يطبق إبكتيتوس هذا المبدأ في تقييمه للتراجيديات اليونانية الكبرى والملاحم الهومرية. وعلى العكس من أولئك الذين يذهبون إلى أن الحالة البشرية تراجيدية في صميمها (نيتشه المبكر على سبيل المثال)، فإن إبكتيتوس يرى أن هذه القصص مجرد نتاج لتصديقات خاطئة من جانب شخصيات تعاني قصورا. عن الإلياذة مثلا يقول إبكتيتوس: «لا تعدو مكونات الإلياذة أن تكون انطباعات واستخدام تلك الانطباعات، انطباعا دفع باريس إلى أن يخطف هيلين، وانطباعا دفع هيلين إلى أن تتبعه. إذن لو كان ثمة انطباع لدى مينيلاوس جعله يستشعر أنه لخيره ومن مصلحته أن سلبت منه مثل تلك الزوجة فماذا كان سيحدث؟ كنا عدمنا الإلياذة، بل والأوديسا أيضا» (المحادثات، 1-28).
إن أفعال أبطال هوميروس وشخصيات أسخيليوس وسوفوكليس ليست أكثر من نواتج تصديقات خاطئة - اختيارات معرفية خاطئة. ومعاناة هذه الشخصيات هي نتيجة مباشرة لهذه الاختيارات. يعي إبكتيتوس جيدا أن أغلب البشر بعيدون كل البعد عن المعيار العقلاني للحكيم المثالي. ومن ثم فإنه مقدر لهم أن يصدقوا على انطباعات زائفة. ووصيته لنا هي أن نمارس أشد الاحتياط عندما نقوم بالتصديق على أي انطباعات وأن نتوقف عن الحكم إذا كان ثمة ما يدعو إلى أقل شك. والسبيل إلى تجنب المعاناة التي نشهدها في التراجيديات والملاحم الكبرى هو التوقف عن وضع اختيارات في صورة تصديقات عندما نواجه بانطباعات محملة بالقيمة ... بل نتأسى بقول سقراط: «أي عزيزي أقريطون، إذا كان هذا ما تريده الآلهة، فلتكن مشيئتها.» ولا نقول: «ما أتعسني من شيخ؛ تراني أنفقت العمر وبلغت المشيب من أجل هذا؟!»
3
لعلك تسأل: من الذي يقول مثل ذلك. وأنا لن أسمي لك أحدا من المغمورين أو النكرات. ألم يقل بريام مثل هذا؟ ألم يقل أوديب؟ بلى، جميع الملوك يقولون هذا! وماذا تكون المسرحيات التراجيدية غير ضرب من الشعر يعرض المآسي التي تحيق برجال أفرطوا في تقدير قيمة الأشياء الخارجية؟ فإذا كانت التراجيديا تعلمنا أن نضرب صفحا عن أي شيء خارجي غير خاضع لإرادتنا، فأنعم بهذا الجانب من التراجيديا الذي يعينني على أن أعيش سعيدا مطمئنا. فإذا كنت ترى في التراجيديا رأيا آخر فلك ما تريد» (المحادثات، 1-4). (7) الله
يستخدم إبكتيتوس كلمة «الله»، و«الآلهة»، و«زيوس»، على التعاوض. فقد جمع الرواقيون بين نظرة تعدد الآلهة على ما كان معهودا في آراء الجمهور اليوناني القديم، وبين مذهب الرواقية الخاص في وحدة الوجود، فقالوا: إن الآلهة هي في مجموع الطبيعة مظاهر مختلفة لإله واحد، وعلى هذا النحو ظل الرواقيون يستعملون لفظة «الآلهة» بالجمع، ولم يحذفوه من لغتهم ولا من مذهبهم. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «أما بخصوص التقوى تجاه الآلهة، فلتعلم أن هذا هو رأس الأمر: أن تتصورهم على النحو الصحيح، بوصفهم موجودين ويديرون الأشياء على أقوم نحو وأعدله. وأن تعقد عزمك على هذا: أن تطيعهم وتمتثل لإرادتهم في كل شيء يحدث، وتتبعهم طائعا في كل ما يجري بوصفه من تصريف الحكمة العليا. فبذلك لن تلوم الآلهة أبدا ولن تتهمها بالتقصير» (المختصر، 30).
على أن إبكتيتوس يتحدث عن «الله» أكثر مما يتحدث عن «الآلهة». وفي «المختصر» يستخدم إبكتيتوس تشبيه «القبطان»، الذي يدعونا للعودة إلى ظهر السفينة لاستئناف الرحلة ليمثل لنا حتمية الرحيل عن هذه الحياة إلى الحياة الأخرى: «مثلما يحدث حين ترسو سفينتك في رحلتها بعض حين بأحد الموانئ. إذا ذهبت لكي تشرب فقد يطيب لك في الطريق أن تلتقط قوقعة من هنا أو كمأة من هناك. غير أن فكرك وانتباهك ينبغي أن يكونا ملتفتين دوما إلى السفينة، مرتقبا نداء القبطان للإبحار. هنالك يتعين عليك أن تلقي بكل هذه الأشياء، وإلا فسوف تربط ويلقى بك في السفينة كالشاة. كذلك الأمر في الحياة: فإذا وهبت، بدلا من القوقعة أو الكمأة بزوجة أو ولد فلا بأس، ولكن إذا ما نادى القبطان فإن عليك أن تهرع إلى السفينة تاركا إياهما غير مكترث بأي منهما» (المختصر ، 7).
