بسم الله الرحمن الرحيم
رب تممه بمنك
اللهم بحمدك أستفتح، وبدعائك أستنجح، وبجودك أستمنح وبشكرك أستريح، وبرحمتك أستروح، وبنصحك أستنصح، وبهدايتك أستوضح، وبنورك أستصبح.
فلولا الهداية لما كانت الدراية، ولولا الزيادة في العناية، لما كانت الكفاية في النهاية، ولولا سطوع الأنوار على سطح الأفكار لما أطلع على الأسرار، وأشرف على الأغوار.
اللَّهُمَّ فلك الحمد، على ما اختصصت به من صفات الجلال، ونعوت الكمال، حمدًا تتضاءل بجنبه بلاغة البلغاء، وتقاصر عن إدراكه عقول العقلاء، ولك الشكر على ما أوليت من الإنعام الجميل، وأسديت من الإحسان الجزيل، شكرًا يليق بالعبيد، ويستدعي المزيد، ويرضي المجيد، منجز الوعد والوعيد، الفعال لما يريد، وهو أقرب من حبل الوريد.
والصلاة والسلام على الرسل الكرام، سادة الأنام، خصوصًا على المبعوث بالدين المتين، والمرسل بالشرع المبين، الهادي إلى الصراط المستقيم الداعي إلى النعيم المقيم، محمد خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء وعلى آله وصحبته، أئمة الأتقياء، وقادة الأولياء.
أما بعد:
فإنه لما كمل كتابنا المسمى: "نهاية الوصول في دراية الوصول" في أصول الفقه، مطولا، مبسوط العبارة مسحوب الاستعارة مشروح البيان، موضح التبيان، يصعب تحصيله على المحصلين، وتعلمه على المتعلمين، دون بحثه وتدبره على المتبحرين - رأيت أن أؤلفه مختصرًا فيه، يعم به النفع، وينتفع به الفذ والجمع، سهلًا حفظه، قريبا تناوله حاويًا لمسائله، واعيا لمباحثه، محيطا بأدلته شاملًا لأسئلته وأجوبته، إلا ما قل، مع زيادات لطيفة، وأنظار دقيقة، يظهر المعنى من لفظه، والفحوى من ظاهره، من غير تكلف ولا تعسف، لئلا يصعب على الفكر حله، والخاطر ذكره، وسميته: «الفائق» ليطابق الاسم المسمى، والكنية المكنى، لأنه يفوق المختصرات المصنفة في هذا الفن لغزارة الفوائد، وكثرة الفرائد، مع الإيجاز المتوسط بين طرفي التفريط والإفراط.
وقد قيل: "خَيْرُ الأمورِ الأوساط".
1 / 33
وأسأل الله العظيم أن يجعل فيه النفع العميم، بالنبي الكريم، وكما كمل على أحسن النظام إلى آخره.
وهذا أوان الشروع في المقصود ...
الكلام في المقدمات
الأولى: الفقه: الفهم. قيل هو أي الفهم جودة الذهن وفيه نظر.
لقبول ما يرد عليه.
لا فهم غرض المتكلم، إذ يوصف به حيث لا كلام، ولأنه أعم.
واصطلاحًا: العلم أو الظن بجملة من الأحكام الشرعية العملية، إذا حصل عن استدلال على أعيانها.
1 / 34
لا العلم بالأحكام، إذ لا يشترط فيه قطع، ولا عموم.
خرج بالأخير علم المقلد، وما علم منها ضرورة، إذ الضروري لا يكون استدلال على أعيانها.
وإنما قدم تعريفه لأنه مضاف إليه.
والأصل: ما منه الشيء، لا المحتاج إليه، وإن زيد في الوجود، إذ لم يطلق على الشروط وعدم المانع.
وعرفًا: الأدلة.
والإضافة للاختصاص، دفعًا للاشتراك ولمجاز.
وقيل: في أسماء الأعيان للملك، وقيل: فيهما لهما.
