أهداف المثالية الألمانية:
Bilinmeyen sayfa
بعيدا ... عن الإنسان وفاعليته التي تجعل العالم قابلا للفهم، فإن الإنسان نفسه هو الأكثر استعصاء على الفهم، وهو ما يدفعني باستمرار إلى القول بتعاسة كل الوجود ... إنه - أي الإنسان - يدفعني بدقة إلى السؤال اليائس الأخير: لماذا يوجد أي شيء من الأساس؟ ولماذا لا يوجد عدم؟
إنه يظن أن محاولة هيجل لحل مشكلات الفلسفة الحديثة من حيث الكيفية التي بها يتمكن «الإنسان وفاعليته من جعل العالم مفهوما» تخفق في مجابهة التنافر بين الفكر والوجود الذي يمتد إلى صميم محاولاتنا لفهم أنفسنا. وهذا الشعور بالتنافر يقود شيلينج إلى تأملات جديدة عن كيفية اتصال الفلسفة بأشكال التفكير الميثولوجي السابقة على الفلسفة، وعن علاقة الفلسفة بالدين.
هيجل
شكل : جورج فيلهيلم فريدريش هيجل.
2
يشتهر هيجل بدعاوى من قبيل «الواقعي هو العقلاني»، والتي يبدو أنها توحي بعدم وجود أساس فلسفي للشك في مدى تشكل العالم على نحو عقلاني، كما أنها تخالف على نحو صادم التأكيدات المقتبسة توا من شيلينج. وقادت هذه الدعاوى كارل ماركس وآخرين إلى رؤية هيجل على أنه مدافع عن واقع سياسي غير عادل في ألمانيا التي كانت لا تزال إقطاعية. وقد كان شيلينج وهيجل صديقين حتى اختلفا قبيل وقت نشر هيجل لكتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح» (حيث يمكن ترجمة الكلمة الألمانية
Geist
على كلا الوجهين بناء على السياق) عام 1807. فكيف اختلفا في تقييماتهما لقدرة الفلسفة على فهم العالم الحديث؟ إحدى الطرق للإجابة عن هذا تكون من خلال السؤال عن «الحدس» وعلاقته بمذهب الشك؛ فبينما يسعى العلم الحديث إلى ترسيخ نفسه، يتضح أن كثيرا جدا من الاعتقادات التقليدية المعتنقة على نحو جازم لا يمكن الدفاع عنها. ولكن ما الذي يضمن ألا يتطرق الشك على نحو متساو إلى الاعتقادات العلمية الجديدة، لا سيما وأن العلم الحديث يحيا على تفنيد نظريات وإحلال أفضل منها محلها؟ يقصد بالاحتكام إلى الحدس العقلي إقامة صلة أساسية بين الفكر والواقع تتفادى مذهب الشك، لكن فيشته وشيلينج يشتركان في مسألة أن فكرة الحدس بطبيعتها لا يمكن التعبير عنها في تصورات؛ فهي إما شيء الأفراد الأحرار فقط هم القادرون عليه (فيشته)، وإما شيء نفهمه من خلال ما يظهره الفن من كيفية ارتباط الذاتي والموضوعي (شيلينج في البداية).
يرى هيجل أنه لا يمكن التسليم جدلا بالحدس العقلي في بداية نظام فلسفي كأساس تبنى عليه البقية، وإنما يمكن الوصول إليه فقط بعد أن تكون الفلسفة قد عايشت الطرق التي يتفاعل فيها الفكر والواقع وعبرت عنها، وهذه الطرق يمكن أن تتراوح بين ردود الأفعال البدائية للكائنات الحية تجاه بيئتها وأعلى أشكال التفكير التصوري، الذي تتأمل فيه الفلسفة في الكيفية التي من خلالها أصبحت هي نفسها ممكنة. ويتمثل العامل الفاصل في تقييم فلسفة هيجل هنا في بيان ما إذا كان هذا ردا كافيا على ما تتضمنه قضية الحدس.
بالنسبة إلى هيجل، فإن فهم «السبب» في أن دعاوى معينة للحقيقة يتبين زيفها أمر يقلب المذهب الشكي ضد نفسه، وهذا لأن المعرفة لا يمكن أبدا أن تبدأ من شيء «مباشر»، بمعنى شيء لا يحتاج أن يرتبط بأي شيء آخر ليكون على ما هو عليه. فتوصيفات النظام الشمسي، على سبيل المثال، لا تبدأ بمعطيات «مباشرة» تفسر بعد ذلك في نظرية، بل تبدأ بتفسير ميثولوجي «متوسط» بالفعل لطبيعة الأجرام السماوية. واكتسب هذا التفسير صبغة أكثر منهجية في علم الفلك البطلمي، ثم تغير مجددا عندما أوضح كوبرنيكوس وجاليليو طبيعة النظام الشمسي المتمركزة حول الشمس. فالنظرية الأكثر معقولية تنشأ عن كشف النقائص في النظرية السابقة، وليس عن الوصول المباشر إلى الحقيقة.
Bilinmeyen sayfa
ويسمي هيجل هذه العملية «النفي المعين»؛ فالنظريات المفندة لا تطرح جانبا، بل تسمح بوضع نظريات أفضل. فالفلسفة توضح كيف أن كل فهم معين لشيء ينطوي على قصور يقود إلى وصف أكمل. وفي النهاية، يؤدي إظهار أوجه القصور تلك إلى التعبير في نظام فلسفي عن كل الطرق التي يمكن بها للأشياء أن ترتبط بعضها ببعض. ويبلغ هذا النظام ذروته في «الفكرة المطلقة»؛ أي بيان السبب في أن كل الحقائق الجزئية تعتمد على علاقاتها بحقائق أخرى لتبريرها، ومن ثم لا توجد دعاوى إيجابية حاسمة حتى يتم إظهار أوجه القصور في كل الدعاوى الجزئية.
