كنت تقولين لي: إنني لا أجد لذة الحياة بعيدة عنك، فها أنت تجدينها بعيدة عني جدا بين أقوام لا تعرفينهم، ولا تمتين إليهم بصلة من الصلات، أو سبب من الأسباب.
لقد شعرت بهذا الطارئ الجديد الذي طرأ على نفسك مذ رأيتك تلبسين هذا الثوب الضيق اللاصق بجسمك، وعهدي بك أنك تضيقين ذرعا بالريح العاصفة إذا مدت يدها إليك وحاولت أن تعبث بذيل ردائك، أو تدور بقميصك حول جسمك، ولا أدري ماذا يكون شأنك غدا إذا فارقت هذه القفرة الموحشة إلى ذلك العالم المزدحم الهائل الذي يتدفق حرية واستهتارا، ويسيل نعمة ورغدا؟
نعم إنك قد مللتني يا فرجيني، ومللت الحياة بجانبي، وأصبحت تشعرين بالحاجة إلى المال الذي لا أستطيع تقديمه لك، وإلى العيش الرغد الذي تقصر يدي عنه، فلا ألومك ولا أعتب عليك، ولكنني أسألك هل أنت على ثقة من أن المال هو السبيل الوحيد إلى السعادة التي تنشدينها؟ وإنك تكونين في ذلك الفناء الواسع أسعد منك في هذه الزاوية الضيقة؟ إنني أخاف أن تكوني مخطئة فيما تظنين.
إنني لا آسى على نفسي يا فرجيني، فقد عرفت من أنا وعرفت من أنت، وأصبحت لا أمل لي في أن أعيش في دائرة أوسع من الدائرة التي خلقت لها، ولكنني أضن بك على الدهر وأرزائه أن يمتد إليك ظفر من أظفاره الجارحة فأهلك على أثرك هما وكمدا، فإما أن تعدلي عن السفر، أو تأذني لي بالسفر معك، فإنني لا أستطيع أن أحول بين قلبي وبين القلق عليك ما دمت غائبة عني، فإن أبيتهما فودعيني منذ الساعة الوداع الأخير، فلا أمل لي في الحياة من بعدك!
فلم تستقبله إلا بدموعها تتحدر على خديها تحدر حبات العقد وهي سلكه فانتثر، وأنشأت تقول له: إنني إنما أسافر من أجلك يا بول لا من أجل نفسي؛ لأنني أصبحت أشفق عليك الإشفاق كله من هذا الشقاء الذي تكابده في سبيلي وسبيل هذه الأسرة المسكينة، وطالما بكيتك بيني وبين نفسي كلما رأيتك صاعدا شرفا، أو عابرا نهرا، أو سالكا وعرا، أو حاملا ثقلا، حذرا عليك أن تزل بك قدمك في هوة من الهوى فتهلك فأهلك على أثرك، فأنا إن فارقتك فإنما أفارقك بجسمي لا بنفسي لأعود إليك بعد قليل من الأيام بالراحة الطويلة من الآم هذه الحياة ومتاعبها، ولنستطيع أن نتمتع غدا في هذا المعتزل الساكن الجميل متعة لا يكدرها علينا مكدر حتى الموت.
ورجائي إليك، ألا تعود مرة أخرى إلى ذلك الحديث المزعج الذي حدثتنيه الساعة، فإنما نحن توءم، نشأنا معا، ودرجنا معا، وشربنا الحياة من كأس واحدة، وسلكنا سبيلها من طريق واحدة، هذا هو نسبنا، وهذا هو حسبنا، لا نعرف غيره، ولا نفهم شيئا سواه، وإني قائلة لك كلمة ما كان يمنعني من أن أقولها لك قبل اليوم إلا الخجل والحياء: لو أن الدنيا عرضت علي بحذافيرها على أن أبتاعها بشوكة تشاكها ولحظة تتألم فيها، لأبيتها غير آسفة ولا نادمة.
على أنني لا ذنب لي فيما كان، فقد أمرتني أمي بالسفر ولا أستطيع أن أخالف لها أمرا، وأبلغني الكاهن أن تلك إرادة الله ومشيئته، ولا قبل لي بالخروج عن إرادته، وبعد فهأنذا بين يديك فمر في بما تشاء من أمرك أطعك وأذعن إليك غير مبالية بشيء بعدك، فكل ما في الحياة هين علي إلا أن أراك جازعا أو متألما.
فصاح بول صيحة الفرح والسرور وقال: سافري يا فرجيني، وسأسافر معك لأقيك بنفسي عاديات الدهر وطوارق الحدثان، فإن حيينا حيينا معا، وإن هلكنا هلكنا معا، ثم دنا منها وضمها إلى صدره فشعر بالراحة التي يشعر بها الملقي عصاه بعد سفر طويل.
وكنا نفتش عنهما في تلك الساعة أنا وهيلين ومرغريت ولا نعرف لهما مكانا، حتى سمعنا صيحة بول حين صاح فقصدنا إليه، فما وقع نظره علينا حتى انتفض من مكانه ومشى إلينا، ثم التفت إلى هيلين وألقى عليها نظرة ما ألقى عليها مثلها قبل اليوم، وقال لها بنغمة الهازئ الساخر: نعمت الأم أنت يا سيدتي، ونعم ما تسدينه إلى ولديك الكريمين عليك من نعمة سابغة ويد بيضاء، إذ تريدين أن تفرقي بينهما، وتمزقي شمل حياتيهما، وتعذبي قلبيهما الناشئين الضعيفين بصنوف العذاب وألوان الآلام، وأنت تعلمين أنهما متحابان متآلفان، لا يستطيع أحدهما أن يصبر عن صاحبه لحظة واحدة، وأن افتراقهما هو القضاء عليهما معا.
لقد كنت يا سيدتي أزهد الناس في المال، وأشدهم نقمة عليه، وزراية وزهدا فيه، فما الذي بدا لك في شأنه حتى أصبحت تخاطرين بولديك العزيزين عليك في سبيله؟ بل تخاطرين بكرامتك وعزة نفسك؟ لأنك تريدين أن ترسلي ابنتك إلى تلك الأرض التي أهانتك واحتقرتك، وأبت أن تسمح لك بالبقاء فيها، والعيش تحت سمائها، عقابا لك على هفوة صغيرة ما كان مثلها جديرا بمثل هذا العقاب المؤلم الشديد.
Bilinmeyen sayfa