أصول الفقه: جمع أدلة الفقه، من حيث إنها أدلة على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال، وحال المستدل بها، ونعني بالأدلة ما يفيد القطع والظن.
وموضوعه: أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام، من حيث إنها موصلة.
وعلته الغائية: معرفة الأحكام التي بها انتظام المصالح الدينية والدنيوية.
1 / 35
الدليل: فاعل ما به الدلالة، وذاكره، وما به الدلالة، وهو الأكثر في الاستعمال.
قيل: الأول حقيقة، وغيره مجاز، كالمخصص.
وعرفًا: ما يكون النظر الصحيح فيه موصلًا إلى العلم أو الظن بالمطلوب.
وقيل: هو الأول، والثاني: الأمارة، فيكون بينهما مباينة، وعلى الأوّل عموم وخصوص.
النظر: الانتظار، وتقليب الحدقة نحو المرئي، والرؤية والرحمة والتأمل.
وعرفًا: ترتيب تصورات أو تصديقات، في الذهن ليتوصل بها إلى غيرها فيه.
فإن كنت مطابقة لتعلقاتها، مع صحة الترتيب، فنظر صحيح وإلا ففاسد.
ومقدماته: إن كانت قطعية بأسرها فلازمه قطعي، وإلا فظني.
وعرف منه أن شرطه: العقل، وانتفاء منافيه كالغفلة، وأن لا يكون جاهلًا بالمطلوب.
1 / 36
ولا عالمًا به من كل الوجوه، ولا من وجه يطلبه.
الثانية: إدراك أمر من غير حكم عليه وبه، تصور، ومع أحدهما تصديق.
فإن كان جازمًا: غير مطابق فجهل، أو تقليد، أن يطابق، ولم يكن لموجب أوله فعلم، وهو:
إما عقلي: فإن كفى تصور ظرفية لحصوله، فعلم بديهي، وإلا فنظري.
أو حسي: فعلم به المحسات.
أو مركب: فالمتواترات إن كان الحس سمعًا، وإلا فبالمجربات والحدسيات.
وفرق بينهما: بأن الحدس: سرعة الانتقال، وأنه إنما يستعمل فيما ليس لأفعالنا مدخل فيه.
وإن لم يكن جازمًا: وتساوى طرفاه سمِّي شكًّا، وإلا.
فالراجح: ظنًّا صادقًا أو كاذبًا، والمرجوح: وهما.
1 / 37
وأورد: بأن الشك تردد لا حكم، فلم يجر إيراده في قسم الحكم.
وأجيب: بمنع انحصاره فيه، إذ تردد العقل بين حكمين لدليلين متساويين شك - أيضًا - لصحة وصف من شأنه ذلك به.
نعم: انحصاره فيه - كما أشعر به كلام الإمام خطأ.
قيل: العلم لا يعرف.
لأن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره لزم الدور.
وأجيب: بأن توقف غير العلم عليه، من جهة أنه إدراك له، وتوقف العلم على غيره، من جهة أنه صفة مميزة له، فلا دور.
و-أيضًا-: أن توقف تصور غير العلم على حصوله، لا على تصوره، وتوقف تصور العلم على تصور غيره، فلا دور.
وقيل: إنه ضروري؛ إذ كل أحد يعلم ضرورة أنه عالم بنفسه وجوعه، وتصور الضروري ضروري.
1 / 38
وأجيب: بمنعه، لأن التصديق الضروري هو ما تصور طرفيه كاف في الجزم به، ولو كان كسببين.
وقيل: يعرف بالتقسيم والمثال فقط، وهو باطل، إذ ليس هو غير التعريف بالحد، والرسم وإن عنى به أنه يتعذر أو يتعسر ذلك، لعسر الاطلاع على ذاتيه وخارجيه، فلذلك غير مختص به وقيل: يمكن تعريفه بكل كغيره.
وأصح ما قيل: صفة توجب تمييزًا، لا يحتمل النقيض، فيعم الكلي والجزئي كإدراك الحواس، وعليه الأكثر، ومن خصه بالكلي فيزيد: في الأمور الكلية.
