فقال وهو يتنهد: الحياة هنا تبدو قاسية لا تعد بخير. - عليكم أن تغيروها حتى تعد بكل خير. - ولكن كيف؟ - السؤال منك والجواب عندك، وكل يحيا قدر همته. - إنهم يتساءلون عما يخبئه لنا الغد؟ - الغد يعلمه الله، ويصنعه الإنسان. - ألا يمكن أن نأمل في معاونتك؟ - قد فعلت يا بني.
قال متشكيا: يتهمونني بأنني لا أحب إلا نفسي.
فقلت وأنا أهم بالذهاب: إنك لا تدري كيف تحب نفسك.
ورجعت إلى بيتي أسرع من البرق. وهناك غلبني شعور حاد بالأسف والندم. كيف هان علي أن أقطع عملي النبيل، وأن أنشغل بهموم الدنيا التافهة؟ وما أدري إلا والمرشد الوقور يطالعني بوجهه المشرق. تضاعف شعور بالذنب وقلت: أعترف بأنني أخطأت، ولكني سأكفر عن ذنبي بمضاعفة العمل!
لم يعر قولي أي اهتمام ولم تتغير نظرته الصافية. وكما جاء ذهب دون أن ينبس بكلمة، غير أنه خلف وراءه وردة لم أر مثلها من قبل، كبيرة الحجم، غزيرة الأوراق، فتانة اللون، ينتشر منها شذا طيب لم يصادفني شيء في مثل جماله وقوته. وخطر لي أنه لا يمكن أن تكون قد سقطت منه سهوا، بل إنه يقينا لم يحضر إلا ليهديها إلي، وغمرتني سعادة صافية، وقلت لنفسي: لا شك أن رحلتي - بخلاف ما توهمت - قد حازت الرضا.
الغابة المسكونة
مرارا وتكرارا يشيرون إلى الغابة ويقولون لي محذرين: لا تقترب منها فهي مسكونة بالعفاريت!
الغابة تقوم في الطرف الجنوبي من صحراء مولد النبي بالعباسية. تبدو من بعيد جبلا من الخضرة الداكنة متعدد الرءوس، طولها ثلاث محطات من محطات الترام، وعرضها قريب من ذلك، وقد يعبر سماءها دخان تحمله الرياح من المقلب الذي تحرق فيه الزبالة. ما نوع أشجارها الباسقة؟ وما معنى وجودها في ذلك المكان؟ من الذي زرعها؟ ولأي غرض زرعها؟ وصحراء مولد النبي هي ملعب الكرة لصبيان العباسية، تتسع للعديد من فرق الهواة يمارسون هوايتهم في وقت واحد. ولما نفرغ من مبارياتنا الودية نرتدي جلابيبنا فوق أردية اللعب المعروفة، ونرجع إلى الحي متجنبين الاقتراب من الغابة المسكونة. وجاوزت الصبا وولجت المراهقة وولعت بهوايات جديدة منها القراءة. وأشرقت على روحي استنارة تحفل بكل جديد وطريف. وتطايرت من رأسي ووجداني خرافات كثيرة، ولم أعد أومن بعفاريت الغابة، ولكني لم أستطع التحرر تماما من رواسب الخوف الكامنة في أعماقي. وكنت أخلو إلى نفسي كثيرا في الصحراء خاصة في العطلات الصيفية، أقرأ أو أتأمل أو أدخن السجائر بعيدا عن أعين الرقباء. وأرمي ببصري من بعيد إلى الغاية فأبتسم ساخرا من ذكرياتي، ولكني أمكث بعيدا وأمضي من بعيد. وأضيق بموقفي وأتحداه وأطرح على نفسي سؤالا: ألم يأن لك أن تكتشف الغابة؟
بعد حوار غير قصير، صممت على الإقدام والتنفيذ. ليكن في العصر والشمس طالعة، فالليل على أي حال غير مأمون. وكان مجلسي قريبا من محطة لضخ المياه يتحرك في فنائها مهندسون وعمال. حييت أحدهم مرة وسألته عن سر الغابة، فأخبرني بأنها تابعة للمحطة، وأنها زرعت قديما؛ استغلالا للمياه الفائضة، ولم تمتد أكثر من ذلك ليمكن إقامة الحفل السنوي بمولد الرسول. قلت لمحدثي: قالوا لنا: إنها مأوى للعفاريت.
فضحك الرجل قائلا: ما عفريت إلا ابن آدم.
Bilinmeyen sayfa