Leyard, Nineveh and Babylon
التي أدهشني منها في طفولتي ما رسم على غلافها من الثيران الرمزية المجنحة ذات الرأس الآدمي - أخذت مكانها في مكتبته سنة 1869 كما ينبئ بذلك التاريخ المكتوب على ورقة الغلاف، على حين كانت صفحة عنوان الكتاب تحمل تاريخ سنة 1859م.
وكان حل رموز الخط المسماري للبابلية والآشورية قد تم قبل ذلك التاريخ ببضع سنين فقط، أما أول نقش مصري فقد حل عام 1822؛ أي قبل حل الخط المسماري بنحو ربع قرن. والحقيقة أن معرفتنا بهذه اللغات ونظم كتابتها لا تزال بعيدة عن حد الكمال، وإن كانت تسير في سبيل التقدم المطرد كما يبرهن على ذلك حل رموز الخط المسماري الحيثي حديثا، والتقدم المحسوس كذلك في فك هيروغليفي الحيثيين. وبذلك أصبح فحص الوثائق القديمة الكثيرة العدد والتي بدأ العالم يفهمها بسهولة، والحفائر التي أحيت فصولا بأكملها من حياة الإنسان، مصدرين يكشفان الآن بوضوح متزايد عن رواية تمثيلية خطيرة في تاريخ التقدم البشري. وهكذا قد أزيح الستار في أيامنا تقريبا وبسرعة مدهشة فتيسر لنا النظر إلى الوراء في أعماق ماض متغلغل في القدم لم يتسن للفكر ولا للتعليم حتى الآن أن ينسجم معه. ولندع الآن أبصارنا تسبح في هذا المدى الرهيب من التقدم البشري الذي كشف لنا عنه البحث في إنسان ما قبل التاريخ، وفي مدنيات الشرق التي كنا قد فقدناها.
ويكاد كل امرئ يعرف قدرتنا الآن على تعقب الخطوات التي خطاها أقدم إنسان في أوروبا إلى الأمام خلال آلاف من السنين قضاها في نضال مع دنيا المادة، فالغطاء الجليدي القطبي الذي انحدر أربع مرات على الجانب الشمالي للبحر الأبيض المتوسط فأجلى متوحشي أوروبا أهل العصر الحجري القديم إلى الجنوب، ثم تقهقر بعد ذلك ببطء نحو الشمال ثانية، وهكذا في كل من الدفعات الأربع جعل هذه الظاهرة في نظرنا بمثابة ساعة جيولوجية هائلة يدل تذبذب (رقاصها) الضخم أربع مرات متتالية منتظمة على مرور فترة عظيمة من الزمن ظهر فيها ذلك التحسن المتدرج في أسلحة الإنسان الحجرية وآلاته وتقدمه البطيء في قطع الطريق الطويل من الوحشية إلى المدنية.
على أن الخيال يقف حائرا أمام هذه الكشوف التي تنبئنا عن المعركة الطويلة الأمد التي خاض غمارها جدنا المتوحش، وذلك حينما نرى في تغلبه البطيء على القوى التي تحيط به مشهدا دنيويا يملؤنا بنفس العاطفة الدنيوية التي نشعر بها أمام حدوث ظاهرة عظيمة من ظواهر الطبيعة.
وإذا فرضنا أن كثيرا من المتعلمين في عصرنا يعرفون الحقائق البارزة الآنفة الذكر فإنه من غير المعلوم لدى الجميع أن كشوف السنين القلائل الأخيرة قد أماطت اللثام عن تفاصيل حياة العصر الحجري التي وجدت حول جميع البحر الأبيض وانتشرت على شواطئه كما انتشرت حكومة الدولة الرومانية حوله بعد ذلك بآلاف من السنين، فكانت على ذلك تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا.
7
وعلى ذلك كانت هناك «دنيا شرق أدنى» شاسعة لإنسان العصر الحجري القديم، تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا مكونة بذلك مسرحا شاسعا تمتد جبهته من البحر الأسود شمالا مخترقة سوريا وفلسطين إلى الشلالات النائية في أعالي النيل جنوبا، وأما الجزء الخلفي لهذا المسرح فتحده الجبال الفارسية.
وهذه الصورة عميقة في القدم عمقها في المساحة؛ إذ لا يقل عمرها عن مئات الآلاف من السنين، وقد يصل إلى ألف ألف سنة، منذ بدأ الغطاء الجليدي القطبي يزحف جنوبا على أوروبا، وكان الناس قد بدءوا فعلا يعيشون عيشة الصيد على مسرح الشرق الأدنى هذا. وإذا جاز لنا أن نحكم من شكل إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يعيش في شرق آسيا قريبا من «بكين» الحالية؛ فإن مخ صيادنا الغربي كان أقل حجما بمقدار الثلث من مخ سلفه الذي عاش في العصر التاريخي في نفس الإقليم، وقد ترك أسلحته الحجرية منتشرة على سطح الأرض في الشمال الشرقي من أفريقيا، وعلى تلال آسيا المجاورة ووراء جبال فارس.
وحري بفترات الزمن التي تضمها هذه العهود أن تقاس بمراحل جيولوجية لا بالسنين، فأولى مراحل هذه العصور الجيولوجية كان عصر تكوين أودية الأنهر العظمى للإقليم، ولا شك أن أناس الشرق الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ كانوا بطبيعة الحال يجهلون أنهم يرقبون تكوين وادي النيل ووادي الدجلة والفرات في وقت كانت فيه دلتا النيل الحالية لا تزال خليجا للبحر الأبيض المتوسط، كما كان الخليج الفارسي يمتد شمالا فوق ما هو معروف الآن بسهل «بابلون» إلى خط عرض الركن الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
Bilinmeyen sayfa