بيان عظم رحمة الله ومغفرته
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١٢]، اتقوا الله: أي اتخذوا منه الوقاية بتلك الأمور التي من أولها: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) و(وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و(وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، لا تظنوا السوء بالناس، لا تجسسوا، لا يغتب بعضكم بعضًا، وتوبوا إلى الله من هذا كله، فاتقوا الله وخذوا الوقاية من عذاب الله، وقد أشرنا أن قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾، يصح أن ترجع للمغتاب والذي وقعت عليه الغيبة، أو المتجسس والمتجسس عليه، أو الظان والمظنون فيه.
أنت تسخر منه لماذا؟ لضعفه.
أنت تظن به السوء لماذا؟ لأنك تنقصته بما سمعت عنه.
أنت تتجسس عليه لماذا؟ لتصل إلى نقص العلم الذي عندك لتكمله؛ فإذا كان الأمر كذلك والمولى سبحانه تواب رحيم فقد يتوب على ذلك الذي سخرت منه بسبب ما يوجد فيه، سخرت منه لمعصية، قد يتوب الله عليه.
فإذا كان المولى يتوب عليه وتأتي أنت وتعاقبه، فلا حق لك في هذا، وترجع أيضًا للفاعل (توبوا) فالله تواب يقبل توبة التائبين عن كل هذه الآفات الأخلاقية أو الدينية، فـ: (تَوَّابٌ رَحِيمٌ)، يصح أن ترجع للمتنقص أمره والمتنقص الذي ارتكب تلك الآفات والآثام، والله تواب يقبل التوبة من عباده رحيم يكرم من تاب عليه بواسع رحمته، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٤٨]، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل إنسانًا عابدًا جاهلًا، ثم أفتاه بعدم قبول توبته، فقتله وكمل به المائة -وهذه نتيجة الفتوى بغير علم- ثم عندما سأل عالمًا قال له: إن تبت إلى الله فإنه يقبل توبتك -وهذا هو الفقه- ولكن أرى أن تخرج من هذه البلدة التي ارتكبت فيها تلك الآفات إلى بلدة أخرى فيها أناس صالحون يعبدون الله فتعبد الله معهم -وهذه نتيجة الجليس الصالح- فخرج تائبًا إلى الله، فمات في نصف الطريق، اختصمت فيه الملائكة، والله سبحانه حكم بينهما، وقال: قيسوا الأرض التي خرج منها والأرض التي ذهب إليها، وانظروا إلى أيهما أقرب، وفي بعض الروايات: بأن الله زوى الأرض التي هو خارج إليها فكانت المسافة أقصر، فأخذته ملائكة الرحمة بحنوط إلى الجنة.
إذًا: لا ينبغي لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يعرض عن باب التوبة إلى الله ولو تكرر منه الذنب مرارًا، وقد بين رسول الله ﷺ أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولو أنه ارتكب ما ارتكب ثم رجع بعزيمة صادقة من الذنوب ثم رجع بصدق، وتاب توبة، ثم رجع إلى الذنوب مرة أخرى، فرجع فتاب مرة أخرى وتاب نفس التوبة؛ فإن الله ﷾ يتوب عليه في كل مرة ما دام يفعل ذلك.
ثم في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١٢] صيغة مبالغة.
يعني: كثير التوبة على عباده واسع الرحمة بهم، والفرق بين الرحمان والرحيم: أن رحمان اسم فاعل، ورحيم صيغة مبالغة، وقال الرسول ﷺ: (الله قسم رحمته مائة جزء، فأنزل جزءًا من تلك المائة إلى الأرض بها تتراحمون، وبها ترفع الدابة حافرها أن تضعه على ولدها رحمة به، وادخر تسعة وتسعين رحمة لرحمة العباد يوم القيامة)، ولذا يقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، والله ﷾ أعلم.
8 / 7