بين معجزات الرسول وغيره من الرسل
وهذه نار إبراهيم المحرقة، ما طار طائر من فوقها إلا وهوى من حرارتها، مكثوا مددًا طويلة يجمعون لها الحطب، فلما أجمعوا أمرهم لم يستطيعوا أن يدنوا منها، فنصبوا المنجنيق؛ ليلقوا بإبراهيم من بعد، وحينما ألقي في النار تقول السير: أتاه جبريل ﵇ حينما ضجت ملائكة السماء شفقة على إبراهيم، فقال الله لهم: إن طلبكم شيئًا فأعطوه، وإن استعاذكم فأعيذوه، وإن استعان بكم فأعينوه، ولكنه لما نزل إليه جبريل وقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، سله هو أعلم بحالي من مقالك.
هناك من يشكك في هذه الرواية، ويقول: إن ذلك يمنع الدعاء عند الشدة، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا القائل لو علم الموقف علمًا يقينيًا لوجد في هذه الألفاظ الصواب كل الصواب، والبلاغة كل البلاغة، ونحن نعرف (إذا) الفجائية، والموقف الآن هو نار مشتعلة، ومنجنيق منصب، ولم يبق إلا شد الحبل وإرخاؤه، فهل هناك مجال لقول: يا رب ارحمني يا رب ارحمني يا رب احفظني؟ لا مجال، فعلمه سبحانه بحاله يغني عن سؤاله؛ لأنه مهما سأل ومهما تكلم فلن يزيد عن تصوير حالته فيما يرى الله ويسمع.
إذًا: لا مجال للكلام، وأنت الآن تطبق ذلك: إذا رأيت إنسانًا يعبر الشارع، ورأيت سيارة قادمة مسرعة، فهل تقف وتقول: يا رب! احفظه وسلمه من السيارة وجنبه الآفات -في هذا الوقت تكون السيارة قد أخذت عشرات الأشخاص- أم حالًا تقول: السيارة السيارة، يعني: احذر السيارة.
لما ألقي إبراهيم ﵇ في النار، كان أمر الله للنار؟ (قُلْنَا) والنون للعظمة والقدرة والجلال، وكلمة: (قُلْنَا) لا يملكها إلا هو سبحانه، (يَا نَارُ):الياء: أداة نداء، والنار منادى، ليس لها آذان وليس لها قلب يعي ولكن خالقها قادر على إسماعها وإفهامها، ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:٦٩] ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢] .
وهذا موسى ﵇ ومعه بنو إسرائيل أمره الله أن يخرجوا مصبحين إلى أين يا رب؟ قال: حيث ترى السحابة فسر في ظلها، فإذا بالسحابة تقوده إلى ساحل البحر، فوقفوا والتفتوا فإذا فرعون وقومه وراءهم، فقال الذين معه: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا.
أين المفر؟ إن أمامنا بحر لجاج، وإن تأخرنا أدركنا العدو، فقال موسى ﵇: (كَلاَّ)، وكلا هي بذاتها تجلجل، فكيف بمعناها ودلالته؟ ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦٢] .
دائمًا ننبه على اختلاف المقامات والمراتب، هذا الموقف الحرج قال فيه موسى لقومه: (كَلاَّ إِنَّ مَعِي) معي أنا، والأمة هذه كلها وكأن العبرة لموسى وهارون ﵈، وبينما رسول الله ﷺ حينما كان في الغار ومعه الصديق وجاء الطلب ووقفوا على فم الغار بسيوفهم، ماذا قال أبو بكر: (والله لو نظر أحدهم إلى أسفل نعليه لأبصرنا لرآنا، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؛ ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:٤٠] هل قال: معي وكفى؟ لا.
بل قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) جمع أبا بكر معه؛ لأن أبا بكر شارك في الهجرة من بيته إلى الغار، وفادى رسول الله ﷺ بنفسه عدة مرات، تارة من أمامه، وتارة من ورائه وعن يمينه، وعن شماله، كل ذلك مخافة على رسول الله ﷺ، ولما وصلوا الغار ليلًا والغار مظنة الآفات والهوام، قال: على رسلك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار) .
وأنت يا أبا بكر من يستبرئه لك؟! ولهذا لما سأله رسول الله ﷺ: (ما بالي أراك تارة أمامي وتارة خلفي.
؟ قال: أتذكر الطلب فأكون خلفك.
قال: يا أبا بكر! لو كان هناك شيء أتود أن يكون فيك دوني؟ قال: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) لست شخصًا وحدك، بل معك رسالة السماء إلى الأمة، ومن هنا كان يستحق أن تفدى بالدنيا بكاملها، ولذا كان التكريم، ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ وقال له: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وهناك موسى قال: (مَعِي)؛ لأنه الوحيد في هذه الأمة، والموقف هناك أبو بكر له فيه مساهمة.
ماذا كان الحل لإنجاء موسى؟ نجد البحر أمواجًا متلاطمة، فيوحي الله لموسى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء:٦٣]، كالجبل الكبير جدًا، ثم يصير جمادًا متماسكًا، وانفلق إلى اثني عشر طريقًا في البحر، ويمشي بنو إسرائيل في كل طريق، وطريق الماء الفاصل بينهما فيه فتحات حتى يطمئن بعضهم على بعض.
إذًا: الله ﷾ هو القدير، خالق الموجودات ومسبب الأسباب، يمكن أن يسلب السبب من المسبب، أو يسلب الخاصية من العين.
6 / 3