Duroos Sheikh Omar Al-Ashqar
دروس الشيخ عمر الأشقر
Türler
مع آيات في كتاب الله
إن طريق العزة لا يكون في غير منهج الله، فمن تأمل التاريخ، ودقق النظر في تاريخ الرعيل الأول، وجد الضالة المفقودة التي ينشدها المسلمون اليوم، وهي العزة والنصر والتمكين، وهي لا تكون إلا إذا حققنا منهج الله في حياتنا كما حققه ذلك الجيل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
1 / 1
استحقاق الله للعبادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الذي يقرأ كتاب الله ﵎ ببصيرة نافذة، يدرسه، ويتأمله، ويفقه ما فيه؛ فإنه يضع نفسه في الإطار الصحيح الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيعرف طريقه في الحياة، ويعرف المهمة التي ينبغي أن يتحملها، وذلك أن الإنسان لا يستقر له بال ما لم يحمل مهمة في هذه الحياة، ويشغل نفسه بقضية.
وفي كثير من الأحيان يشغل الإنسان نفسه بقضايا تعود عليه بالضرر والوبال، فجاء القرآن الكريم ليضعنا في المسار الصحيح، وفي الطريق الحق، وفي هذا المقام سوف نستعرض ونقف مع تلك الآيات التي افتتح الله بها سورة آل عمران؛ لنتبين الإطار السليم الذي يضع القرآن فيه الإنسان.
يقرر الله ﵎ أنه صاحب الأمر والنهي في هذا الكون، والمتفرد في ذلك، وهو إله الناس، ورب الناس، ومالك الناس، وهو السيد المتفرد قال تعالى: ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران:٢]، لا يوجد في هذا الوجود معبود يستحق العبادة إلا الله، ولا يتصف بصفات الجلال والكمال إلا الله، فهو الذي أنشأ الكون، وخلق الوجود، ويدبر الأمر ويصرفه، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، يقول الرسول ﷺ: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)، فهو حي كامل الحياة، لا يموت، قيوم قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره، ويقيم غيره، فلا يحتاج إلى أحد، لا من ملائكته، ولا من البشر، ولا من الجن، ولا من جميع المخلوقات، بل كل الوجود بحاجة إليه، الملائكة بحاجة إليه، والعرش بحاجة إليه، والسماوات بحاجة إليه، والبشر بحاجة إليه.
ويقول الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران:١٨]، فقوله: «وَالْمَلائِكَةُ» أي: والملائكة كلهم يشهدون أنه السيد المطاع، وأنه المعبود الحق، وأنه المالك والخالق الموجد الذي يستحق أن يعبد دون غيره.
وقوله: «وَأُوْلُوا الْعِلْمِ» أي: أصحاب العلم الذين فتح الله بصائرهم وهداهم إلى طريقه الحق، يشهدون بذلك، ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:١٨].
1 / 2
أهمية الاستقامة على منهج الله ودينه
قضيتنا: كيف ننتسب إلى هذا الإله المتفرد الواحد الأحد؟ وكيف نقيم حياتنا وفق منهجه؟ وكيف نحمل رسالته إلى العالمين؟ وكيف ندعو البشرية لأن يحكموا الحياة الإنسانية بمنهج الله ﵎؟ إن القضية التي جاءت بها الرسل من عند الله هي: أن يكون الناس عبيدًا لهذا الإله الواحد الأحد، وأن يقيموا وجوههم لله ﵎، وأن يحكموا حياتهم وحياة مجتمعاتهم بحكم الله، وبمنهج الله، قال ﵎: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران:٣ - ٤].
منهج الله تتضمنه الكتب السماوية التي أنزلها الله ﵎ هداية للبشرية، يلتزم بها الفرد في نفسه فيمثل الهداية على وجه الأرض، ويلتزم بها المجتمع فيحكم نفسه بالكتاب المنزل، فيكون المجتمع السوي الذي يريده الله ﵎ للبشرية، كما يقول الله أيضًا في أوائل هذه السورة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٩]، فالدين والمنهج الحق الذي ينبغي أن يحكمك ويحكم المجتمع هو الإسلام، والإسلام علم على هذا المنهج الذي وضعه الله ﵎ ليصلح عقيدتك، وفكرك، وسلوكك، وأسرتك، والمجتمع الإنساني.