وفي غير موضع من «المحادثات» و«المختصر» يصوره في صورة «المعطي» الذي يجب أن نرد إليه جميع الأشياء التي تمتعنا بها على سبيل القرض: أقاربنا وأصدقاءنا حين يحجبهم الموت، وممتلكاتنا حين نفقدها في الكوارث: «لعلك تقول إن من أخذها مني لشرير، فهل يهمك بوساطة من استرد منك الواهب ما أعطى؟! فما دام قد أعطاكها فتعهدها كشيء يخص غيرك، تماما مثلما يتعامل عابرو السبيل مع النزل» (المختصر، 11). «هل تسخط وتتأبى على مقادير زيوس التي قضى بها وحددها لك مع آلهة القدر التي غزلت في حضوره خيط مصيرك لحظة ميلادك؟» (المحادثات، 1-12). كلا، بل يجمل بك أن تصلي لله لكي يقودك إلى المصير الذي رسمه لك، وتقول مع كليانتس: «قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر، إلى حيث رسمتما لي الطريق، فأنا متبعكما دون تردد، وحتى لو أخذني الارتياب فتثاقلت وتملصت، فلن أكون مع ذلك أقل متابعة لكما.»
يأخذ إبكتيتوس ب «حجة التصميم الذكي» لإثبات وجود الله؛ فالنظام والتناغم البديع الماثل في الكون والمدرك للعيان، مرده إلى عناية إلهية ترأم العالم وتسيره بذكاء وتبصر. «الله اصطفى الإنسان ليكون مشاهدا لله وأعماله. ليس مشاهدا فقط، بل ومفسرا أيضا ... ما أروع أن ترحل إلى الأولمب لتشاهد أعمال فيدياس، والأروع أن تشاهد أعمال الله وإبداعه حيثما كنت» (المحادثات، 1-6).
ويأخذ الرواقيون بمذهب خاص في «وحدة الوجود»، مفاده أن كل ما بالوجود هو مادة. ثمة مادة منفعلة غفل من كل صفة، وثمة مبدأ فاعل وإلهي وهو العقل الكامن في المادة، وهو جسم لطيف يداخل المادة ويتغلغل في العالم كالعسل في الشمع ويشيع فيه كالروح في البدن ويحدث الأشياء بإعطائها صورها.
ويذهب الرواقيون إلى أن عقل كل إنسان منا هو قبس من الله أو «كسرة من زيوس»، وأن العقلانية التي يملكها كل منا هي في الحقيقة جزء من عقلانية الله، وهي العقلانية التي يعرفها إبكتيتوس في المقام الأول بأنها القدرة على الاستخدام الصحيح للانطباعات: «إبكتيتوس، لو كان بالإمكان لكنت جعلت جسدك الضئيل حرا لا يعوقه عائق، وكذلك ثروتك الضئيلة. ولكن أفق، فهذا الجسد ليس خاصتك: إنه مجرد صلصال سويته بعناية، ولما تعذر أن أهبك ذلك فقد منحتك شيئا من نفسي: ملكة الاختيار بين البدائل، الطلب والإعراض، الرغبة والنفور، وباختصار: استخدام مظاهر الأشياء. فإذا استطعت أن تحفظ هذه العطية وتجعل ملكك محصورا فيها مقصورا عليها، فلن تعرف القيد أبدا ولا العوائق، ولن تئن ولن تشكو، ولن تتملق أحدا، كيف تستهين إذن بكل هذه المزايا؟!» (المحادثات، 1-1). «ما الذي وهبني الله كشيء يخصني ويخضع لسلطاني، وما الذي أبقاه لنفسه؟ وهبني كل الأشياء التي تقع داخل نطاق إرادتي (قدرتي)، وأخضع هذه الأشياء لسيطرتي دون موانع أو عوائق. أما جسدي المجبول من طين، فكيف يمكن أن يجعله خالصا من العوائق؟! لم يكن بد من أن يجعل جسدي عرضة لثوران «الكل»، وكذلك ممتلكاتي وأثاثي ومنزلي وأبنائي وزوجتي، لماذا إذن أتمرد على الله؟ لماذا أريد ما هو خارج عن إرادتي؟ لماذا أريد أن أمتلك ما ليس لي على الإطلاق؟ - ولكن ما هو الموقف الذي ينبغي علي أن أتخذه تجاه هذه الأشياء التي منحت لي؟ - أن أحفظها لدي وفقا للطريقة التي أسديت بها إلي والأمد المقدر لها في حيازتي، ولكن من أعطى يسترد. وإذا استرد الواهب ما أعطى فلماذا أمانع؟ إن من الحماقة أن أمانع من هو أقوى مني. والأهم من ذلك أنه من الغبن أن أفعل ذلك؛ فمن أين حصلت على هذه الأشياء عندما جئت إلى الوجود؟ لقد منحني إياها والدي، ولكن من الذي منحه إياها؟ ومن الذي خلق الشمس، والثمار، والفصول؟ ومن الذي عقد الصلات بين البشر؟
Bilinmeyen sayfa