وهو لم يقرأ في حياته جريدة، ويتلقى معلوماته دون اكتراث في مجالس الأصحاب. ويتقدم به العمر حتى يتجاوز الخمسين، وطعنت أمه في السن، وركبها الضعف وأخذت تفقد الاهتمام بالأشياء، ومرت بها أزمة فتطوع صديق طبيب بفحصها، وشخص علتها بالقلب ونصح بالراحة والدواء. كانت الراحة مستحيلة والدواء متعذرا، ومضى يتساءل: كيف يتعامل مع الحياة إذا حرم من معاشها؟ وراحت تقترب من الموت ساعة بعد أخرى، حتى استيقظ ذات صباح فوجدها ميتة! نظر إليها طويلا قبل أن يغطي وجهها. خيل إليه أنه يتذكر قبسات من ماض بعيد، وأنه يتوقف مرغما عن السخرية، وأن تلك اللحظة من الصباح كئيبة حزينة. وقصد من توه أغنى أصدقائه السيد نوح تاجر العمارات؛ فتكفل الرجل بتجهيز المرأة ودفنها. وحذره من بيع البيت أن يجد نفسه بعد حين مشردا في الشارع. ترى، هل يكفي الغش في النرد وإيجار الحجرة؟! .. أوليس لكرم الأصدقاء حد؟! وغامر بتجربة الشحاذة في بعض أطراف المدينة، ولم تكن تجربة عقيمة، وتتابعت الأيام؛ فمات زعيم وتولى زعيم وجاء الانفتاح وهو يستقبل عامه السبعين، عامه السبعين من الضياع واليأس. تمادى الغلاء حقا وعربد، وزلزلت الموازين. لم يعد التسول بنافع وكرم الأصدقاء انحسر وتهاوى في بئر التلاشي، رحل منهم نفر وا أسفاه! وآوى الباقون إلى شيخوخة هادئة تقنع بالسمر. يا له من عجوز بائس يائس! وتنقشع ظلمات الوجود ذات يوم عن وجه السمسار، وهو يهبط بأجنحة ملائكية من كبد السماء! وفي حضرة صديقيه المحامي وتاجر العمارات تمت الصفقة، وأودع المبلغ الخرافي في البنك. وجلس الثلاثة في مقهى بلدي بشارع الأزهر يتوافق تواضعه مع منظر المليونير التعيس. تنهد عصام البقلي في ارتياح عميق يغني عن أي كلام. إنه سعيد سعادة كاملة لأول مرة في حياته، ولكنه قال في حيرة: لا تتركاني وحدي.
فقال عثمان القلة المحامي ضاحكا: لا حاجة بك لإنسان بعد اليوم.
ولكن السيد نوح قال: إنه مجنون وفي حاجة إلى مرشد في كل خطوة.
فقال البقلي بامتنان: وأنتما خير من عرفت في حياتي.
فقال السيد نوح: هنالك أولويات قبل الشروع في أي عمل، غير قابلة للتأجيل، في مقدمتها أن تذهب إلى الحمام الهندي؛ لتزيل القذارة المتراكمة، وتكشف عن شخصك الأصلي. - أخاف ألا يعرفوني في البنك. - وتحلق رأسك وذقنك، وتشتري لك اليوم بدلة جاهزة وملابس؛ فيمكنك الإقامة في فندق محترم دون إثارة للريب. - هل أقيم في الفندق بصفة مستديمة؟
قال المحامي: إذا شئت، ستجد خدمة كاملة، وكل شيء.
فقال السيد نوح: الشقة لها مزايا أيضا.
فهتف البقلي: والشقة لا تكتمل إلا بعروس! - عروس؟! - لم لا؟ .. لست أول ولا آخر عريس في السبعين! - إنها مشكلة! - تذكر أن العريس مليونير.
فقال المحامي ضاحكا: إغراء شديد، ولكن لأولاد الحرام.
فقال البقلي باستهانة: حرام أو حلال، كله واحد في النهاية!
Bilinmeyen sayfa