وهذا المنهج اسمه الإسلام؛ لأنك تستسلم فيه لله، وتنفذ منهج الله، ويستسلم فيه المجتمع لله، قال الله ﵎: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ»، لا الشيوعية ولا القومية، ولا البوذية، ولا عبادة الأصنام، ولا عبادة الفئران، ولا أي نظرية في الأرض.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران:١٩]، هذه الانحرافات التي عند اليهودية، وعند النصرانية، وعند البشرية، حدثت والرسالات تتلى وتتوالى على البشر، فيختارون منهجًا غير منهج الله ﵎، وأنت تحمل القضية وهي: أنك تنتسب إلى الله ﵎، وبمجرد انتسابك إلى الله ﷿، بأن قبلت رسالة الله ﷿، وحملت الأمانة، وأصبحت ذا مهمة محددة تحققها في واقع الحياة؛ فإنك لا بد أن تواجه الذين يرفضون منهج الله ﵎، ودين الله، وكتب الله ﷿.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:٤]، هناك فريق لا يستجيب، لا يؤمن بما أنزل الله ﵎؛ فهؤلاء يصبحون أعداء لخالق الوجود الإله المعبود، وهم أعداء أيضًا للمؤمنين، والله ﵎ يعادي هؤلاء، ويتهددهم ويتوعدهم بالعذاب الدنيوي والعذاب الأخروي في الوقت الذي يؤمنك فيه، ويسكب في قلبك عظمته، وأنك تنتسب إلى قوة عليا تستطيع أن تواجه بها العالم، وعندما تأكد هذا المعنى في نفوس الصحابة، والقرآن يدفق عليهم بقوة أصبحوا قوة هائلة، بضع مئات كانوا يغلبون ألوفًا، وتهتز الدنيا من حولهم، ثم يرتد العرب الذين آمنوا ودخلوا في دين الله أفواجًا، يرتدون ولا يثبت منهم إلا فئة قليلة، ولكن هذه الفئة التي فقهت دورها وارتباطها بربها، وعلمت مدى قدرة الله وقوته، استطاعت أن تعيد المياه إلى مجاريها، وأن تحول التيار الذي أراد أن يجتاح الإسلام إلى قوة تزيل الكفر، وتدمر عروش الظالمين، فقهوا قوله ﵎: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران:١٠ - ١١] أي: قل للذين كفروا الذين لا يؤمنون بي، ولا يوحدونني، ولا يؤمنون برسالتي، ولا يحكمون شرعي وديني، ولا ينهجون منهجي: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران:١٢].
والمثال قريب: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران:١٣]، في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان -الكفر والإيمان- في معركة بدر، والمؤمنون قلة، والكفار كثرة، أنزل الله نصره على الذين آمنوا، وأمدهم بألوف من الملائكة تنزل فوجًا بعد فوج، فيثبت بهم قلوب الذين آمنوا، ونصرهم على أعدائهم.
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ» هؤلاء أعداء لله، وهؤلاء قد يصولون ويجولون، وقد يقتلون المؤمنين، بل وقد يقتلون الأنبياء، وتلك معركة ينال الكفار منا فيسقط من يسقط شهيدًا، وننال منهم فننال العزة والنصر، ولكن أين مصيرهم؟ غضب الله ﵎: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران:٢١]، ليس المؤمنون فقط هم الذين يقتلون، بل الأنبياء أيضًا قد يقتلون، ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ﴾ [آل عمران:٢١] أي: يأمرون بالعدل، وتنفيذ حكم الله وشرع الله.
فلا تظنوا الذين يسقطون الآن لأنهم يطالبون بحكم الله أنهم ظالمون، كلا، رب العزة يقول في هؤلاء الذين يقومون بهذه الأعمال التي تسميها الدول خيانة عظمى، وهي كذلك في ميزان الله، ولكنهم يخونون الله ﵎: ﴿الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران:٢٢].
ثم قال بعد ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران:٢٣]، أي: بقية اليهود والنصارى الذين عندهم بقية من كتاب ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران:٢٣]، وإلى منهج الله ودين الله فيقفون في صف الأعداء، وكان الأحرى بهم أن يقفوا في صف خاتم الرسل الذي جاء امتدادًا لموسى وعيسى ﵉.
﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران:٢٣]، حجتهم إنما هي ترهات، وأباطيل، وكذب ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران:٢٦ - ٢٥]، بمقدار ما يعظم ربنا في صدورنا، وبمقدار ما نؤمن بقدرته وعظمته وقيوميته وحياته، وبمقدار ما نتوكل عليه، ونعتمد عليه، ونعلم أنه يفعل ما يشاء، ويقدر على ما يشاء، بمقدار ما نستطيع من تحقيق هذه الأمانة، وتفجيرها في واقع الحياة، وجعلها هي السائدة في الوجود.
1 / 3
ملك الله يؤتيه من يشاء
والله ﵎ يبين لنا شيئًا من قدرته، وشيئًا من عظمته؛ لنعيش في الأرض وقلوبنا معلقة بخالق الوجود، ورب الأرض والسماء، لا بأمريكا، ولا بريطانيا، ولا فرنسا، ولا مجلس الأمن، ولا أي قوة في الأرض ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:٢٦ - ٢٧]، ذلك ربنا، وإلهنا، وسيدنا، وواضع منهجنا وطريقنا، فمن له حاكم كحاكمنا؟ ومن له سيد كسيدنا؟ إذا لجأ الناس إلى قوى الأرض، ولجأ المؤمنون إلى ربهم، فإنه يزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، ويخسف بهم من السماء، ويزيلهم من الأرض؛ لأنه قادر على ذلك كله، وقد فعل بأسلافنا من قبل مثل هذا، فأعزهم ونصرهم، ودانت لهم الدول، وكان ذلك واقعًا حيًا مشهودًا.
«قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ»، لا يظن الناس أنهم يحصلون الملك بمشيئتهم، فالله ﵎ هو الذي يؤتي الملك، وهو الذي ينزع الملك؛ أمة مقهورة يصبح جنابها عاليًا، كانت لا ذكر لها في التاريخ، ولا يؤبه لها، ثم آتاها الملك، ثم ينزع الله الملك بعد أن تعلو وترتفع ويصبح لها سلطان كبير، ويزيل الله ﵎ ملكها: «وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ».