واعترض: بالعلوم العادية، فإنها تحتمل النقيض.
وأجيب: بمنعه عادة، واحتمالها عقلًا لا يضر، إذ جهة الاحتمال غير جهة القطع.
تنبيه:
الظن: هو الاعتقاد الراجح من اعتقادي الطرفين وكذا رجحان الاعتقاد، لا الاعتقاد الراجح، واعتقاد الرجحان، فقد لا يكون معهما اعتقاد آخر، وحينئذ: إما علم، أو جهل، أو تقليد.
وإن اعتبر القدر المشترك ففيه التقسيم، سوى الشك.
الثالثة: الحكم: جاء بمعنى المنع والصرف، ومنه الحكيم، والحَكَمة للحديدة التي
1 / 39
في اللجام.
وبمعنى: الأحكام، ومنه الحكيم في صفاته تعالى، وهو: فعيل بمعنى مفعل.
الحكم الشرعي: يحتمل أن يكون مأخوذًا من الأول؛ لأنه شرع زاجرًا قال الله تعالى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت: آية ٤٥] ..
ومن الثاني؛ لأنه يدل على أحكام شارعة، حيث خص كل فعل بما ينبغي أن يخص به.
واختلف في العرف الشرعي:
١ - قيل: إنه خطاب الشارع، المتعلق بأفعال المكلفين، وهو غير مانع، لدخول مثل قوله تعالى: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ [الصافات: آية ٩٦].
٢ - وقيل: "إنه خطاب الشارع، المفيد فائدة شرعية".
أي: لا تستفاد إلا منه، وهو مثله، إذ يشتمل الصفات السمعية.
٣ - وقيل: إن الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
٤ - قيل: لا حاجة إلى الوضع، لحصول فائدته مما سبقه، وهو تكلف.
٥ - وقيل: لأن ما يفيده ليس بحكم شرعي، وهو تعسف.
الخطاب: "الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئًا مع قصد المتكلم إفهامه به"، وأريد بأو: أن ما يقع على أحد الوجوه المذكورة كان حكما، وما لا فلا.
1 / 40
ومعنى تعلق الضمان بفعل الصبي، وكون الفعل حلالًا، وقوله: حل بعد أن لم يحل، وكون الحكم معللا بحادث تكليف الولي بآدائه من مال الصبي.
وكونه مقولا فيه رفع الحرج عن فاعله، وتعلق الإحلال به، كونه معرفًا به، لا يقال: التعلق نسبي، فيتوقف على وجود المنتسبين، فيكون الحكم حادثًا، لأنا نقول بالصحة يسلم ذلك، لكن لا في الخارج، فلا يلزم حدوثه.
وقالت الحنفية: القائلون بقدم الحكم: "إنه عبارة عن تكوين الله الفعل على وصف حكمي نحو: كونه حسنًا أو قبيحًا".
وهو دور مستدرك.
والأولى: أن يقال - بناء على أصلهم -: إنه عبارة عن تكوين الله الفعل على وجه الاقتضاء، أو التخيير أو الوضع.
فالحكم: هو التكوين: المخصوص، وهو قديم عندهم، وكون الفعل على ذلك الوصف محكوما، لا حكمًا.
اللغات
فصل
الكلام: مشتق من الكلم.
1 / 41
والحروف المفهمة، إنما سميت به، لأنها تؤثر في القلب بالإفهام، أو لأن منه ما يجرح القلب.
ولهذا قيل: كلم الكلام أشد من كلم السهام.
فسمي الجنس باسم نوعه، كعلم الكلام، وهو حقيقة - عندنا - في المعنى القائم بالنفس، وفي العبارة الدالة عليه.
وقيل: في الأول.
وقيل: في الثاني.
وحدّه بالمعنى الثاني هو: المنتظم من الحروف المسموعة، المتواضع عليها، الصادرة عن قادر واحد.