يتعقب كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» الهياكل المتضمنة في كيفية «ظهور» العقل. وتتضح طبيعة هذا المنهج من فكرة أن العقل يظهر، لا كونه الشيء الذي يظهر له العالم. ولعل النظر إلى الطريقة التي يمكن بها للذات أن تكون على اتصال حقيقي بالموضوع هو الأسلوب الخطأ لتناول نظرية المعرفة. ويستخدم هيجل مجازا تعلم السباحة؛ فإذا لم يدخل المرء إلى الماء فلا يمكنه تعلم السباحة، وبالطريقة نفسها لا تتسنى للمرء المعرفة دون الانغماس بالفعل فيما ينبغي معرفته. ويعطي كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» وصفا تتبعيا للعلاقات التاريخية بين الذات والموضوع، الأمر الذي رآه كانط في صورة مقولات سرمدية للفكر؛ فلكي يتطور الفكر من الأساس يتحتم أن يكون شيء ما مفقودا. وحتى على المستوى الغريزي، يكون جوهر علاقة الشيء المفتقد ل «غيره» حاضرا، فالكائنات الحية تحتاج طعاما وتحتاج إلى التكاثر، ودون وجود «الآخر» لا يمكنها الوجود؛ ومن ثم يكون كل شيء في جانب منه هو نفسه وليس نفسه في ذات الوقت: فالطعام الذي تأكله ليس أنت، لكنه يصبح أنت. والتغلب على احتياج ما يعني أن الذات تعتمد على الموضوع، لكن هذا الاعتماد ليس في حد ذاته أساس مزيد من التطور. ولكن، فقط عندما يتطور وعي مستدام بالاعتمادية تنشأ الفكرة في شكل - مثلا - ذكرى ما يلبي الحاجة.
وقد أشار تيري بينكرد إلى تصور هيجل على أنه وصف ل «السلوك الاجتماعي للعقل»؛ إذ يشرح كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» كيف يسمح الاعتماد بأنواع جديدة من العلاقات بين الناس والأشياء. ومن منطلق الموقف الذي ترى فيه النفس الآخر دوما على أنه تهديد - يقصد هيجل هنا مقولة هوبز «حرب الجميع ضد الجميع» التي تسبق العلاقات القانونية - تنشأ القدرة على افتراض أن الآخر له حقوق كما لي حقوق. وفي الواقع، فمن دون الإقرار المتبادل بين النفس والآخر، لن يكون للحقوق أي وجود ملموس من الأساس. وفي فقرة شهيرة من كتاب «فينومنولوجيا العقل /الروح» عن «السيادة والعبودية»، يستهلك السيد منتجات العبد الذي قد أخضعه لنفسه؛ فالاعتماد الناتج للسيد على العبد يمكن الأخير من تطوير قدرته على معالجة العالم، إلى الحد الذي يمكن أن يكون فيه أقوى من السيد. فالفقرة نموذج للكيفية التي تغير بها علاقات القوة بين الذاتية الناس وعلاقاتهم بالعالم، كما أنها تأمل تاريخي في كيفية تجلي هذا النموذج في زوال الأرستقراطية الإقطاعية في الثورة الفرنسية.
يوضح هذا المزيج من التجريد النظري والإحالة المادية للتاريخ فكرة هيجل في أن الفلسفة هي «تجسيد لفكر عصرها»، وليست تمثيلا حقيقيا خالدا للعالم. لكن ثمة دوافع متصارعة لدى هيجل بين (أ) فكرة أن الفكر تولده تفاعلات تاريخية جزئية بين الناس والعالم، وهي طريقة لقراءة كتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح»، و(ب) هدف إعطاء وصف فلسفي حاسم لهياكل كل تلك التفاعلات، وهو ما يقدمه في «علم المنطق» (1812-1816). فالأول ربما يشير إلى «نهاية الفلسفة»؛ لأنها لم تعد تتطلب وصفا للطبيعة النهائية للأشياء، والأخير يصر على ضرورة أن يكون الوصف نفسه المسجل للحقيقة على مدى التاريخ صادقا على نحو لا يخضع للتغير التاريخي. وتعتمد التفسيرات المختلفة لهيجل على الجانب الذي ينظر إليه على أنه جوهري في فلسفته.
غالبا ما ينظر إلى هيجل على أنه مفكر نظري جدا؛ وهو ما أدى إلى تجاهله في معظم الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية حتى وقت قريب، لكن قضية «المباشرية» تعطي صورة مختلفة، فكثير من الفلاسفة التحليليين اعتبروا أن «معطيات الحس» هي أساس المعرفة؛ لأن الدليل الشهودي ضروري للعلم السليم. ومع ذلك، تعد هذه النظرة الفلسفية لمعطيات الحس مثالا على «المباشرية». وفي «فينومنولوجيا العقل/الروح»، يستعين هيجل بالبيانات اليقينية «المباشرة» الأوضح ظاهريا أمام المرء في اللحظة الراهنة، ويتمثل هذا (في حالتي) في هذا الكمبيوتر الموجود هنا الآن، ولكن نظرا لأنه يتعين دوما توسيط إدراكات جزئية معينة عن طريق التصورات العامة التي نستخدمها للتعرف عليها، فلا يوجد شيء مفهوم في البيانات غير المتصورة من الأساس. ويوضح هيجل أن الألفاظ «الدلالية» - «هذا»، «هنا»، «الآن» - هي كليات تتوسط بالفعل لمضمون إدراكي عن طريق تمكيني من التركيز على شيء معين، وتصبح «هنا» هي هذه النافذة إذا نظرت خارجها الآن، بدلا من الكتابة. وتنطوي هذه الدعوى على شكل مختلف من التركيب الأساسي للفكر الهيجلي؛ فكل ورود للألفاظ «هذا» و«هنا» و«الآن» ينفي السابق واللاحق من «هذا» و«هنا» و«الآن»؛ ولذا تفتقر جميعها إلى شيء ما، لكن مجموع مرات ورود «هذا» و«هنا» و«الآن» هو المجموع الإيجابي للمكان والزمان. وتظهر حقيقة الجزئي من خلال توسطها عن طريق تصورات عامة، وإلا فهو غير محدد. وكما هو الحال في فلسفة كانط، لو لم توجد أحداس لكانت التصورات خاوية، ودون التصورات لكانت الأحداس عمياء.
إن «جدلية» هيجل هي العملية التي تتغير فيها مادة علاقاتنا وشكلها بالعالم بالنسبة إلى بعضها ببعض. وبالنسبة لهيجل، فإن «تصور» موضوع ليس (كما هو الحال لدى كانط) مجرد قاعدة لتعريف شيء، بل يشمل بدلا من ذلك كل الطرق التي يفهم بها الشيء عن طريق انخراطنا فيه. ومن ثم لا يوجد «شيء في ذاته»؛ لأن الشيء إنما يصبح شيئا عن طريق كونه بالنسبة لنا. ويرى هيجل أن «الشيء في ذاته» لدى كانط هو نتاج لتجريد الشيء عن كل شيء نعرفه عنه، وهذا يتركنا بلا شيء حقيقي على الإطلاق، فقط فكرة عامة لا متعينة. فالمباشرية الظاهرة للشيء يتم الوصول إليها بالفعل عن طريق التوسط؛ أي نفي ما نعرفه عنه بالفعل.