وكم حكى لنا التاريخ عن أقوام عزوا وبزوا، ثم ذلوا وهانوا، والله ﵎ هو المعز وهو المذل: «َتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هذا فعله في البشر، وهو الذي يفعل في الكون ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:٢٧].
فإذا التجأ الناس إلى الله، وأقاموا حياتهم على منهجه، فالله ﵎ يؤتيهم الملك ويعزهم، ويذل أعداءهم، وينزع منهم الملك، فالله ﵎ هو الحاكم في كونه، والحاكم في خلقه ﵎، وعندما نفقه كتاب الله يضعنا كتاب الله في الإطار الصحيح، ويقيمنا على المسار الصحيح، فيبني نفوسنا وعقولنا، ويهذب طباعنا، ويصحح سلوكنا، ويصبح الإسلام منهجًا لحياتنا؛ فنعرف طعم الحياة في ظلال الإسلام على منهج الله ﵎.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1 / 4
أسباب الانحراف عن الاستقامة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.
إن من أعظم ما يحرف مسار الفرد بل مسار البشرية عن الاستقامة على منهج الله ﵎ هو ما ركب في الإنسان وفي البشر من شهوات، ينحرف الإنسان إذا ما استولت الشهوات على نفسه، أو عندما يقوم شياطين الإنس والجن ليوقعوا البشرية في حمأة الرذيلة والفسق والفساد، وإن أعظم سلاح يواجه به أعداء الإسلام المسلمين أن يحطموا عقائدهم وأخلاقهم بأن يجعلوهم يرتعون في الشهوات.
في حروب صلاح الدين عندما رأى الصليبيون الجدار الصلب الذي يملكه صلاح الدين من القوة التي بناها الإسلام، وغذاها الإيمان أرادوا أن يحطموا ذلك، فجاءوا بمئات من فتياتهم ووضعوهن في معسكرات قرب معسكرات المسلمين؛ ليحطموا الأخلاق، ويحطموا الرجال؛ فتهتز العقيدة، ويهتز الإيمان، فتتبدل الغاية، وعند ذلك يسهل عليهم أن يقتنصوا المسلمين، ولكن صلاح الدين علم بالمؤامرة واحتاط لها، وهي الفعلة نفسها التي يفعلها أعداؤنا بنا في هذه الأيام لتحطيم الشخصية الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، والخلق الإسلامي.
زينوا للمرأة أن تخرج من بيتها متكشفة ومتهتكة، ومتبرجة، وأرسلوا فتياتهم إلينا على وصف أبلغ من هذا، فذهب شبابنا إلى ديارهم التي يسودها جو من الإباحية النتن القذر، كل ذلك ليغرقونا في حمأة الرذيلة، والإنسان مزين في نفسه حب الشهوات، والإسلام يريد من أتباعه أن يرتفعوا فوق هذا المستوى، وأن يستقيموا على منهج الله ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران:١٤]، هذا هو متاع الدنيا: أموال، زروع، قصور، مراكب فارهة، هذا متاع الحياة الدنيا.
ثم يعرض الله ﵎ صورة أخرى لا للمتاع، ولكن لنعيم الآخرة، وهو لا يسمى متاعًا، فإن ما في الدنيا من زينة يسمى متاعًا؛ لأنه يتمتع به ثم يزول ولا يبقى، أما نعيم الآخرة فلا يتوقف ولا ينتهي، ولا يتلاشى قال تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:١٥]، هذا هو نعيم الآخرة في جانب متاع الدنيا العارض الزائل الذي لا يدوم، وهو شيء تافه يسير بالنسبة لنعيم الآخرة، وليس معنى ذلك أن الإسلام يقول لك: انزع الشهوات من قلبك وعش راهبًا.
فالإسلام جاء بمحاربة الرهبانية، لكنه وضع ضوابط للشهوات، أحل الزواج وحرم الزنا، وحرم اللواط، ووضع حدودًا للزواج، فيحل أن يتزوج الرجل من امرأة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع فلا يزيد، ولا يحل له أن يتزوج من كافرة، فقد وضع الإسلام منهجًا فلا تتعد منهج الله، ولا تحرم ما أحل الله.
وكذا المال شرع لك الطرق التي تمكنك من أن تستفيده منها، وحرم عليك أن تأخذ المال من طريق الربا، وأن تأخذه من طريق الرشوة، وأكل مال اليتيم، وأكل مال الناس بالباطل، وحرم عليك الإسراف، وأمرك بالاعتدال؛ فالله لم يحرم علينا هذه الزينة ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف:٣٢]، لكن الإغراق فيها، وأخذها من حيث لا تحل، ونسيان أنك عبد لله ﵎ هذا هو المرفوض في دين الله وفي منهج الله.