والنظام: حقيقة في الجسم، مجاز هنا للتشبيه.
ونعني بالحروف: ما زاد على الواحد، ظاهرًا كان، أو في الأصل.
والحد: يدخل بعض الكلمة في الكلام، لا كلها، فلا يشكل بباء الإلصاق، ونحوه، والنحاة تخالف فيه.
فالأولى: أن يقال؛ الكلمة: لفظ دال بالاصطلاح على معنى مفرد، وفيه احتراز عن الكتابة، والإشارة، والحركات الإعرابية، والمهمل وعما دل عليه عقلًا، وطبعًا وعرفًا، وعن المركب.
والكلام هو: المركب الذي يحسن السكوت عليه، وفيه احتراز عن الكلمة، ونحو:
1 / 42
يا غلام زيد.
وإنما يحصل من اثنين، أو منه وفعل، وقيل: وحرف في النداء، وقيل: هو راجع إلى الثاني.
وأورده عليه: بأنه لو كان كذلك لاحتمل التصديق والتكذيب كأصله.
وأجيب: بمنعه، لنقله عنها معنى وصيغة.
وأنواعه أربعة: الاسمية، والفعلية، والشرطية، والظرفية، والأخيرتان ترجعان إليهما.
وأنواع الكلمة ثلاثة: لأنها إن دلّت على معنى في غيرها فحرف سميت بذلك لوقوعها طرفا، أو لأن منه ما هو على حرف واحد أو في نفسها، فإن دلت على زمان يوازنها ففعل سمي به لأن مدلوله فعل في الأكثر، تسمية الدال باسم مدلوله وإلا: فاسم، سمي به لسموه على قسيميه، أو لأنه علامة بمسماه وليس كل فعل كلمة عند الحكماء، إذ اتفقوا على أن: أفعل، وتفعل، ونفعل كلام، والماضي كلمة، واختلفوا في الغائب.
فذهب الشيخ: إلى أنه كلمة كالماضي، لكونه غير دال على موضع معين.
والباقون: إلى أنه كأخواته، لكونه محتملًا للتصديق والتكذيب، مع أن لجزئه دلالة على جزء المسمى.
وقيل: الغائب كلمة وفاقًا، والأول: أصح.
مسألة
دلالة اللفظ لو كانت لمناسبة، لما صحّ وضع لضدين، ولما اختلفت باختلاف الأمم والنواحي، لاهتدى إليها بالعقل، ولأنا نعلم ضرورة أن ما يخيل من المناسبة فيه غير آتٍ
1 / 43
في كله.
وخالف عباد، محتجًّا بأنها لو لم تكن لها، لزم التخصيص بلا مرجح.
وأجيب: بمنعه، إذ ليس الترجيح منحصرًا فيها، وبالنقض بتخصيص وجود العالم، وبالأعلام.
ثم قال الأشعري، والفقهاء والظاهرية: دلالته بالوضع مع الله تعالى، وسمى توقيفًا، والمعتزلة والبهشمية: من العبيد ويسمى اصطلاحًا.
والأستاذ: ابتداؤه منه تعالى، لا الباقي.
1 / 44
وقيل: بعكسه.
وتوقف جمع، كالقاضي، وإمام الحرمين والغزالي والإمام.
إذ الكل ممكن، فإنه يمكن أنه تعالى وضعها وعلمها بإلهام، أو بخلق علم ضروري، بأن واضعًا وضعها، وعرف غيره بإشارة، أو غيرها، كتعلم الولد لغة والدين، ويلزم منه إمكان الآخرين ولا يجزم بواحد، لضعف دليله، لما يأتي فوجب التوقف.
أدلة القائلين بالتوقف
التوقف:
قوله تعالى: ﴿وعلم ءادم الأسماء كلها﴾ [البقرة: آية ٣١] دلّ على أنها توقيفية، فكذا قسماه، لعدم الفصل، ولتعذر التكلم بها وحدها ولاندراجها تحتها، لكونها علامة أيضًا.