يستخدم هيجل هذه الأنماط من الفكر لوصف جميع الأبعاد الأساسية للعالم الحديث، من العلم إلى القانون والسياسة، إلى التاريخ، وإلى الفن. فالانتقال من المباشرية اللامتعينة إلى التوسط يعتمد على ربط الأشياء على نحو أكثر توسعا بما ليست عليه. وفي «فلسفة الحق»، على سبيل المثال، يكتسب الفرد «المباشر» هويته المبدئية من خلال الأسرة، لكن مطالب الأسرة جزئية وتحتاج إلى قانون الدولة إذا كان يتعين توفيقها مع مطالب الأسر الأخرى. ومع ذلك، فالمشكلة هنا أن الشرعية التي تأتي بالنسبة لهيجل في المستوى الأعلى يمكن في المواقف الملموسة أن تؤدي إلى كبت المستوى الأدنى على ما يفترض.
إن انتقادات هيجل للاعتماد على المباشرية معقولة في الغالب، وهي تلعب دورا في التحديات المعاصرة لافتراضات كثير من الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ولكن، لماذا وجد رد فعل مناهض لهيجل منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، ومرة أخرى في الفلسفة التحليلية منذ مطلع القرن العشرين حتى وقت قريب جدا؟ أحد الأسباب لرد الفعل الذي حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو اصطدام دعاوى هيجل فيما يتعلق بسلطة العقل مع مفهوم أن القدرات العقلانية التي أحدثت تغيرات كبرى في القرن التاسع عشر يمكنها أن تؤدي إلى أشكال لا عقلانية من التنظيم المجتمعي؛ فإرسال الأطفال إلى المناجم يكاد يؤكد لا عقلانية الواقع. وفيما بعد، سيتعارض عمل هيجل البلاغي، الذي يتعامل مع مصطلحات مثل «عالم الروح»، مع الاهتمام المتنامي بالتفاصيل التجريبية في العلوم الطبيعية، والتي هي وجهة الفلسفة التحليلية.
مع ذلك، يتم غالبا تجاهل حقيقة ظهور منهج بديل لمنهج هيجل الذي ظهر في «الرومانسية الألمانية المبكرة» التي تبدأ في منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، وهو منهج يشارك هيجل بعض أفكاره، لكنه يفارق العناصر الجوهرية للمثالية الألمانية. فالموقف الهيجلي يمكن أن يوضح كيف أن العقلانية تحقق إنجازات يتعذر تحقيقها، من النوع الذي نجده في إدراكات من قبيل أن الرق لا يمكن الدفاع عنه، وأن النساء ينبغي ألا يعاملن على أنهن أدنى منزلة من الرجال. أما الموقف الرومانسي، فلن ينكر بالضرورة أن تلك الإنجازات نهائية، لكنه سيشكك في طبيعة القصة الفلسفية الكبيرة التي يستخدمها مؤيدو الفكر الهيجلي لتفسير ذلك، وذلك على أساس أن قصة وحدوية لتقدم العقل ربما تحجب مصادر أخرى لتوليد المعنى في العالم الحديث.
هوامش
Bilinmeyen sayfa
الفصل الرابع
الفلسفة «الرومانسية المبكرة»
التهكم
قد يبدو واضحا أن هدف الفلسفة هو اكتشاف الحقيقة النهائية عن العالم، إلا أن فريدريش شليجل (1772-1829)، الذي يعد مع نوفاليس (جورج فيليب فريدريش فون هاردنبرج) (1772-1801) أهم عضو في المجموعة التي يشار إليها عادة ب «الرومانسية الألمانية المبكرة»، يرى أن هذا الهدف ربما لا يكون واضحا بدرجة كبيرة؛ ففي الحقيقة «إنك ستصاب بالكآبة لو كان على العالم كله - كما تطلب - أن يصبح مفهوما تماما، ولو لمرة واحدة على نحو جدي.» فمن الجوانب الرئيسية للفلسفة الرومانسية الألمانية المبكرة - التي هي نتاج فترة وجيزة في نهاية القرن الثامن عشر في يينا - أنها تطرح أسئلة راديكالية عن المهمة الأساسية للفلسفة. وإذا كنا نفكر في الفلسفة من منظور الإبستمولوجيا، فالمهمة هي اكتشاف كيفية التوصل إلى المعرفة. ولكن، من غير المؤكد ما إذا كان التوصل إلى إجابة نهائية للشكوكية سيشكل أي فارق حقيقي لعلاقة معظم الناس بالعالم. وقد كان هيجل يرى التغلب على الشكوكية معتمدا على ما يسبب الشكوكية؛ أي حقيقة أن الحقائق تنفى باستمرار. ولم يعد منهجه يركز على ما إذا كان تفكيرنا يخفق في الاتصال ب «الواقع»؛ لأن «الواقع» هو - بدقة - عملية نفي يحدثها تفاعل الذات والموضوع، الأمر الذي لا يمكن وصفه من منظور فوق دنيوي. وتنطوي «الرؤية من اللامكان» بالنسبة لهيجل على نفس مشكلة «الشيء في ذاته» لدى كانط؛ فهي تتطلب الفكرة التجريدية لاستبعاد أي شيء نعرفه عن الموضوع.
