لكن مدخراتي أوشكت على النفاد، وهمست بذلك، فقالت الست: لا نريد حفلا في فندق، حسبنا عشاء لائق في مطعم خلوي، وبلا رقص أو غناء!
ولبيت رغبتها على رغمي، واقتصرت الدعوة على الأهل. غير أني دعوت الهانم فشرفتنا مع هدية سعيدة متبرعة للاجتماع بفرقة «كان كان» الموسيقية. وجلسنا متواجهين حول مائدة طويلة، ورأيت بين المدعوين البك وطبيب المصحة، دون أن أدري كيف تم ذلك. وعاودني إحساسي الغريب بمراوغة الذكريات الغامضة، ولكن سعادتي بالعروس غلبت على كل شيء. وخطر لي في أثناء الطعام أن خصمي المجهول موجود حتما بين المدعوين، ولكني طردت الفكرة بإصرار وواصلت الأكل والشرب. ولما فرغنا من الطعام وقف رجل كان يجلس في الصف الآخر إلى يسار حماتي ليلقي كلمة فيما بدا. خيل إلي لأول وهلة أنني أراه لأول مرة في حياتي، ثم خيل إلي مرة أخرى أنني سبق أن لمحت هذا الجبين البارز والحاجبين الغزيرين والفكين القويين، ولكن أين؟ ومتى؟
وملت نحو الهانم الجالسة إلى جانبي وسألتها عنه، فقالت: رجل طيب يقدم نفسه في الأفراح طلبا للرزق!
وركزت عليه بصري باهتمام لا يخلو من قلق، أما هو فراح يقول بصوت جهير:
سيداتي .. آنساتي .. سادتي
للفرح يوم واحد، لا يتكرر مهما تكرر، وهو من صنع الرحمن لا البشر، من أجل أسمى غاية وهي عمران الوجود، فالزواج طاعة، والحب عبادة، إذا حاد أحدهما عن طريقه ضل إلى الأبد. وفي مثل هذا اليوم تسجل الحياة أحد انتصاراتها الرائعة، فلنهنئ العروسين، ولنحي ذكرى ربي أسرتهما النبيلة آدم وحواء، اللذين دفعا إلى دنيانا بسبب العصيان، ورفعا منها بحكم الغفران، ولندع الله أن ينصرنا على إبليس، عدو الأسرة القديم الذي لا يكف عن طلب الثأر، والعقبى لكم في المسرات.
وأحنى الرجل رأسه؛ شكرا للتصفيق الذي أعقب كلمته ثم جلس. وكاد ذكر الثأر يفسد علي ليلتي، لولا لباقة عروستي التي جذبتني لنجواها. وانفض الحفل الصغير على خير حال. ومضيت بعروسي إلى شقتي، ولكن استعصى علي أن أدخل المفتاح في عروة الباب. ماذا حدث؟! وفتحت شراعة الباب عن وجه لم أتبين معالمه. سألني قبل أن أفيق من ذهولي: من أنت؟
فصرخت فيه: من أدخلك شقتي؟
فصاح الرجل بغضب: سكران! .. مجنون! .. اذهب قبل أن أكسر دماغك.
ادعى كل منا أن الشقة شقته، وأن الآخر معتد أو معتد ومجنون، ولم أجد بدا من الاستغاثة بالشرطة. ولكن أين عروسي؟ هل بادرت إلى أخيها؟ ولم أحب أن أضيع الوقت في البحث عنها، فذهبت إلى قسم الشرطة، واصطحبني ضابط إلى الشقة، واطلع على العقد، ثم صارحني بأنه لا يستطيع أن يتعرض للرجل بسوء، وأن الأمر يجب أن يعرض على النيابة. وتكشف التحقيق عن غرائب وعجائب. أثبت الرجل أن الشقة شقته بعقد قديم، وشهد معه صاحب العمارة والبواب وكثرة من السكان. واستشهدت بعروسي وآلها الذين فرشوا الشقة بأيديهم، وأدلوا بشهادتهم القاطعة بأنهم لا يعرفونني، وأنني لم أتزوج من ابنتهم. وماذا يقول الذين لبوا دعوة العشاء وشهدوا الزفاف؟ .. ماذا تقول الهانم، والطبيب، والبك؟ .. أجمعوا على أن أقوالي ادعاءات باطلة لا أصل لها وأنهم لا يعرفونني، ولم توجد بينهم وبيني أي صلة. ولعل الوحيد الذي لم ينكرني، والذي جاء دون دعوة مني، هو صاحب الخطبة. سمعته يقول للمحقق إنه أخي الأكبر، ويرجو أن يذهب بي لأعالج من تلك الحالة الطارئة!
Bilinmeyen sayfa