وأجيب: بمنع دلالته على توقيف الأسماء إذ التعميم: فعل ما يترتب عليه العلم، لا إيجاد العلم، إذ يقال: علمته فما تعلم، لا يقال: إنه للقرينة، لأن التعارض خلاف الأصل سلمناه لكن العلم الحاصل بعد الاصطلاح بخلقه تعالى، سلمناه لكن المراد منها الصفات، من صلاحية المخلوقات للمصالح، سلمناه لكن علم وضعه من سبقه، لا وضعه تعالى.
1 / 45
لا يقال: إنه خلاف الظاهر، قلنا: ممنوع، سلمناه لكن المراد منه ما يحتاج إليه في الابتداء، دون الدوام، لعلم بحدوث أسام في كل عصر، والألف واللام للعهد، سلمناه لكن لا يلزم منه توقيف هذه اللغة بل لغة ما.
وفيه نظر: لأنه ليس الكلام في لغة معينة، بل في أول اللغات فلم يتجه ما ذكره.
وقوله تعالى: ﴿واختلاف ألسنتكم﴾ [الروم: آية ٢٢].
والمراد: اختلاف اللغات بطريق الإضمار أو التجوز، لأن اختلافها أكثر، وأظهر من الجارحة المخصوصة، فكان الحمل عليها أولى، ولاتفاق المفسرين عليها.
وأجيب: أن الأقدار على وضعها أو تلفظها، كالتوقيف في كونه آية فلم يتعين ما ذكرتم.
وفيه نظر: إذ التوقيف أولى، لأنه مجاز، أو وإن كان إضمار، لكنه أقل مما في الأقدار.
وجوابه: منع دلالة الخلق، وكونه آية على التوقيف، لأن على الاصطلاح -أيضًا - كذلك على ما عرف ذلك من مذهبنا.
وقوله تعالى: ﴿إن هي إلا أسماء﴾ [النجم: آية ٢٣]. ذموا على التمسية فلم يكن غيرها منهم.
وأجيب: بأنه لخصوصية التسمية، لا لمطلقها.
سلمناه: لكنه لا يدل على التوقيف، بل على أن بعضها كذلك، ولأن الاصطلاح إن عرف: بمثله لزم التسلسل، أو الدور، أو بتوقيف، فهو الغرض.
وبه تمسك الأستاذ في الأول، دون الدوام، لإمكان تعريفه بالتوقيف، وقال: إنه معلوم الوقوع.
وأجيب بالنقض: بتعلم الولد لغة والديه، وبأن تكريره مع الإشارة إلى المسمى، طريق إليه، ولا توقيف ودور، وتسلسل، وبأنه لا يقتضي توقيف هذه اللغة، بل لغة ما.
وأيضًا: الاصطلاح يرفع الأمان عن الشرع لجواز تبدلها.
وأجيب: بأنه لو تبدل لاشتهر، وجواب نقضه يعرف بعد.
1 / 46
أدلة المعتزلة "القائلين بالاصطلاح"
الاصطلاح:
قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول﴾ [إبراهيم: آية ٤]، دل على تقدم اللغات، فلو كانت توقيفية لزم الدور.
وأجيب: أن التوقيف لا يتوقف على البعثة، فلا دور، ولأن آدم غير مبعوث بلسان أحد، وهو معلوم، فلا دور.
وأيضًا - وصول التوقيف بالوحي باطل، لما سبق.
الدليل العقلي المعتزلة:
وبخلق علم ضروري، بأنه تعالى وضعها في عاقل، يوجب العلم الضروري به تعالى، وأن يبطل التكليف بمعرفته، أو في غيره، وهو بعيد جدًّا أو بغيرهما، ولا تسلسل، بل ينتهي إلى الاصطلاح.
وأجيب: بأنه بخلق العلم الضروري، بأن واضعا وضع، لا أنه تعالى وضع، سلمناه، فلما لا يجوز أن يعلم المجنون - ضرورة - بعض الأحكام الدقيقة.