وفي محاضرة عام 1801، يطرح شليجل بالفعل الفكرة التي تدل على الاتجاه الذي سوف يسميه هيجل «النفي المتعين»؛ إذ «تنشأ الحقيقة عندما تحيد الأخطاء المتعارضة بعضها ببعض». ومنهج شليجل «تهكمي»؛ إذ إنه من المرجح دوما بالنسبة له إبطال التأكيدات المثبتة للحقيقة، بالكيفية التي تبطل بها العبارة التهكمية معناها الحرفي، وجواب هيجل عن هذا النوع من التهكم هو البحث عن الموضع الذي يصير فيه المنفي هو المثبت. وفي المقابل، ترى الفلسفة الرومانسية أنه ربما لا توجد غاية نهائية للتهكم، وقد يؤدي هذا فيما يبدو إلى مشكلة أن الدعاوى المزعومة بشأن نسبية الحقيقة كلها يجب أن تكون هي نفسها مطلقة. ومع ذلك، يدرك شليجل هذا الاعتراض: «إذا كانت الحقيقة كلها نسبية، فقضية أن كل الحقيقة نسبية هي أيضا نسبية.» لذا، كيف إذن يحتفظ المرء بالشعور بالمطلق الذي سيمكنه من تجنب هذه المفارقة؟
إن المشكلة التي كشفتها النظرة الرومانسية هي أن المرء لكي يعرف أنه وصل إلى الحقيقة النهائية ، فالأمر يستلزم أن يكون على دراية سابقة بتلك الحقيقة، وإلا فسيكون مستحيلا إدراك أنها الحقيقة النهائية. وينبغي أن تكون هذه الدراية شيئا مثل الحدس العقلي لدى فيشته، الذي شكك فيه الرومانسيون بالفعل من منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر فصاعدا. ويقول نوفاليس: «نحن في كل مكان نبتغي غير المشروط، ودوما لا نجد سوى الأشياء.» ويؤدي عدم الرضا بحدود المعرفة المتناهية إلى شعور باللامتناهي، بدلا من وجود معرفة مثبتة مؤسسة بالطبيعة الجوهرية للامتناهي. ولكن، لا يمكن التخلص من عدم الرضا عن طريق الوصول الفلسفي إلى اللامتناهي. وبالنسبة لنوفاليس، فإن «المطلق الممنوح لنا إنما يمكن معرفته بطريق النفي، عن طريق فعلنا واكتشافنا أنه لا فعل يمكنه الوصول إلى ما نسعى إليه»؛ فما تسعى إليه الفلسفة هو «أساس» مطلق يسمح لها باستكمال نفسها، لكن «إذا لم يمنح هذا، وإذا كان هذا التصور يتضمن استحالة، فإن الدافع للتفلسف سيكون نشاطا لانهائيا». ومن ثم، فالفلسفة نفسها تتخذ مكانة مختلفة، تقترب فيها مما هو قائم في تجربة الفن الحديثة، حيث لا توجد تفسيرات نهائية، بل وجهات نظر جديدة فحسب.
التوسط و«التشوف»
يشترك هيجل والرومانسيون الأوائل في أفكار تتعلق بالوضع الحديث، الذي تبدو فيه كثير من الحقائق عابرة بطبيعتها. لكن اختلافاتهم توحي بانقسام نموذجي في الفلسفة الحديثة، وهو انقسام بين مذاهب تتغلب الذات فيها على الطبيعة المتناقضة للواقع الحديث في الفلسفة، ومذاهب ترتاب في أنه بفعل ذلك فإن الذات لن تجد في العالم سوى ما يعكس صورة نفسه مرة أخرى إليها. وعليه، فإن هدف جعل التفكير شفافا تماما لنفسه - الذي هو أساس تصور المثالية الألمانية لحرية الإرادة - ربما يتبين أنه وهم. وقد اعترض جاكوبي وشلايرماخر بالفعل على فيشته من هذا المنطلق؛ ففي عام 1799، رد جاكوبي في رأي مناهض لفيشته بأن «أصل العقل هو الإصغاء، فالعقل المحض هو إصغاء لا يصغي إلا لنفسه.» ويزعم هيجل أن نظامه نهائي، حتى إن العقل يصبح شفافا لنفسه عن طريق التأمل في علاقاته بالعالم، وهنا أيضا يكون العقل في خطر الإصغاء لنفسه فقط.
إن قوة دعاوى هيجل تكمن - كما أكد معلقون محدثون - في حقيقة أن إنكارها ينطوي على احتكام إلى شيء مباشر. وسوف يزعم نيتشه أن الحافز الحقيقي للفكر هو الدوافع اللاواعية للذات، وليس البحث المحض عن الحقيقة. ومع ذلك، يجب أن يبرر هذا الزعم نفسه، ويتطلب التبرير توسطا. فيكف «نعرف» أن الفكر مستند إلى اللاوعي؟ وإذا اقتبسنا دليلا مثل زلات فرويد التي نستنبط من خلالها أن مصدر قول شخص أو فعله ليس هو الذي يظنه، فنحن بالفعل منخرطون في التوسط. وهذا يدخل القضية فيما يسمى الآن ب «فضاء الأسباب»، عن طريق تفسير آلية الكبت الذي يؤدي إلى الزلات. ويتصل المذهب الهيجلي هنا بحججه عن يقين الحواس، فيجب التشكيك في أشكال الدليل المباشر المفترض عن طريق معايير معرفية مشتركة، وأية محاولة للتحايل على مثل تلك المعايير تتطلب شرعنة تنطوي على احتكام إلى معايير أخرى هي نفسها تتطلب شرعنة.
ويبدو نهج هيجل معقولا جدا، على الرغم مما تطرحه حقيقة كون المعايير الاجتماعية دوما محل نزاع شديد من صعوبة واضحة، ولكن هذه الصعوبة لا تعني أنه ثمة طريق آخر لتبرير شيء ما. وعلى الجانب الآخر، فإن المنهج الرومانسي مهتم بأن الكمال الفلسفي المنهجي - من النوع الذي يرونه لدى فيشته - ربما يقصي الكثير مما هو ضروري لعلاقتنا بالعالم. ولا ينكر شليجل ونوفاليس الحاجة إلى الترابط المنهجي، لكنهما يريانه وكأنه «اللانظام المجلوب إلى نظام». ومثال ذلك ملاحظة نوفاليس أن «كل خرافة وخطأ لدى جميع الأزمنة والشعوب والأفراد تقوم على خلط «الرمز» بالمرموز له - على جعلهما متطابقين - وعلى الاعتقاد في التمثيل الحقيقي التام.» وتكمن جاذبية المذهب الهيجلي فيما يتعلق بالشكوكية في الكيفية التي يتحاشى بها الحاجة إلى دليل تأسيسي يوضح كيف يرتبط العقل والعالم. لكن هيجل يهدف إلى جعل الرمز (النظام) وما يرمز له (الوجود، العالم) متطابقين. فإذا قبل امرؤ عدم الاحتكام إلى دليل تأسيسي في الأمور المعرفية، فإن المذهب الهيجلي يقدم بديلا مقنعا؛ فأي شيء يزعم كونه حقيقيا يجب إخضاعه إلى التوسط، ويبدو من الممكن تحقيق الوصف الفلسفي المنهجي للتراكيب الديناميكية للتوسط، حتى إن لم ينجح هيجل نفسه بالفعل.