فإذا ما استقام المسلمون عرفوا حقيقة الحياة، وكيف يأخذونها، وكيف يكونون في هذه الحياة، وكيف يسيرون بمنهج الله ﵎؛ عند ذلك يستقيم أمرهم، ولا يجد أعداؤهم طريقًا إلى أنفسهم، فيكونون أولياء لله، وأولياء للإسلام، وأولياء للمؤمنين، يقيمون أنفسهم بهذا المنهج، ويستقيمون على هذا المنهج؛ فيعزهم الله ﵎ بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، وتعود المسيرة الإسلامية التي اضطربت في أيامنا الأخيرة اضطرابًا شديدًا في مواجهة أعداء الإسلام؛ فذل المسلمون وهانوا، فليعودوا مرة أخرى إلى الاستقامة على الطريق، ونسأل الله ﵎ أن يكون ذلك قريبًا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.
1 / 5
عالم الجن
إن عالم الجن من العوالم الغيبية التي يحب على المؤمن الإيمان بوجودها، وقد جاء القرآن والسنة بذكر الجن، وأن منهم الصالح والطالح والمؤمن والكافر، وهم يأكلون ويشربون، غير أن لهم صفات تخصهم عن غيرهم، وهم في الغالب أعداء لبني البشر وعداوتهم مستمرة إلى يوم القيامة.
2 / 1
تعريف عالم الجن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فحديثنا اليوم عن عالم الجن، وعلماء العقائد يلحقون الحديث عن الجن ببحث الملائكة، لأن هناك نوعًا من الشبه بين البحثين، وحتى يتميز الملائكة وهم عالم غيبي عن عالم الجن.
إن الحديث عن الجن أمر مقرر لا بد منه؛ لأن الله ﷾ أخبرنا بذلك والرسول ﷺ أخبرنا بذلك، فهو جزء من الغيب الحقيقي الذي يجب أن نؤمن به، فنحن مطالبون بأن نؤمن بالغيب لكن ليس غيب الخرافة والدجل، إنما الغيب الذي أخبرنا به الله ﷾: كالجنة، والنار، واليوم الآخر، والملائكة، ومن جملة ذلك عالم الجن.
ومما يوجب معرفة هذا العالم أن خفاءه وعدم معرفة الناس به معرفة حقيقية يوقع الناس في كثير من اللبس والخرافات والانحرافات التصورية والعقائدية كما سيتبين معنا في أثناء هذه الدراسة، وهذه الدراسة عن الجن تعتبر دراسة موسعة أرجو أن يكون من ورائها الخير إن شاء الله.
والجن عالم من العوالم التي خلقها الله ﷾، وهي مدركة عاقلة كالبشر، والعوالم العاقلة التي أخبرنا الله ﷾ بها ثلاث: البشر، والملائكة، والجن، وقد سموا جنًا لاجتنانهم؛ وهو الاستتار، فنحن لا نراهم كما قال الله ﷾: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف:٢٧]، وقد علمنا أن البشر خلقوا من طين، والملائكة من نور، أما الجن فقد خلقوا من نار.
والملائكة لم يخبرنا الله ﷾ في القرآن أنهم خلقوا من نور إنما أخبرنا النبي في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم، أما الجن فقد جاءت نصوص كثيرة تبين المادة التي خلقوا منها، فقد قال جل وعلا: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر:٢٧]، وقال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن:١٥]، ومارج النار هو طرف اللهب، وبعض العلماء يقولون: مارج من نار، أي: من أحسن اللهب وأصفاه، ولكن الحقيقة أن (مارج من نار) هو اللهب المختلط بسواد النار كما فسره النووي ﵀.
2 / 2
أسماء الجن وأصنافهم
يطلق الناس -منذ القدم- على الجن أسماء مختلفة وهي في الحقيقة واحدة، فيقولون: الجن، وقد يكون هذا الجني من الذين يسكنون مع الناس في بيوتهم، فيسمونهم عمارًا، فإذا كان يتعرض للأولاد والصبيان فإنهم يسموه أرواحًا، فإذا كان خبيثًا سيئًا يسمونه شيطانًا، فإذا كان هذا الشيطان عاتيًا متمردًا فإنهم يسمونه عفريتًا، وكلها أسماء متقاربة.
هذه مراتب الجن من حيث أسمائهم، أما من حيث خلقهم فقد صنفهم الرسول ﷺ إلى ثلاثة أصناف، يقول الرسول ﷺ في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون) أي أنهم قبائل وعشائر.
2 / 3
مراتب الجن في الصلاح والفساد
للجن مراتب في الصلاح وفي الفساد، فمنهم المستقيمون الصالحون الطيبون، ومنهم الكفرة المجرمون، ومنهم العصاة المذنبون، كما أخبرنا الله ﷾ حكاية عن الجن الذين استمعوا للرسول ﷺ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن:١١] أي: جماعات ومذاهب ونحل مختلفة وفي آية أخرى يقولون: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن:١٤ - ١٥] فمنهم المسلمون ومنهم الكفار.