ومنها: يعرف دليل المذهبين الآخرين وجوابه.
وإذ قد ظهر الضعف الكل، وجب التوقف.
مسألة:
لا بد لكل إنسان من طريق يعرف به غيره ما في ضميره، لأنه مضطر إلى التعاون،
1 / 47
واختيرت العبارة، لأنها من كيفية التنفس الضروري، لوجودها وعدمها عند الحاجة، ولأنها عامة الإفادة، ولقلة لزوم الاشتراك فيها.
وليس الغرض من وضع المفردة إفادة معانيها المفردة للدور، بل الغرض أن يفاد بتركيبها معانيها المركبة، ويكفي في إفادتها لها العلم بها مفردة، ونسبها المطلقة، فلا دور
قيل: الألفاظ إنما تدل على الصور الذهنية، لا الخارجية.
أما المفردة: فاختلافها باختلاف الذهنية، واستمرار الخارجية.
وأما المركبة: فلأن الخبر لا يفيد وجود المخبر عنه، وإلا: لم يكن كذبًا، بل الحكم به، وإنما يستدل به على الوجود الخارجي إذا عرف براءته عن الخطأ، قطعًا أو ظنًّا.
واعترض عليه: بأن موافقة الذهنية للخارجية شرط دلالتها عليها، والشيء ينتفي بانتفاء شرطه، وبأنه إنما يلزم ذلك لو كانت دلالته قاطعة، ثم إنه يقتضي صدق الخبر مع عدم مطابقته، وكذبه معها، وهو خلاف الإجماع.
مسألة:
ليس لكل معنى لفظ، وإلا: لوجد لفظ موضوع لمعاني غير متناهية، إذ الألفاظ متناهية، دون المعاني، لكنه محال، إذ وضعه لها ومعرفته تقتضي تعقلها مفصلة، وهو - منا - محال، فما تمس الحاجة إليه يجب الوضع له، للقدرة والداعي، وما لا فلا، بل جاز أن يكون فيه الأمران.
واللفظ المشهور لا يكون موضوعًا للخفي، كلفظ الحركة للمعنى الموجب لكون الذات متحركة، على ما يقوله بعضهم، لأنه لو كان موضوعًا له ولغيره لزم الاشتراك،
1 / 48
أوله فقط لزم النقل، إذ المعنى المشهور: هو المتبادر إلى الفهم، وأنه آية الحقيقة، وليس هو بطريق الوضع الأصلي فيكون بالنقل.
مسألة
معرفة العربية واجبة، لتوقيف معرفة شرعنا عليها.
وهي بالنقل: متواترًا مفيدًا للعلم، أو أحادًا مفيدًا للظن، أو مركب منه والعقل، لا وحده.
كما يعلم أن المجموع للعموم: بنقل صحة الاستثناء عنها، وأنه إخراج ما لولاه لدخل.
وهو مفيد، إن لم يجز التناقض على الواضع، ولم يثبت ذلك، ثم هو نادر، فلا يعول عليه في الكل.
والتواتر: ممنوع، للاختلاف في أكثر الألفاظ دورانًا على الألسن، كلفظ "الله"، ولعدم العلم باستواء الطرفين والواسطة والاعتماد على أنه لو تغير لاشتهر - ضعيف، إذ ليس وضع لفظ لمعنى واقعة عظيمة، ثم اشتهر أخذها عن قوم، ولم يحصل التواتر بنقلهم، والقطع بعدم نقل الكل كذبًا لا يفيد.
والآحاد: لا يفيد إلا الظن، إن سلم عن الطعن والمعارضة، وهو غير حاصل، إذ جرح بعضهم بعضًا، وبتقدير سلامته وجب أن لا يقطع بشيء منه، والاجتماع فرع هذه القاعدة، فإثباتها به دور.
أجيب:
أنَّ المشهور منها، كالسماء والأرض، معلوم لا يقبل التشكيك كالضروريات، وغير
1 / 49
مظنون ووجب العمل به بالإجماع بما يفيد القطع.