Bilinmeyen sayfa
ولعل السؤال الرئيسي الذي ينبثق من الفلسفة الرومانسية، حتى قبل أن يضع هيجل نظامه، هو: لماذا قد لا يتغلب هذا الوصف لتراكيب العقلانية - الذي ينبغي أن يصالحنا مع ضرورة التناقض والمعاناة - على الشعور الحديث ب «الضياع»؟ ويرى شليجل أنه «إذا وجدت الحقيقة، فعمل الروح سيكتمل وسيتحتم توقفها عن الوجود؛ إذ إنها لا توجد إلا في حالة نشاط.» ونظرا لأن شليجل لا يؤمن بإمكانية بلوغ تلك المرحلة، فإن جوهر التجربة الإنسانية هو ما يسميه «التشوف»، وهو المصطلح الذي وضعه للتنافر المتأصل بين ذواتنا والعالم. ويسبب التشوف كلا من الرغبة في المعرفة والشعور بأن المعرفة لا تساعد دوما في التعامل مع الطبيعة المنقسمة للوجود؛ لذلك ربما نحتاج أشكالا من التعبير لا يمكن فهمها فهما تاما بلغة المعرفة، فقد لا تكفي معرفة الطبيعة ومصدر المشكلة النفسية للتغلب على المشكلة، وربما يتطلب التغلب على المشكلة فاعلية تعبيرية تغير طبيعتها نفسها. وتعد الأهمية المتزايدة للموسيقى بالنسبة للفلسفة في هذا الوقت في ألمانيا مؤشرا لما هو محل نقاش هنا؛ فما يمكن أن تفعله الموسيقى لا يمكن اختزاله فيما نعرفه عما تقوم هي به.
الفلسفة الرومانسية والفن
في كتابه «علم الجمال»، يعلن هيجل «نهاية الفن» باعتباره وسيطا يمكن من خلاله التعبير عن التبصرات العليا للبشرية الحديثة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يوجد بديل في العالم الحديث للطريقة التي ساعدت بها التراجيديا اليونانية في تكوين المجتمع في أثينا. وهيجل مصيب في هذا الصدد؛ فالموارد التي تحدد العالم الحديث هي في المقام الأول علاقات سياسية وقانونية تنظم الفعل الإنساني، وقدرة العلم والتكنولوجيا على حل المشكلات. لكن دعوى هيجل هي أن الفلسفة تتولى عن الدين والفن دور التعبير عن التبصرات العليا، فالعلوم إنما تنتج حقائق معينة، تحتاج إلى أن تربط بعضها ببعض في النظام الفلسفي. ولكن منذ عصر هيجل نادرا ما لعبت الفلسفة الحديثة دورا شديد الأهمية في الأداء الفعلي للعلوم؛ ومن ثم فإن ارتقاء هيجل بالفلسفة ربما ينظر إليه على أنه في الحقيقة إشارة إلى «نهاية الفلسفة». فإذا كانت الفلسفة لا تؤدي دور الحكم النهائي، فإن العوامل التي تحدد في الواقع طبيعة العالم الحديث ربما تجعل الفلسفة ترفا. ويرى هايدجر أن العلوم هي الشكل الذي انتهت إليه الميتافيزيقا التي عرفت منذ أيام اليونانيين (انظر الفصل الثامن)؛ لأن هدف الميتافيزيقا كان تقديم الصورة الحقيقية للعالم؛ ومن ثم يبحث هايدجر عن دور مختلف للفلسفة التي يربطها - مثله في ذلك مثل الرومانسيين - بالفن.
لكن ألا تزال أهمية الفن لهؤلاء المفكرين محل اهتمام في الفلسفة اليوم؟ تتضح المشكلة هنا في حقيقة أن الفن الحديث يشكك باستمرار في وجود نفسه؛ وفقا لما يشير إليه رد الفعل الذي يقابل مرارا تجاه الفن الطليعي بكونه «ليس فنا». ويمكن تناول هذه القضايا بالنظر إلى الشكل الذي تقدم به أحيانا الفلسفة الرومانسية، فإذا لم يكن بالإمكان فصل رسالة الفلسفة عن «وسيطها»، فإنه لا يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها مختلفة كلية عن الفن، حيث يكون الشكل عنصرا جوهريا في المعنى. وعلى الرغم من أن شليجل قدم نصوصا فلسفية معززة بالبراهين منهجية نسبيا، فهو - مثل نوفاليس - مشهور بكتابة المقتطفات، والمقتطفات هي مقتطفات وحسب، وليست أجزاء غير متصلة من المادة، إذا كانت أجزاء مقتطعة من كل. ومع ذلك، فالكل هو المفقود في «التشوف»، وليس شيئا من المعروف أنه موجود كهدف الفلسفة. وفي المقتطف رقم 116 من مجموعة المقتطفات المأخوذة من مجلة «أثينيم»، التي كانت تصدر من 1798 إلى 1800، يتحدث شليجل عن الفن الرومانسي باعتباره انعكاسا للعالم الذي «يمكنه باستمرار أن يجعل هذا الانعكاس محتملا، ويضاعفه كما لو كان صفا لا نهائيا من المرايا.» ويذكرنا الفن الرومانسي بأن العالم دوما أكثر مما يمكننا التحدث عنه، وأن الوجود يفوق الإدراك:
اكتملت أشكال أخرى من الأدب [«القصائد» التي تحمل طابع الفن الإبداعي] ويمكن الآن تحليلها تحليلا تاما. ولا يزال الشكل الرومانسي للأدب في عملية تحول؛ وذلك فعلا هو جوهره الحقيقي، فهو في حالة تحول على الدوام، ولن يكتمل أبدا ، ولا يمكن لأية نظرية معالجته معالجة تامة.
وفي حين أن العلوم ربما تهدف إلى معرفة قاطعة بالأشياء، يبحث «الأدب» كيفية أن ربط الأشياء بأشياء أخرى - غالبا بطرق غير متوقعة - ربما تتمخض عنه آراء تنكرها العلوم.
شكل : لوحة «منظر طبيعي مسائي لرجلين»، 1830-1835 تقريبا، بريشة الفنان كاسبار ديفيد فريدريش.
1
وهنا ينشأ صراع مهم بين فكرة أن الهدف هو السيطرة على العالم على نحو أكثر فاعلية، والخوف من أن هذا ربما يجعل العالم أجوف بلا معنى. ومن المنظور الأخير، فإن المهمة الفلسفية هي إضفاء مزيد من المعنى، الأمر الذي ينبغي فعله بأي مصادر متاحة. ويؤكد شليجل أن «الفلسفة يجب أن تبدأ بعدد لا متناه من الافتراضات، بحسب تكوينها (لا بافتراض واحد)»، وأنه في مسحة براجماتية أولية «لا توجد افتراضات أساسية يمكن أن تكون بوجه عام رفيقا مناسبا أو قائدا إلى الحقيقة.» وليس الأمر أن شليجل ونوفاليس ينبذان اكتشافات العلم؛ فنوفاليس كان مهتما بالبحث العلمي، ولكن ما يقدمانه هو تحذير فطن من النظر إلى العلوم باعتبارها مصادر الصحة والثبوت الوحيدة في العالم الحديث.