2 / 4
حكم من أنكر الجن
لا يجوز بحال من الأحوال أن ينكر مسلم عاقل الجن ثم يدعي الإسلام؛ لأنه ليس هناك مجال لإنكارهم بحال من الأحوال، والمشركون وكثير من الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالإسلام بل حتى من نسميهم فلاسفة الإسلام يقولون: إن الجن المراد بهم: أرواح، وبعض العقلانيين من الفلاسفة المسلمين وبعضهم من المحدثين يقولون: المراد بالجن نوازع الشر في النفس الإنسانية وقواه، كما أنهم يقولون: إن المراد بالملائكة النوازع الخيرة الموجودة في النفس الإنسانية، ومن الغريب أن بعض الناس أيضًا يقول: الجن هم ما كشف عنه العلم الحديث من الميكروبات والجراثيم، فالجن الذين كلفهم الله بعبادته وأمرهم ونهاهم المراد بهم الميكروبات والجراثيم الموجودة في جسم الإنسان أو في بعض المخلوقات على زعمهم ومن المحدثين الدكتور محمد عبده في تفسيره لسورة النور يرى أن المراد بالجن الملائكة، فليس هناك عالم اسمه عالم الجن مخالف لعالم الملائكة، فالجن هم الملائكة على حد زعمه.
ومنهم من يلحق البشر الذين يتسترون بأفكارهم ومعتقداتهم كالمنافقين بعالم الجن، وهذا خطأ، ومن تأمل في آيات القرآن وحديث الرسول ﷺ علم أن الجن خلق آخر غير الملائكة وغير البشر.
2 / 5
الأدلة على وجود الجن
الأدلة على وجود عالم الجن بهذه الصفات التي تحدثنا عنها سابقًا كثيرة منها: أن هذا أمر قد أجمعت عليه الأمم، يقول ابن تيمية: ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا بأن الله أرسل محمدًا ﷺ إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن يعني: أن غالبية الكفار يثبتون الجن، وقد يثبتونهم باسم الجن أو باسم آخر، وفي عصرنا يكاد الناس في العالم الكافر المادي يؤمنون بوجود أرواح ويسمونهم بالأطباق الطائرة، ولهم تسميات مختلفة، لكن الجميع يؤمن بوجود عالم آخر غير منظور من غير البشر موجود.
وأهل الكتاب اليهود والنصارى يقرون بهم كإقرار المسلمين، وقد يوجد طوائف من اليهود والنصارى ينكرونهم كما وجد طوائف من المسلمين ينكرونهم، لكن الغالبية العظمى يقرون بهم ولا ينكرونهم؛ لأن الأنبياء والرسل جميعًا أجمعوا على هذا، وأخبروا بوجود عالم آخر غير عالم الإنس وغير عالم الملائكة يسمى عالم الجن، فالذين عندهم بقية من دين الأنبياء والرسل بل وغيرهم ممن تأثروا بهم وبما عندهم يقرون بوجود عالم الجن.
وبالنسبة للمسلمين فقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تثبت وجود الجن منها: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن:١]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن:٦]، وستأتي جملة من هذه النصوص في أثناء البحث.
ومنها: أن كثيرًا من الناس استطاع أن يلتقي بالجن بطريقة ما، فهم ليسوا مثل الملائكة قلما يراهم الناس، ففي كل عصر من العصور هناك عشرات من الناس رأوا الجن، ومئات من الناس الثقات يروي لك أنه قد حصل لقاء بينه وبين الجن بصورة ما، كأن يتشكلوا أو يكون بينه وبينهم حديثًا، وإما أن تحدث أشياء قد نراها غريبة وعجيبة تدل على أن هناك عالمًا آخر غير منظور.
ومما يرد على الذين قالوا: أن عالم الجن هم عالم الملائكة اختلاف الأصل، فالملائكة خلقوا من نور، والجن خلقوا من نار بنص القرآن وبنص حديث الرسول ﷺ.
2 / 6
الغاية من خلق الجن
الجان خلقوا قبل الإنسان قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر:٢٦ - ٢٧]، وبعض العلماء يقولون: خلقوا قبل الإنسان بألفي عام، وهذا لا دليل يدل عليه.
وقد خلقوا بنص القرآن لعبادة الله ﷾: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] فهم مخلوقون لطاعة الله يأمرهم وينهاهم ويكلفهم بأمور اعتقادية وعملية.
والدليل على أنهم مكلفون بهذه المهمة: أن الله ﷾ سيسألهم ويحاسبهم يوم القيامة، ويقول لهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأنعام:١٣٠].
2 / 7
مصير الجن في الآخرة
الجن يوم القيامة معذبون ومنعمون يدخلون الجنة ويدخلون النار، فمؤمنهم يدخل الجنة وكافرهم يدخل النار؛ بدليل قول الله ﷾: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ﴾ [الأعراف:٣٨]، وهذا نص صريح بأنهم مكلفون؛ لأنهم معذبون، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأعراف:١٧٩]، وقال: ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود:١١٩].
وكفار الجن يدخلون جهنم بإجماع علماء السنة، ولم يخالف أحد في ذلك، وخالف بعض العلماء بالنسبة لدخولهم الجنة، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف؛ لأن الله ﷾ قال: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:٤٦ - ٤٧] والخطاب للجن والإنس.
يقول ابن مفلح وهو من علماء الحنابلة: الجن مكلفون في الجملة إجماعًا -بدون خلاف-، ويدخل كافرهم النار إجماعًا، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقًا لـ مالك والشافعي، فالحنابلة والشافعي والإمام مالك يقولون: مؤمنو الجن يدخلون الجنة، وبعض العلماء يقولون: إن المؤمن من الجن يصير ترابًا كالبهيمة بعد الحساب، وثواب مؤمنهم هو النجاة من النار، وهذا قول أبي حنيفة والليث بن سعد وغيرهما.
