وفي ختام هذه المقدمة أحب أن أذكر أن الأستاذ «برستد» قد قال في مقدمة كتابه:
إنه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرءوا هذا الكتاب الذي يبحث في تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير في العالم المصري.
لذلك رأيت أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربي أن يقرءوا هذا الكتاب فإنه يكون من ألزم الواجبات على كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه؛ لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده التي أخذ عنها كل العالم.
وإني أرجو في النهاية أن أكون قد قمت ببعض ما يجب علي نحو بلادي، كما أرجو أن يهتم كل مصري يحترم نفسه ويقدر منزلة بلاده بقراءة هذا الكتاب؛ لعل في ذلك باعثا لإحياء الماضي المجيد الذي لا يزال العالم الغربي يرد مناهله ويسير على هداه منذ أقدم عهده حتى يومنا هذا دون أن يشعر أحد منا بذلك حتى أبرزه لنا الأستاذ «برستد» في «فجر الضمير»، أو كما أسميه «مصر أصل مدنيات العالم».
سليم حسن
يناير سنة 1956
تمهيد
لقد أصبح من الآراء العامة المؤسفة الشائعة بين أبناء الجيل الذي أعقب الحرب العالمية، أن الإنسان لم يتورع يوما ما عن استعمال قوته الآلية المتزايدة من الفتك بأبناء جنسه، وقد برهنت الحرب العالمية على إمكان وصول قدرة الإنسان الميكانيكية الهائلة على القيام بأعمال التخريب إلى حد مروع، فليست هناك إذن إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير: هي الضمير الإنساني. وهو شيء اعتاد نشء الجيل الحديث أن يعده مجموعة محددة من الوساوس البالية؛ إذ كل فرد يعلم أن قوة الإنسان الآلية المدهشة ليست إلا نتاج تطور طويل، ولكن لسنا كلنا ندرك أن هذه الحقيقة نفسها تنطبق كذلك على القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير، مع التسليم بفارق واحد هام بينهما وهو: أن الإنسان بصفته أقدم المخلوقات صنعا للآلات، كان مجدا في صنع أسلحة فتاكة منذ نحو مليون سنة، في حين أن الضمير لم يبرز في شكل قوة اجتماعية إلا منذ مدة لا تزيد على خمسة آلاف سنة؛ أي إن أحد التطورين قد سبق الآخر بشوط بعيد؛ فأحدهما عتيق، والآخر وليد عهد قريب لا يزال أمامه ممكنات لا حصر لها. أليس في مقدورنا أن نعمل بجد لإنماء هذا الضمير الحديث الميلاد حتى يصير مظهرا من مظاهر حسن النية، ويصبح من القوة بحيث يخمد أنفاس القوة الوحشية الباقية في نفوسنا؟ إن القيام بهذا الواجب يكون بالطبع أقل صعوبة بكثير مما عاناه أجدادنا المتوحشون في هذا المضمار؛ لأنهم خلقوا ضميرا في عالم لم يكن فيه أول الأمر أي شعور بالضمير.
إن أعظم ظاهرة أساسية في تقدم حياة الإنسان هو نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر «الأخلاق»، وهو تحول في حياة الإنسان، يدلنا التاريخ على أنه وليد الأمس فقط، وقد يكون من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في زوايا الإهمال لاستخفافنا بها، وبخاصة في هذا الوقت الذي أصبح فيه الجيل الحديث ينبذ الأخلاق الموروثة ظهريا. ولكي نتمثل صورة حقة لقيمة الأخلاق الفاضلة وتأثيرها في الحياة الإنسانية يجب أن نجتهد في الكشف عن الطريقة التي وصل بها الإنسان للمرة الأولى إلى إدراك الأخلاق وتقدير قيمتها.
فحينما نلقي بنظرنا إلى الوراء في بداية وجود بني البشر ينكشف لنا في الحال أن الإنسان قد بدأ حياته متوحشا مجردا من الأخلاق، فكيف أصبح في وقت ما صاحب وازع خلقي؟ وكيف خضع في النهاية للوازع الخلقي عندما أحس به وتلقى وحيه؟ وكيف ينهض عالم خال من أي تصور للأخلاق إلى التمسك بالمثل الاجتماعية، ويتعلم أن يستمع باحترام إلى الأصوات الباطنة المنبعثة من قرارة نفسه؟ وكيف أنه رغم الفوائد الظاهرة الملموسة التي تفيدها الفتوح المادية ظهر الجيل الأول من الناس مدركين القيم الباطنة التي لا ترى؟ ولماذا لا يكون من واجب شباب اليوم رجالا ونساء أن ينبذوا المبادئ الأخلاقية الموروثة عن الماضي باعتبارها مبادئ؛ تلك المبادئ التي لا نعرف أي شيء عن أصلها؟
Bilinmeyen sayfa