يعبر عمل الرومانسيين الأوائل عن شيء من الطاقة المكبوتة في الحياة الفكرية الألمانية قرابة الثورة الفرنسية، والتي بسببها حل الإبداع الفلسفي والجمالي محل الثورة السياسية. وكانت التأثيرات المباشرة لعملهم مهملة تماما؛ فقد كان الكثيرون - بما فيهم هيجل - ينظرون إليهم على أنهم يفتقدون الجدية الفلسفية؛ ومن ثم فالمثير في الأمر هو كيف قدم اهتمامهم بالعيش بطريقة إبداعية مع عدم اليقين والتنوع تصورا مسبقا لجوانب التفكير التفكيكي والبراجماتي، التي تلعب دورا في جهود إعادة التقييم المعاصرة للفلسفة. وفي مواجهة التغيرات المحيرة المميزة للحداثة، تفكر الفلسفة الرومانسية مليا فيما يمكن أن يحدث إذا لم يعد المرء يبحث عن حلول نهائية. وهذا موقف يمكن أن يكون سوداويا وتحرريا على السواء، وقد تمضي فترة من الزمن قبل أن يتبنى هذا الموقف مرة أخرى على نطاق واسع؛ فالرغبة في حلول نهائية من النوع الذي يقدمه علم اللاهوت الدوجماتي بالكاد تلاشت كما نعلم.
Bilinmeyen sayfa
هوامش
الفصل الخامس
ماركس
نهاية الفلسفة
في النقاشات التي تشكل سياق أعمال كارل ماركس (1818-1883)، يبدأ الناس في الحديث لأول مرة عن «نهاية الفلسفة». لكن ماذا يعني ذلك؟ إن حل المشكلات الجوهرية للفلسفة هو أحد أساليب إنهاء الفلسفة، ويحاول هيجل فعل هذا عن طريق إعطاء إجابة ممنهجة لكيفية التغلب على الانقسامات بين الذات والموضوع. ولكن، ما دور الفلسفة إذا كان رأي هيجل نهائيا؟ فمن الأهمية بمكان أن هيجل كان يرى على أنه الميتافيزيقي المطلق، ومؤخرا أصبح يرى على أنه شخص يقدم مخرجا من الميتافيزيقا التقليدية. وهو يقوم بهذا عن طريق تقديم بديل لفكرة «المنظور الإلهي»، بمعنى أن العقل هو مجرد نتاج للعلاقات الاجتماعية. وفي الحقيقة، يمكن تأويل كلا الوجهين لهيجل على أنهما إنهاء للفلسفة، إما عن طريق فهم الشكل النهائي للميتافيزيقا فهما تاما، وإما عن طريق إظهار أن الميتافيزيقا الراسخة قائمة على سوء فهم لطبيعة علاقة العقل بالعالم.
ثمة طريقة أخرى لإنهاء الفلسفة؛ وهي النظر إلى «نهاية الفلسفة» على أنها هدفها، الأمر الذي ربما يمكن تحقيقه عن طريق تحقيق المنشود في فكرة «الحياة الطيبة»، ويمكن من خلال ذلك تفادي أسباب التساؤل عن معنى الحياة التي تنشأ عن إضعاف الاعتقادات اللاهوتية؛ فإنجازات الحياة الطيبة ستعوض هنا الألم الذي لا يمكن فصله عن الحياة الإنسانية. ومن زاوية أخرى، إذا فكر أحد - كما يفعل كل من ماركس ونيتشه - أن الميتافيزيقا هي في الحقيقة شكل مقنع من علم اللاهوت، فإن الهجوم على علم اللاهوت سيكون هجوما على الفلسفة. والهدف هنا هو فكرة تقديم وصف للعالم يتجاوز مجرد المنظور البشري، وسيظهر منهج ذو صلة بهذا الموضوع في القرن العشرين تحاول فيه الفلسفة التحليلية إظهار أن كثيرا من المشكلات الفلسفية هي «مشكلات زائفة» أحدثتها إخفاقات منطقية في استخدام اللغة. والسبيل إلى إنهاء الفلسفة هنا هو بيان أنها تتكون من أسئلة لا يمكن أن تكون لها أجوبة؛ لأنها غير صحيحة منطقيا.
شكل : كارل ماركس وكتابه «رأس المال».
1
لكن، لماذا ينبغي للأوصاف المقدمة لمعظم هذه الأفكار أن تصبح ملمحا للفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بدءا من الهجمات على فلسفة هيجل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدا؟ جزء من الإجابة يتمثل في أن الفلسفة أصبحت الآن مرتبطة ارتباطا واضحا جدا بالسياسة. ولم يكن كانط والمثاليون والرومانسيون الأوائل بمنأى عن السياسة؛ فقد أيدوا جميعا بعض جوانب الثورة الفرنسية على الأقل، وكتبوا في الفلسفة السياسية، لكنهم ربما لم ينقلوا مفهوما صريحا بأن النشاط السياسي يقع بالضرورة في صميم الفلسفة، وذلك بسبب الكبت الذي أخضعت له الرؤى السياسية الراديكالية من قبل الدول الألمانية. ومن الأسباب التي تؤكد على أهمية أن يوجد نوع جديد من الربط بالسياسة، ذلك الوعي الذي استهله هيردر وشليجل وهيجل بأن الفلسفة تخضع للتاريخ بطرق لم توضع موضع تقدير في السابق. وتؤكد التغيرات المربكة التي أحدثتها الثورة العلمية والتصنيع والتمدن، على أن فكرة وجود نظام عالمي مستقر قد وقعت فريسة لضغوط العالم التاريخي. ونظرا للوحشية التي تصاحب الرأسمالية الوليدة، فمن غير المستغرب أن يصبح الشك في الميتافيزيقا مرتبطا بفكرة أن الفلسفة ربما تكون متواطئة مع الظلم الاجتماعي.