فصل
دلالة اللفظ على مسماه المطابقة، وعلى جزئه التضمن، وعلى لازمه الالتزام، وكله مقيد بكونه كذلك، للاحتراز عن المشترك بين الشيء وجزئه أو لازمه، كالرحيم.
ولم يقيد الإمام الأولى به، لا بأنه لا حاجة إليه فيها، بل لعله لأن المحترز عنه لم يعرف بعد.
وهي تنفك عن التضمن، وعن الالتزام على رأي، وهي لازمة لها.
والدلالة: الحقيقة، والوضعية، واللفظية هي: "المطابقة"، والباقيتان: عقليتان ومجازيتان.
وقيل: دلالة التضمن لفظية - أيضًا -، وهو ضعيف لأنه يلزم مساواة الالتزام له، أو التحكم.
ودلالة اللفظ - بتوسط الوضع - منحصرة في الثلاثة، إذ لو فهم معنى منه بدونها، لزم الترجيح من غير مرجح، وإنما قيد بتوسط الوضع لتخرج دلالة العقل، والطبع والعرف.
ولمعتبر في الالتزام اللزوم الذهني ظاهرًا، إذ لا فهم دونه ولحصوله بدون القطع، لا الخارجي إلا: لما قيل: بأن لفظ الجوهر لم يستعمل في العرض.
1 / 50
وبالعكس مع تلازمهما فيه إذ لا يلزم من وجود ما يعتبر في وجود الشيء وجوده كالشرط، واللازم العام بل لحصول الفهم دونه، كما في الضدين.
والدال بالمطابقة:
إن قصد بجزئيه دلالة على جزئي المعنى - حين هو جزؤه - فمركب، وإلا: فمفرد كـ"ق" إذا جعل علما، وفرس وإنسان وعبد الله، والحيوان الناطق علمًا وما يقصد بجزء منه دون جزء - غير موجود.
والمؤلف كالمركب.
وقيل: ما لجزئه دلالة على جزء المعنى.
والمركب: ما يدل جزؤه على غير جزء المعنى، فمباينة، ولا بأس بجعله أعم منه.
وقيل: المفرد هو اللفظ لكلمة واحدة، فنحو: "عبد الله" مركب على هذا، وإن كان علما، ويضرب مفردًا، وهما على العكس على الأوّل.
وقيل: المفرد، غير الجملة.
وأيضًا: اللفظ جزئي إن منع نفس تصوره معناه عن قوع للشركة فيه، وإلا: فكلي وأقسامه تسعة، على ما ذكرناه في نهاية الوصول في دراية الأصول.
وهما بالذات للمعنى، وبالعرض للفظ.
والكلي: إما تمام الماهية، وهو المقول في جواب ما هو: إما بالشركة فقط، وهو ما
1 / 51
يجاب به حالة الجمع فقط، كالجنس بالنسبة إلى أنواعه - أو بالخصوصية فقط، وهو الذي يجاب به حالة الإفراد فقط، كالحد بالنسبة إلى محدود.
أو بهها، وهو الذي يجاب به فيهما معًا، كالنوع بالنسبة إلى أفراده.
أو جزؤها - وهو الذاتي:
وهو إتمام المشترك وهو الجنس قريبًا كان أو بعيدًا.
أو تمام المميز، وهو الفصل القريب.
وإن لم يكن تمام المشترك، كان بعضًا منه مساويًا له، دفعًا لتسلسل فكان فصلًا بعيدًا، لتميزه الماهية عن شيء ما في ذاته.
ولو فسر الفصل: بكمال المميز، لم يكن حصر الجزء في الجنس، والفصل، لإمكان جزء ليس كذلك، كفصل الجنس.
ومن لم يحصره فيهما، فعنده منحصر في الجنس والفصل وجنسهما وفصلهما.
والأجناس: تنتهي في الارتقاء إلى ما لا جنس فوقه، وهو جنس الأجناس.
1 / 52