7 «إذا أمكن لامرئ أن يقبل هذا المبدأ، مثلما ينبغي، وهو أننا جميعا ننحدر من أصل واحد هو الله، وأن الله هو أبو البشر والآلهة على السواء، فأعتقد أنه لن يستهين بنفسه أبدا ولن يحتقرها، فلو أن قيصر تبناك لما احتملنا غطرستك وخيلاءك، فما بالك لو عرفت أنك ابن زيوس، ألن يغمرك شعور بالزهو والرفعة؟
غير أننا لا نقدر هذا التشريف حق قدره. ولما كانت جبلتنا تجمع بين جسد تشاركنا فيه الحيوانات وعقل نشارك فيه الآلهة، فإن أكثرنا يميل إلى تلك القرابة البائسة الفانية (مع الحيوانات) وأقلنا يميل إلى هذه القرابة الإلهية السعيدة. وحيث إن كلا منا يتعامل مع كل شيء وفق رأيه فيه فإن تلك الأقلية التي ترى أنها خلقت من أجل الإيمان والشرف والاستخدام الحصيف للانطباعات لن تحقر نفسها ولن تستهين بعنصرها. أما الأكثرية فسوف تفعل العكس. سيقول الواحد منهم: «من أكون أنا؟ إنني إنسان بائس حقير ... بهذه القطعة البائسة من اللحم التي هي جسدي.» بائسة حقا، ولكن لديك أيضا شيئا أفضل من هذا اللحم البائس. لماذا إذن تتشبث بما هو أدنى وتغفل عما هو خير؟!» (المحادثات، 1-3). «إذا صح ما يقوله الفلاسفة عن آصرة القربى بين الله والناس، فماذا يسع المرء أن يفعل غير ما فعله سقراط؟ إذا سئلت: إلى أي بلد تنتسب؟ فلا تقولن إني أثيني أو كورنثي، بل قل: إني مواطن العالم. فلماذا تنتمي إلى أثينا ولا تنتمي إلى الركن الأصغر من أثينا الذي شهد مسقط رأسك؟! من البين أنك تدعو نفسك أثينيا أو كورنثيا نسبة إلى المكان الذي يتمتع بسلطان أكبر ويتجاوز هذا الركن الصغير ويتجاوز عائلتك كلها ليضم كامل البلد الذي انحدر منه أسلافك جميعا وصولا إليك. ومن البين أن من يفطن إلى إدارة العالم ويعلم أن المجتمع الأكبر والأعظم والأشمل هو ذلك المكون من الله والناس، وأن الله هو الأصل الذي أتى منه لا والده وجده فحسب، بل جميع الكائنات على الأرض، وبخاصة الكائنات العاقلة؛ لأنها وحدها الكائنات التي جبلت على التواصل مع الألوهة من خلال العقل؛ من البين أن مثل هذا الإنسان سيدعو نفسه مواطن العالم، وابن الله، ولن يخشى أي شيء يحدث بين البشر. فإذا كانت قرابتك بقيصر أو بأي متنفذ في روما تضمن لك أن تعيش آمنا لا يتسافه عليك أحد ولا تخشى شيئا على الإطلاق، فما بالك إذا كان الله هو خالقك ووالدك وحارسك؛ ألا يكفي هذا لكي يحررك من الأحزان والمخاوف؟
ربما يقول قائل: «من أين آتي بلقمتي، فأنا لا أملك الكفاف؟» ... وعلام يعتمد الرقيق الآبقون؟ على أملاكهم أم على عبيدهم أم على أوانيهم الفضية؟ إنما على أنفسهم يعتمدون ولا يخذلهم الرزق، فما ظنك بالفيلسوف منا، أيرتحل في الأرض لكي يستنيم إلى غيره ويركن إليه ولا يتولى زمام أمره، فيكون أدنى وأجبن من العجماوات التي تكتفي بذاتها ولا تعدم الطعام ولا العيش الملائم؟ ...