ينتقد «الهيجليون الشباب» - وهم مجموعة من المفكرين يغلب عليهم الفكر اليساري، شملت لودفيج فويرباخ (1804-1872) وماركس في بداياته - هيجل، لكنهم لا يرفضون أفكاره رفضا تاما. وينصب تركيزهم المبدئي على الدين، على الرغم من أن هدفهم الرئيسي هو التحول الاجتماعي؛ حيث كان دخول مقاربات جديدة عن التاريخ إلى علم اللاهوت هو أحد التغيرات الحاسمة في علم اللاهوت في القرن التاسع عشر. ويثير هذا الأمر تساؤلات عن الأساس التاريخي للأناجيل، الذي تبين كونه متزعزعا بشدة؛ ومن ثم تصبح الحقيقة الأوسع للدين موضع شك أكبر. وأحد الردود على هذا الأمر هو فكرة أن قيمة الدين ربما لا تكمن في الحقيقة الحرفية للكتب المقدسة؛ إذ يمكن تفسير قيمة الدين على نحو هدام وآخر بناء. فمن جانب كونه وسيلة للسيطرة تعزز من التسلسلات الهرمية التقليدية، تكون قيمة الدين ضربا من «الأيديولوجيا» بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة، ولكن من جانب كونه وسيلة لجعل الحياة أكثر احتمالا عندما يبدو التغيير مستحيلا، فإن الدين يبقي على الأمل بين المضطهدين . ولا يعني تعليق ماركس عن الدين باعتباره «أفيون الشعوب» أن الدين شيء يجعلهم مجرد نيام؛ بل إنه يجعل ألمهم محتملا. ولكن دون الدين تفقد كثير من أشكال السلطة ركيزتها مفسحة المجال لتغيرات اجتماعية راديكالية. ولكن، يجب أن يقدم هذا التغيير في الواقع نموذج الأمل الذي كان يقدم سابقا في الخيال.
Bilinmeyen sayfa
في فترة ماركس، نشب صراع متزايد الوضوح بين إيمان حركة التنوير بقدرة العقل على حل المشكلات، والشعور الفاجع بأن الحياة الإنسانية عابرة بالضرورة ومؤلمة. وإذا لم يكن أمل للخلاص الفردي دون الدين، فيجب أن يكون الأمل في استطاعة الفرد أن يقدم إسهامات في حياة الجنس البشري، عن طريق صنع مستقبل أفضل للبشرية. ولكن، من غير المؤكد أبدا إن كانت فكرة ذلك المستقبل ستقدم عزاء حقيقيا للفرد في الظروف المؤلمة. وعلاوة على ذلك، ففي القرن التاسع عشر (ومنذ يومئذ)، غالبا ما ينتهي هدف الفرد في التفوق الذاتي إلى التضحية بالذات في سبيل الغايات السياسية للأمة.
إن استراتيجية فويرباخ هي إنقاذ مضمون الدين الذي ترك عندما صارت الاعتقادات «الدوجماتية» واهية. وهو يرى - على نحو سيردده فرويد لاحقا - أن مضمون فكرة الإله هو «إسقاط»، وسوف يكشف الوعي بذلك كيف «اغترب» الجنس البشري عن أفضل صفاته، عن طريق إسقاطها على مصدر خارجي؛ ف «الإله المسيحي هو نفسه مجرد تجريد للحب الإنساني»، و«سر علم اللاهوت هو الأنثروبولوجيا، والوجود البشري من الوجود الإلهي». إن نقد الدين «هو هدم ل «وهم» ... له ... أثر مدمر تماما على الجنس البشري.» ويوظف فويرباخ رأيا معاكسا طرح في جوانب من الفلسفة الرومانسية المبكرة، والذي يوجد أيضا في نقد شيلينج لهيجل، وفي هذا الرأي تجعل المثالية العقل هو «الموضوع» والواقع هو «المحمول». ففي المثالية، يفترض أن الأفكار المجردة الفلسفية هي الواقع الأساسي. (وكون هذا التفسير منصفا لهيجل هو أمر مشكوك فيه، على الرغم من أن الطريقة التي يعرض بها هيجل فلسفته قد تميل إلى تشجيعه.) وتتضح أهمية هذه الفكرة عندما تستخدم أفكار يتوهم نسبتها إلى هيجل - كتلك المتعلقة ب «الدولة» باعتبارها الموضوع الحقيقي، والأفراد باعتبارهم المحمولات له - لإضفاء الشرعية على واقع إقطاعي ظالم. لكن إصرار فويرباخ على الوجود الإنساني الحسي باعتبار أنه الواقع السابق، الذي تولدت منه الأفكار المجردة، يجعلنا نخاطر بالوقوع فريسة لانتقادات هيجل للمباشرية؛ فكما رأينا لا يمكن أن توجد حقوق الفرد دون توسط من خلال الشكل الجمعي للدولة، ومع ذلك فهذه حالة أخرى ربما يعمل فيها النظر إلى القضية من حيثية فلسفية محضة على حجب الأهمية الحقيقية للتصور الفلسفي. وماركس هو أول من اكتشف هذا النوع من الخطر.
الاغتراب
أصبحت فكرة أن الفلسفة تقدم العالم بطريقة معكوسة قضية جوهرية في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، فأحد ملامح الحداثة هو - بدقة - توليد نظم مجردة لها آثار مرغوبة وكارثية على حد سواء على العالم الواقعي؛ ومن ثم يمكن أن يكون الاهتمام الفلسفي بعكس الموضوع والمحمول تجسيدا لقضايا اجتماعية اقتصادية ملموسة. وعلى غرار الأفكار التي يمكن النظر إليها على أنها «أيديولوجية»، كاعتقاد بعض الأثرياء أن الفقراء كسالى، يمكن إظهار أن الفلسفة تستمد من شيء غير ظاهر في مفهومها لنفسها. ويعد المال من المجالات الواضحة التي يمكن فيها التشكيك في استقلال الفلسفة؛ فالمال تجريد للأشياء الملموسة التي يمكن شراؤها به، وذلك على نحو مشابه للطريقة التي تكون بها الكلمة التي تدل على شيء تجريدا لجزئية الشيء لجعله نموذجا من التصور. وتعتمد الصلة بين المال والشيء، والكلمة والشيء، على التركيب المنهجي للعناصر المتكلم عنها؛ فقيمة الشيء تستمد من كونه مندمجا في نظام من التمييزات، لا من أي شيء متأصل فيه. ومدعاة القلق الأساسي لدى ماركس أن تلك الأفكار المجردة ربما تكون لها توابع مدمرة على الأفراد الحقيقيين، الذين هم جزئيون بالأساس بينما الأنظمة عامة، ويفسح هذا التناقض بين الفرد والنظام المجال للأيديولوجيا، عندما تتجاوز مطالب النظام حاجات الفرد.