قال: والظاهر أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم خلافًا لمن قال: لا يأكلون ولا يشربون، لأن بعضهم قال: يدخلون الجنة لكن لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول مجاهد، وبعضهم قال: إنهم في ربض الجنة أي حول الجنة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، والصحيح أن الجن والإنس منهم المعذبون ومنهم المنعمون، فالمعذبون يدخلون جهنم، والمنعمون يدخلون الجنة.
لكن هل التكاليف الموكلة إلى الجن ونفس التكاليف الموكلة للإنس؟ لا، كلهم مكلف، لكن ليس بنفس الأشياء، وليس بنفس الصفات؛ لأن لهم خلقة تختلف عن خلقتنا، فتكاليفهم بحسب خلقتهم.
يقول ابن تيمية: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم يشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.
إذًا: الجن يشاركون الإنس في التكاليف، لكن ليس بنفس التكاليف وبنفس الصفة التي كلفنا بها، وبعض الزنادقة الذين لا يخافون الله يوردون شبهة فيقولون: كيف يعذب الجن في النار وهم من النار؟ يلبسون بهذا على بعض الناس الذين لا علم عندهم.
و
الجواب
أن الجن خلقوا من النار ولكنهم فيما بعد أصبحوا خلقًا آخر ليس هو النار، وإنما مخالف للنار تمامًا، كالبشر فهم مخلوقون من طين ثم فيما بعد أصبحوا بشرًا، فالإنسان ليس هو الطين، فأصله من الطين لكنه مغاير الآن للطين بحيث لو أخذنا لبنة من الطين وضربنا بها رأس إنسان فإنها قد تقتله، ولو حفرنا حفرة لإنسان ودفناه في التراب فإنه يموت، ولا يقول أحد: إن التراب لا يضره؛ لأنه مخلوق من تراب، كذلك الجن أصلهم من النار ولكن النار تؤذيهم كما أن البشر يؤذيهم التراب.
2 / 8
الرد على زعم الكفار أن بين الله والجن نسبًا
ويزعم الكفار أن هناك نسب بين الجن وبين رب العزة ﷾ وهذا من الخرافات العقائدية التي نشأت بسبب عدم معرفة الناس معرفة صحيحة بالجن، فمشركو العرب كانوا يزعمون أن الله ﷾ تزوج من سروات الجن يعني: من الأسر ذات النسب العريق في الجن، وكان ثمرة هذا الزواج الملائكة، قال الله ﷾ في سورة الصافات: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات:١٥٨] أي: بين الله وبين الجن نسب ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات:١٥٨ - ١٦٠] يقول مجاهد وهو من أئمة تفسير الأثر: قال المشركون: الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقولون، فقال أبو بكر ﵁: فمن أمهاتهم؟ أي: الملائكة؟ قالوا: بنات سروات الجن.
يعني: أمهات الملائكة بنات سروات الجن.
2 / 9
كيفية تبليغ الله للجن تشريعه ووحيه
كيف يبلغ الله الجن وحيه وتشريعه؟ وهل لهم رسل منهم أم أن رسلهم من البشر؟ علماء السنة لهم قولان في هذه المسألة، وبالإجماع أن الجن لهم رسل بدليل قول الله ﷾: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام:١٣٠]، وهذه الآية لا يستطيع أحد الطرفين أن يقول: هي نص له أو هي حجة قاطعة معه؛ لأنها محتملة، فقوله: (ورسل منكم) قيل: أي: رسل من الجن ورسل من الإنس، والطرف الآخر يقول: إذا كان للجن رسل من الإنس فقد سبق أن لهم رسلًا منهم، فالآية محتملة وليست محكمة في هذه القضية.
وابن الجوزي وابن حزم يقولان: ليس للجن رسل من البشر إلا رسول واحد هو محمد ﷺ، وقد أجمع علماء السنة أن محمدًا ﷺ رسول إلى الجن والإنس، أما أن للجن رسلًا من الإنس فهذا هو قول غالبية العلماء من الصحابة ومن بعدهم.
ومما يرجح أن رسل الجن من الإنس قول الله ﷾ حكاية عن الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف:٣٠] فهم يحكون عما سمعوا من القرآن وقد كانوا يعرفون كتاب موسى، فهذا يستأنس به أن رسلهم من الإنس.
وهذه المسألة لا يبنى عليها قضايا خطيرة في الدين؛ ولذلك لا ينبغي العناية ببحثها كثيرًا.
2 / 10
إجماع المسلمين على رسالة محمد للجن والإنس
النبي ﷺ بالإجماع أنه مرسل إلى الجن ومرسل إلى الإنس، يقول ابن تيمية: وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف أهل السنة والجماعة.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:٨٨]، فهم يتحدون بالقرآن كما أن الإنس يتحدون بالقرآن، وكذلك قوله: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن:١ - ٢]، وقوله تعالى في سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف:٢٩ - ٣٢]، فهؤلاء الجن سمعوا القرآن وآمنوا به ثم ذهبوا يبشرون قومهم وينذرونهم، وهذا يدل على أنهم ملزمون بذلك.
