الجهاد في كتاب الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات:١٥]، في أي وضع من الأوضاع وثبتوا على ما هم عليه إلى أن يلقوا الله ﷾ على ما آمنوا به.
(وَجَاهَدُوا) الجهاد -كما يقولون-: من بذل الجهد، وبذل أقصى الطاقة عند الإنسان، ولهذا يقولون: اجتهد فلان في حمل الصخرة، ولا يقولون: اجتهد في حمل الدفتر في يده؛ لأن الدفتر لا يحتاج إلى بذل الجهد، والطفل الصغير يحمله، ولهذا كان الجهاد جهادًا؛ لأن الإنسان يبذل أقصى جهده أمام عدوه.
(وَجَاهَدُوا) في سبيل الله، لا في سبيل حمية ولا وطنية ولا جنسية ولا عرقية ولا أي مبدأ دنيوي، إنما جاهدوا في سبيل الله.
ولماذا يأتي بهذا القيد؟ لأن العدو يجاهد والمسلم يجاهد وكلٌّ له مبدأ، فهؤلاء يجاهدون في سبيل مبادئهم لنصرتها وحمايتها، الماركسي يجاهد لحماية مبدأ لينين وماركس والمسلم يجاهد لإعلاء كلمة الله، وجاء الحديث: (الرجل يقاتل حمية، يقاتل لغنيمة، يقاتل ليرى مكانه.
، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)، هذا هو الذي في سبيل الله.
بم يجاهدون؟ (بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) .
﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:١٥] أي: صدَّق فعلُهم قولَهم.
وهنا وقفة طويلة تحتاج إلى توسعة شاملة، وهي في قوله سبحانه: ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:١٥]، أي: أنهم لم تكن عندهم غاية في دنياهم إلا سبيل الله وإعلاء كلمة الله، أيًَّا كان موطن جهادهم، وأيًَّا كانت راية قائدهم، ومهما كان الأمر، فليس لهم مطمع، ولا غاية ولا حاجة، لا في استعباد البلاد، ولا في استعمارها، ولا في منصب ولا جاه، وقد بين ذلك أتم بيان القائد المسلم المظفر خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه حينما سئل: يا خالد! لقد خضت المعارك وفزت بالانتصارات العظيمة، فما هي أمنيتك؟ يعني: كأنهم يقولون: أنت لك أمنية وهي النصر في الجهاد، وهذه والله فعلًا عظيمة، ومن جهة المال أو الدنيا فلا يسألون عنها، والله ﷾ قد أغناه، كما قالوا: (منع خالد زكاة ماله.
قال: إنكم تظلمون خالدًا، لقد احتبس أدرعه وسلاحه في سبيل الله) يعني: ليس عنده شيء.
خالد يُسأل ما هي أمنيتك بعد هذا النصر؟ قال: أمنيتي هي: أن أقوم في ليلة شديدة البرد عاصفة الرياح مطيرة.
تصوروا هذا! ليلة مطيرة شديدة البرد عاصفة الرياح، الناس في مثل هذه الليلة يستكنُّون وينزلون في الخنادق استتارًا من شدة البرد والريح العاصف والمطر.
ولكن خالدًا يقول في هذه الليلة التي يستكنُّ فيها كل إنسان: أتمنى أن أكون حارسًا للجند، تاليًا لكتاب الله.
هذه الليلة ليست ليلة عادية مقمرة وربيع وهواء، لا.
بل شديدة البرد والريح والمطر، يقوم في تلك الليلة حارسًا للجند في تلك الحالة أيضًا وتلك الشدة.
والرجلان اللذان أسند إليهما النبي ﷺ حراسة الشِّعب عندما قَفَل ﷺ من غزوة بالليل، فقال: (من يكلأ لنا هذا الشِّعب؟) وقام رجل ثقفي وآخر أنصاري فقال أحدهما للآخر: اكفني أول الليل أو آخره وتقاسما الليل، وقام الأنصاري يصلي وهو يحرس فم الشعب.
هذا هو ترفيههم، وليس كالترفيه البريء الذي نعطيه للجنود في أثناء المعارك، ونلهيهم بما يسمى بريئًا، ووالله ما هو ببريء، على كلٍّ قام يصلي -لكي لا ينام- وهو يحرس الشعب، فجاء رجل كان المسلمون أصابوا زوجته بالنهار وهو غائب، فأقسم ليتبعنَّ المسلمين وليُصيبنَّ منهم ثأرًا لزوجه، فلما جاء على فم الشعب سمع هذا يقرأ، فعرف أنه من المسلمين، فأخذ سهمًا، فصوَّبه فأصاب؛ لكنه لم يقطع القراءة، ونزع السهم واستمر، فظن الرامي أنه لم يُصِب، فعدَّد الثاني والثالث، وكلها تصيبه، حتى تقاطر الدم على وجه صاحبه وهو نائم فانتبه، فلما انتهى قال: ما هذا الدم يا أخي؟ قال: كذا وكذا، قال: هلَّا أنبهتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة كرهت أن أقطعها.
هذا حاله وهو يجاهد في سبيل الله.
وهكذا -أيها الإخوة- أمثلة عديدة.
فهؤلاء هم الذي جاهدوا في سبيل الله حقًا.
أما قوله سبحانه: ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ [الحجرات:١٥]، فللعلماء مبحث في تقديم الأموال على الأنفس، والعادة أن التقديم له أهمية، فهل يكون الجهاد بالمال أهم من الجهاد بالنفس؟ سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
11 / 2