لعلكم تقولون: «إبكتيتوس، لم نعد نطيق سجننا في هذا الجسد البائس، نطعمه ونسقيه وننظفه، ونذعن من أجله لرغبات هؤلاء وأولئك. أليست هذه الأشياء غير فارقة ولا تعني لنا شيئا، كما أن الموت ليس شرا؟ ألسنا أقرباء الله بمعنى ما ومنه أتينا؟ فأذن لنا أن ننعتق أخيرا من هذه القيود التي تكبلنا وتثقلنا. ها هنا لصوص وسراق ومحاكم وطغاة يرون أن لهم علينا سلطانا من جراء الجسد ولوازمه، ائذن لنا أن نريهم أن لا سلطان لهم على أي إنسان.» لعلكم تقولون هذا، أما من جهتي فأقول: «أيها الأصدقاء، تريثوا حتى يأذن الله بانعتاقكم من هذه الخدمة، ثم اذهبوا إليه. أما الآن فتحملوا المقام في هذا المكان الذي قدره لكم. فما أقصر مدته وما أيسر احتماله ... فأي أذى يمكن أن يلحقه طاغية أو لص أو محكمة بأناس لا يرون قيمة للجسد ولوازمه؟! انتظروا إذن، لا ترحلوا بدون مبرر ...»
كيف سلك سقراط في مثل هذه الأمور؟ سلك مثلما ينبغي للذي يدرك بأنه قريب الآلهة، فقال لقضاته: «إذا قلتم لي الآن إنكم ستبرئون ساحتي بشرط ألا أتحدث بعدها بالطريقة التي تحدثت بها الآن، وألا أفتن عقول الصغار ولا الكبار، فسوف أقول: إنكم تهزلون إذ ترون أن المرء الذي يأتمر بأمر قائده لا يبرح موقعه الذي حدده له ويفضل أن يموت ألف مرة على أن يتركه. أما إذا قيض الله له مهمة أو طريقة حياة فينبغي أن يعرض عنها من أجلكم.» هكذا يتحدث سقراط كرجل قريب حقا للآلهة ، غير أننا نتحدث عن أنفسنا كأننا معدات أو أمعاء أو سوءات، فنخاف ونرغب ونتملق الذين يقدرون على مساعدتنا في هذه الأمور ونخشاهم أيضا» (المحادثات، 1-9).
ويترتب على فكرة القربى بين الله والناس أن لا فرق بين سادة وعبيد، وأن عبيدك هم إخوتك بالطبيعة، وأنهم أبناء زيوس. ستقول لي: ولكني اشتريتهم وهم قد بيعوا لي. فأقول لك: ألا ترى إلى أي اتجاه تنظر؟ إنك تنظر إلى الأرض، إلى الحفرة، إلى تلك القوانين البائسة للفانين! لماذا تلتفت إلى الاعتبارات الأرضية المادية ولا تنظر إلى الاعتبارات الروحية والقوانين الإلهية؟ (المحادثات، 1-13). (13) بداية الفلسفة «بداية الفلسفة، على الأقل لدى من يدخل إليها من الطريق الصحيح ويأتيها من بابها، هي وعيه بضعفه وعجزه في أمور ضرورية؛ فنحن نأتي إلى العالم وليس لدينا فكرة عن المثلث القائم الزاوية أو عن علامة الخنجر المزدوج
8
أو عن نصف النغمة. وإنما نتعلم كلا من هذه الأشياء من خلال تلقين معين وفقا للفن.
ولذا فإن الذين لا يعرفون هذه الأشياء لا يظنون أنهم يعرفونها. ولكن من ذا الذي يأتي إلى العالم وليس لديه فكرة عن الخير والشر، والجميل والقبيح، واللائق وغير اللائق، والسعادة والشقاء، والقويم وغير القويم، ما يجب أن نفعله وما يجب ألا نفعله؟ من هنا فإننا جميعا نستخدم هذه المصطلحات، ونحاول أن نطبق تصوراتنا المسبقة على الحالات الخاصة، فنقول: هذا أجاد، وهذا لم يجد، هذا أصاب، وهذا لم يصب، هذا شقي، سعيد، عادل، ظالم ... إلخ. من منا لا يستخدم هذه المصطلحات؟ من منا يرجئ استخدامها حتى يتعلمها مثل يفعل بإزاء الخطوط والأصوات؟ ذلك أننا أتينا إلى العالم مجهزين بشيء من المعرفة في هذا الأمر، ومن هذه البداية نمضي فنضيف إليها غرورا ذاتيا.
لعلك تقول: «لماذا، ألست أعرف الجميل والقبيح، أليس لدي فكرة عنهما؟!» - بلى، لديك. - «ألست أطبق هذه الفكرة على الحالات الخاصة؟» - بلى. - «ألست أطبقها على النحو الصحيح؟» - ها هنا تكمن المسألة كلها. وها هنا يضاف الغرور.
Bilinmeyen sayfa