إن فكرة ماركس الرئيسية هي أن مجموع الأفعال الإنسانية للفرد يؤدي إلى نتائج منهجية غير مقصودة؛ فعن طريق الانتقال من المقايضة إلى التبادل النقدي، تحولت طبيعة المجتمع بالكامل؛ لأن كل شيء أصبح قابلا للتبادل في مقابل أي شيء آخر. وعلى الفكر الناقد أن يفهم كيف تنشأ تلك النتائج؛ من أجل تغييرها للأفضل، وفي أعمال ماركس الأولى في أربعينيات القرن التاسع عشر، كان ينظر إلى هذه التوابع بمفهوم «الاغتراب». وقد استخدم هيجل هذا المصطلح من قبل للحديث عن طبيعة الحداثة، واستخدم فويرباخ المصطلح ليصف كيف يتم إسقاط الصفات البشرية على الإله. لقد استخدم مصطلح «الاغتراب» غالبا منذ القرن الثامن عشر لمناقشة مشكلات العصر الحديث، من التمدن إلى التصنيع، كما أنه يستخدم للإشارة إلى الشعور بعدم الانتماء إلى العالم. ومع ذلك، وعلى مدار معظم فترات التاريخ كانت الحياة البشرية - وفقا لعبارة هوبز - «بغيضة، ووحشية، وقصيرة»، فلماذا إذن يبدو الاغتراب ظاهرة حديثة على وجه الخصوص؟ أحد الأجوبة هي أنه متصل بزيادات في الحراك الاجتماعي؛ فالناس لا يمكن أن يشعروا بمنعهم عن إدراك حقيقة ذواتهم إلا عندما يوجد احتمال في أن يصيروا شيئا مختلفا. وثمة إجابة أخرى نجدها في العلاقة المتغيرة للجنس البشري بالطبيعة. ومع ذلك فالتغيرات المتضمنة هنا ذات حدين، فالتأثير المباشر للطبيعة أصبح أقل؛ لأنه يمكن معالجتها لصالح الإنسان، لكن الموضعة المطلوبة لهذه المعالجة تخلق نوعا من الفجوة بين الجنس البشري والطبيعة التي أثارت اهتمام الناس بفلسفة كانط.
فما هو إذن المصدر الحاسم للفصام بين العقل والطبيعة؟ يوجد هنا بالفعل صراع نبوئي بين اهتمام «وجودي» بطريقة وجود «مغتربة» أساسية، تجعل الفصام شيئا متأصلا في الحياة البشرية، واهتمام تاريخي بأن النشاط البشري هو ما يؤدي إلى وقوع الفصام، الأمر الذي يوحي بإمكانية المصالحة بين العقل والطبيعة في ظروف أخرى. يتطلب الاهتمام الأول طرقا لتقبل ضرورة لا يمكن في النهاية ردعها، تفضي غالبا إلى رؤية الفن باعتباره وسيلة رمزية للاستجابة للاغتراب، بينما يتطلب الاهتمام الثاني شكلا من الخلاص العلماني، تصبح فيه علاقتنا بالطبيعة مختلفة من خلال التدخل البشري.
إن نظرية الاغتراب المبكرة لدى ماركس في «مخطوطات اقتصادية فلسفية» عام 1844 أكثر تحديدا من التصور الأنثروبولوجي لفويرباخ، فماركس يرى الاغتراب متأصلا في آلية العمل الحديثة، وأحيانا يزعم أن كل «تخارج » لقوة العمل لدى العامل ينطوي على اغتراب؛ ف «الموضوع الذي ينتجه العمل - أي ناتج العمل - يظهر بالمقابلة مع العمل ككائن مغترب، كقوة مستقلة عن المنتج.» ويسير هذا المفهوم في منحى «وجودي» على نحو لا نجده في أهم أعمال ماركس؛ فهل كل من ينتج شيئا لشخص آخر مغترب بالضرورة؟
ومع ذلك، فإن أعمال ماركس المبكرة (التي ظل كثير منها غير معروف حتى مطلع القرن العشرين) تحوي آراء بارزة في الآثار الثقافية لأشكال العمل التاريخية. فكر كيف تختلف ثقافة يعد المصدر السائد للثروة فيها هو تصنيع البضائع المادية عن ثقافة تعد المعلومات فيها هي ذلك المصدر؟ وتسير أعماله المبكرة - بخلاف المتأخرة - على نهج شيلينج؛ فهو يتكلم عن مجتمع مناسب للكائنات البشرية بمفهوم كونه يتضمن «البعث الحقيقي للطبيعة، والطبيعة المتطورة للإنسان، والإنسانية المتطورة للطبيعة». ويوحي هذا بأهمية موازنة استغلال الموارد الطبيعية مع الشعور بضرورة عدم إخضاع العالم الطبيعي للحاجات البشرية فقط. أما في أعمال ماركس المتأخرة، فإن الطبيعة تميل إلى أن تصبح فقط موضوع العمل الإنساني، ولم يسهم هذا المنظور الأخير إلا بالقليل لمنع الدول المفترض أنها ماركسية في القرن العشرين، مثل الاتحاد السوفيتي، من إنتاج كارثة بيئية من النوع المميز أيضا للاقتصاديات الرأسمالية الجشعة، عن طريق التجاهل الكلي للتكامل المستقل للعالم الطبيعي؛ من أجل إشباع الحاجات الإنسانية الغريزية غالبا.
الأيديولوجيا والسلعة
يسعى عمل ماركس الوافي في «رأس المال» (المنشور مجلده الأول عام 1867) إلى تحليل آليات رأسمالية القرن التاسع عشر، التي أدت إلى إفقار الكثيرين في اقتصاديات تنتج المزيد من الغنى والثروات دوما لفئة قليلة. وينطوي هذا التحليل على موقف نقدي تجاه الفلسفة؛ فالأشكال السائدة من الفلسفة من وجهة نظر ماركس لها وظيفة أيديولوجية، والإنتاج الفكري مكبل بملكية وسائل الإنتاج، وكذلك بالتقسيمات الطبقية المميزة للرأسمالية، و«الأفكار الحاكمة» هي - كما صاغها في «الأيديولوجيا الألمانية» عام 1845 - أفكار «الطبقة الحاكمة». ولكن، ليس بالضرورة أن يتضمن هذا خداعا واعيا من قبل أولئك الذي ينشرون الأيديولوجيا التي تبرر مصالحهم، فالأيديولوجيا يمكن أن تؤدي دورها بلا وعي.
Bilinmeyen sayfa