2 / 11
لقاء النبي بالجن
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: (انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ -وهذا قبل الهجرة- وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، -أي: زادت حراسة السماء وكثر رمي الشياطين بالشهب- وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ وهو بنخلة، -أي: أنه كان من نصيب مجموعة منهم أن تأتي إلى المكان الذي كان الرسول ﷺ فيه- يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فذلك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن:١ - ٢] وأنزل الله على نبيه: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن:١]).
فهذه بداية معرفة الجن بالرسول ﷺ وخبره، ثم بعد أن تسامع الجن وعرفوا بأن هناك نبيًا قد أرسل جاءت وفود الجن إلى الرسول ﷺ يتعلمون منه الهدى والإيمان وشريعة الله ﷾.
وقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أنه سأله أحد أصحابه فقال: (هل صحب رسول الله ﷺ ليلة الجن منكم أحد؟ - علقمة يسأل ابن مسعود - فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل أو استطير! قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان وجه الصبح أو قال: في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال: إنه أتاني داعي الجن - أي: جاء واحد موكل من الجن إلى بيته وقال: يا رسول الله! وفود الجن في مكان كذا تنتظرك لكي يتعلموا منك- فأتيتهم فقرأت عليهم، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم) وفي رواية عند الطبري عن ابن مسعود: (بت الليلة أقرأ على الجن واقفًا بالحجون) والحجون مكان معروف بمكة.
ومما قرأه عليهم ﷺ سورة الرحمن، يقول ﷺ: (لقد قرأتها -يعني سورة الرحمن على الجن- ليلة الجن فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» [الرحمن:١٣] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه البزار والحاكم وابن جرير بإسناد صحيح.
ولم تكن هذه الليلة هي الليلة الوحيدة التي قابل الرسول ﷺ فيها وفود الجن ومن أحب المزيد فليرجع إلى تفسير ابن كثير لسورة الأحقاف، فقد ساق الروايات التي تتحدث عن مقابلة الرسول ﷺ لوفود الجن، ومنها الحديث الذي يخبر الرسول ﷺ فيه أنه جاءه وفد من الجن فمدحهم وقال: (نعم الجن) وتوجد أحاديث كثيرة جدًا ساقها ابن كثير في ذلك الموضع.
وابن عباس يرى أن الرسول ﷺ لم يقابل وفود الجن، وهذه من الحجج التي اعتمد عليها الدكتور محمد عبده، يقول ابن عباس: إن الرسول لم يقابل الجن مع أن ابن عباس لا ينكر الجن، ولا ينكر أنهم استمعوا للرسول، ولكن ينكر أن الرسول ﷺ قابلهم، والقاعدة عند علماء السنة: من حفظ حجة على من لم يحفظ.
وابن مسعود ليس في الحفظ بأقل رتبة من ابن عباس بل هو في حفظ الأحاديث مقدم على ابن عباس؛ لأنه صحب الرسول ﷺ وابن عباس صغير.
وابن مسعود صحب الرسول ﷺ في إحدى الليالي فهو يحدث عن رؤيا ومشاهدة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن الرسول ﷺ أخذهم وعبد الله بن مسعود معهم وأراهم مكان آثارهم ومكان نيرانهم.
ومن الروايات التي يستحسن أن تذكر هنا: أن أهل الجاهلية كان هذا مقررًا عندهم، ومما له صلة بالموضوع أن أحد الصحابة واسمه سواد بن قارب كان كاهنًا في الجاهلية، فمر سواد بـ عمر بن الخطاب ﵁ أيام خلافته، فدعاه عمر وسأله عن أعجب ما جاءته به جنيته -أي: عندما كان كاهنًا في الجاهيلة -قال: بينما أنا يومًا في السوق جاءتني -يعني: الجنية- أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها.
ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: أن بعثة الرسول ﷺ أحدثت حيرة عندهم، وأصبح عندهم يأس وضعف ومسكنة، حتى هامت على وجوهها في البوادي.
قال عمر: صدقت، ثم يقول: بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه -يبدو أن هذا الجني كان مؤمنًا، يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم علم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
هذه الرواية في الصحيح، والصحيح أن القصة كلها عن سواد بن قارب، وبعض المحدثين يجعل الرواية الثانية عن عمر بن الخطاب ﵁ وابن كثير حقق المسألة وقال: الصحيح أنها كلها عن سواد بن قارب.
2 / 12
طريق معرفة الجن
ليس هناك من سبيل هو أقوم وأقوى في معرفة الجن من دراسة الكتاب والسنة، وأخذ المعلومات الموجودة في الكتاب والسنة عن الجن، وبعض الناس يقولون: لا ينبغي أن نبحث في قضايا الجن، فـ سيد ﵀ في الظلال أحيانًا كان يقول: لا أحب أن أتعمق في دراسة هذا البحث، وصحيح أنه لا يجوز أن نتعمق فيه بعقولنا، لكن لا مانع من دراسة النصوص التي تؤدي بنا إلى معرفة هذا العالم، فدراسة هذا الأمر بعقل مجرد خطأ، لكن جمع النصوص عنهم ودراستها أمر علمي سليم ليس فيه شيء.
