وأغرب من ذلك أن الزنجيين «ماري ودومينج» لم يكن قلبهما خاليا من ذلك الشعور الطيب الشريف، شعور الوفاء للوطن الأول والحنين إليه، فأطلقوا اسم «أنغولا» و«فول بوانت» على بعض حقول الدخن ومنابت القرع، شغفا بأوطانهما وعهود صباهما، وضنا بذكراها أن تزول.
وكانت تعجبني من هؤلاء القوم كثيرا تلك الروح الأثرية الغالبة على شعورهم ووجدانهم؛ لأني أعتقد أنها هي بعينها روح الوفاء والإخلاص، وأن من لا خير فيه لماضيه فلا خير فيه لحاضره ومستقبله.
وما زلت مذ نشأت لا أوثر منظرا من مناظر الحياة ولا مشهدا من مشاهد الحسن والجمال على منظر أثر قديم أعثر به في سفرة من أسفاري في بادية منقطعة أو صحراء شاسعة، فأقف بين يديه ساعة من نهار وأرى في نؤيه وأحجاره وصخوره المبعثرة وأعمدته المتناثرة ونقوشه المحفورة على بقايا جدرانه صورة أولئك القوم البائدين الذين كانوا يسكنونه ويعمرون عرصاته ومغانيه، وكأني أسمع في صفير رياحه وعزيف جناته وغيلانه صائحا يصيح بي: لقد كان يعيش في هذا المكان عالم مثل عالمكم، يشعرون كما تشعرون، ويفكرون كما تفكرون، ويؤملون في الحياة الطيبة الهانئة كما تؤملون، وهم وإن ذهبوا بأجسامهم، وخلا وجه الأرض من سميرهم وأنيسهم، فهم باقون بينكم بأرواحهم وآثارهم، وما أنتم يا أبناءهم وأحفادهم وحملة أسرار حياتهم إلا أرواحهم وآثارهم التي بقيت على الأرض من بعدهم.
هنالك أشعر أنني قد انتقلت من حاضري إلى ماضي، وأنني أعيش في تلك العصور القديمة بين آبائي وأجدادي، أحدثهم، وأفضي إليهم بذات نفسي ويفضون إلي بذوات نفوسهم، فأقضي على ذلك ساعة من الزمان، ثم أذهب لشأني وقد فاضت نفسي شعورا بأن النفس الإنسانية خالدة باقية لا تنال منها عاديات الزمان، ولا تعبث بصورتها الأيام والأعواد.
ومنت لذلك شديد الشغف بحفر الكلمات أو نقشها على كل ما يقع عليه نظري من الجذوع والأشجار، والصخور والأحجار، وكل ما أمر به في طريقي مما أحبه وأرضاه، وأتمنى له الخلود والبقاء، كأنني كنت أريد أن أمد الأجيال المقبلة بالذكريات العظيمة، كما أمدتنا الأجيال الماضية بذكرياتها وعهودها، فحفرت على ساق شجرة العلم كلمة «هوارس» اللاتيني: «وقاك الله شر العاصفة ولا عبثت بك إلا أيدي النسائم.» وعلى جذع شجرة كان بول يجلس تحتها أحيانا؛ ليشاهد منظر البحر الهائج قول الآخر: «ما أعظم سعادتك لأنك لا تعرف إلها غير إله النبات!» وعلى باب كوخ هيلين؛ وكان هو مجتمع الأسرة ومنتداها هذه الكلمة: «هنا ضمير صالح ونفس لا تعرف الخداع.»
وكانت فرجيني تستثقل أمثال هذه الكلمات وتراها غامضة ومتكلفة، وقالت لي مرة: حبذا لو أنك كتبت على شجرة العلم: «ثابت دائما برغم اضطرابه» بدلا من كلمتك التي كتبتها. فأجبتها: ذلك إنما يقال في موقف الحث على الفضيلة، فاحمر وجهها خجلا وصمتت.
ذلك كان شأن هذا الوادي فيما مضى، أما اليوم فقد عفا فيه كل شيء، ودرس كل أثر، ولم يبق من تلك الرسوم الماضية إلا كما يبقى من الوشم في ظاهر اليد. وأصبحت أعيش في هذا المكان كأنني أعيش بين خرائب أثينا أو أطلال منف، وما مضى على تاريخها أكثر من عشرين عاما.
الفصل الثاني عشر
مخدع فرجيني
ولم أر فيما رأيت من المناظر الجميلة والمشاهد الفاتنة المؤثرة منظرا أبدع ولا أجمل ولا أعلق بالقلوب ولا أشهى إلى النفوس من منظر ذلك المكان الذي كانوا يسمونه «مخدع فرجيني»، وهو كهف صغير منحوت في أصل الصخرة الكبرى، كأنه مضجع النائم يتفجر بين يديه نبع غزير صاف، تحف به نخلتان من نخيل الجوز كانت مرغريت قد بذرت بذرة إحداهما منذ أربعة عشر عاما يوم ولادة ولدها بول، وبذرت هيلين بذرة أخرى منذ ثلاثة عشر عاما يوم ولادة ابنتها فرجيني، فنبتتا مع الولدين وسميتا باسميهما. وما ذهبتا مذهبهما في جو السماء حتى تداني سعفهما واشتبكا كأنهما تتعانقان، وكانت نخلة بول أطول قليلا من نخلة فرجيني؛ لأن بول كان أسن من فرجيني بعام واحد وأطول قامة منها.
Bilinmeyen sayfa