أسسوه على الماء، فألقوا فيه الحجارة، فكان الماء يلفظها، فدعا سليمان الحكماء الأحبار، ورأسهم آصف، فقال: أشيروا علي. فقال آصف، ومن قال منهم: إنا نرى أن تتخذ قلالا من نحاس، ثم تملأها حجارة، ثم تكتب [عليها] هذا الكتاب الذي في خاتمك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ثم تلقي القلال في الماء، فيكون أساس البناء عليه. ففعل فثبتت القلال، فألصقوا الصخر والحجارة عليها، وبنى حتى ارتفع بناؤه، وفرق الشياطين في أنواع العمل، فدأبوا في عمله، وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت والزمرد وألوان الجواهر، فجعل الشياطين صفا مرصوصا، ما بين معدن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعادن حجرا أو أسطوانة تلقاه الأول منهم، ثم الذي يلي المعدن إلى الذي يليه، ثم الذي يليه، فيلقي بعضهم لبعض حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل يقطع الرخام الأبيض منه، مثل بياض اللبن، من معدن يقال له: السامور، ليس بهذا السامور الذي بأيدي الناس، ولكن هذا به سمي، وإنما دلهم على [معدن] السامور عفريت من الشياطين، كان في جزيرة من جزائر البحر، فدلوا سليمان عليه، فأرسل إليه بطابع من حديد، وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس، فيطبع إلى الجن بالنحاس، وإلى الشياطين بالحديد، ولا تجيبه أقاصيهم إلا بذلك، وكان خاتما نزل عليه من السماء، حلقته بيضاء، وطابعه كالبرق، لا يستطيع أحد أن يملأ بصره منه، فلما [بعث] إلى العفريت فجاء به، قال: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر ، فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا وصريره، والذي أمرنا الله به من ذلك هو الوقار والسكينة. فقال العفريت: اتبع لي وكر عقاب، فإني لا أعلم في السماء طيرا أشد من العقاب، ولا أكثر منه حيلة، فوجدوا وكر عقاب، فغطى عليه ترسا من حديد غليظا، فجاءه العقاب فنفخه برجله؛ ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متطلعا، فلبث يومه وليلته، ثم أقبل ومعه قطعة من السامور معترضا، فتفرقت له الشياطين حتى أخذوه منه، فأتوا به سليمان، فكان يقطع به الصخر.
وعمل سليمان بيت المقدس عملا لا يوصف، ولا يبلغ كنهه أحد، وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان، وألوان الجواهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدرانه وأركانه، شيئا لم ير مثله، ولم يعلم يومئذ في الأرض موضع مال أعظم منه، ولا عرض من عروض الدنيا أكثر منه، فتسامعت الخلائق به وشهرته، فكان نصب أعينهم، ولكنهم لم يكونوا يرمونه مع سليمان عليه السلام، ولا يحدثون به أنفسهم. فلما رفع سليمان يده من البناء بعد فراغه وإحكامه، جمع الناس وأخبرهم أنه مسجد لله عز وجل، وهو أمره ببنائه، وأن كل شيء فيه لله تعالى، من انتقصه أو شيئا منه فقد خان الله عز وجل، وأن داود عهد إلى ذلك من قبل، وأوصى بذلك من بعده.
Sayfa 22