فأول شيء النصوص، ثم المشاهدات وخاصة مشاهدات الثقات، وعلماء السنة الكبار لهم مشاهدات في هذا الأمر متواترة، كـ الأعمش ﵀ في رواية يقول ابن كثير عن إسنادها: سألت عن هذا الإسناد شيخنا الحافظ المزي فقال: هذا الإسناد صحيح إلى الأعمش، يعني: أن الرواية عن الأعمش سليمة صحيحة، يقول الأعمش: تروح إلينا جني-أي: جاء يزورني -فقلت لهم: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز، قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدًا، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا، أي: هل عندكم من هذه الفرق المختلفة مثل الرافضة والخوارج وما أشبه ذلك؟ قال: نعم، قلت: فما الرافضة فيكم؟ قالوا: شر.
ثم قال: وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن يحيى الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي في الليل ينشد: قلوب براها الحب حتى تعلقت مذاهبها في كل غرب وشارق تهيم بحب الله والله ربها معلقة بالله دون الخلائق وكثير من الناس الذين نعرفهم يذكرون أشياء من هذا القبيل، فالجن لا نراهم ولكن هناك بعض الأحياء يرون الجن كما قال الرسول ﷺ: (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنهم يرون ما لا ترون) فالديكة يرون الملائكة، والكلاب والحمير يرون الشياطين.
2 / 13
العلاقة بين الشيطان والجان
ما العلاقة بين الشيطان والجان؟ الصحيح أن الشيطان الذي حدثنا الله عنه من عالم الجن، ومجمل ما في القرآن عن الشيطان أنه كان في بداية أمره مخلوق صالح يعبد الله ﷾ مع ملائكة السماء، ودخل الجنة وعصى ربه ﷾ عندما أمره بالسجود لآدم، فرفض حسدًا وكبرًا، فطرده الله ﷾ من رحمته.
والشيطان في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوه وتمرده على ربه، وأطلق الله عليه لفظ الطاغوت، قال الله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ [النساء:٧٦]، فالشيطان طاغوت، وكل إنسان يدعو إلى هذه الدعوة طاغوت؛ لأنه أيضًا متمرد عاتٍ، لكن الطاغوت الأكبر الشرك.
ومن الطريف أن العقاد في كتابه إبليس يقول: إن من الأسماء الشائعة عند كل الأمم لفظ إبليس يعني أنه ليس عند المسلمين فقط بل هو معروف عند اليهود والنصارى وغالبية أمم الأرض فإنهم يطلقون على الشيطان إبليس، وسمي إبليس من البلس وهو اليأس؛ لأنه يئس من رحمة الله ﷾، ويذكر بعض علماء السنة أن الشيطان كان قبل أن يكفر اسمه عزرائيل والله أعلم بمدى صحة هذا الكلام، فإنه لم يرد به حديث صحيح، وإنما هو كلام قد يكون مأخوذًا عن الإسرائيليات.
والشيطان مخلوق عاقل أي مدرك، وبعض الناس اليوم يفلسف الأمور ويقول: الشيطان هو روح الشر المتمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه إذا تمكنت من قلبه عن المثل الروحية.
وغير صحيح أن الشيطان يلعب بغرائز الإنسان، لكنه مخلوق عاقل مفكر واعٍ مفصح.
وبعض العلماء يرى أن الشيطان ليس من الجن، وإنما هو في الأصل من الملائكة ولكنه عصى الله ﷾ فطرده الله ﷿، وفي كثير من كتب التفسير أن الشيطان من الملائكة، لكن لم ترد نصوص صحيحة تصرح بهذا، ولكن نقل مثل هذا كثيرًا جدًا عن بعض علماء السنة، وابن كثير يذكر أن هذا الكلام الذي يقوله علماء السنة وغيرهم إنما هو من الإسرائيليات.
وأكبر حجة للذين يقولون بأن الشيطان من الملائكة قول الله ﷾: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٣٤]، فمن أساليب اللغة العربية أن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه، فتقول: جاء الرجال إلا زيدًا، فزيد من جنس الرجال، هذه حجتهم، لكن هناك استثناء في اللغة العربية يسمى الاستثناء المنقطع، وهذا الصحيح فيه أنه استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى جزءًا من المستثنى منه كما تقول: جاء القوم إلا حمارًا، فالحمار ليس من جنس القوم، وكذلك هنا فليس المراد أن الشيطان كان من جنس الملائكة؛ لأن الاستثناء منقطع، والدليل على هذا آية الكهف: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف:٥٠]، فقد نص على جنسيته وأنه ليس من الملائكة ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف:٥٠].
والشيء الآخر: أن الشياطين والجن مخلوقون من نار بينما الملائكة من نور وهذا فارق آخر.
والذي حققه ابن تيمية في هذه المسألة أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته وشكله وليس منهم باعتبار أصله.
إن آدم أبو البشر فهل الشيطان أبو الجن؟
2 / 14
هل الشيطان أبو الجن؟
هذه مسألة ليس فيها نص، فآدم أبو البشر كما هو منصوص عليه، أما أن الشيطان أصل الجن أو هو واحد من الجن ولهم أصل غيره فالله أعلم، وقول الله ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف:٥٠] هذه الآية محتملة أن يكون واحدًا من الجن أو أن يكون أصلهم، وابن تيمية يرى أنه أصل الجن كما أن آدم أصل البشر.
2 / 15