Duroos of Sheikh Yusuf Al-Ghafis
دروس الشيخ يوسف الغفيص
Türler
المنهجية في دراسة العقيدة
تقسيم الدين إلى أصول وفروع أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولكن هذا الكلام لا يعني بحال أن الشريعة فيها أصول مهمة وفروع غير مهمة، بل إن مسائل الشريعة كلها مهمة، سواء كانت مسائل علمية أو عملية، وهذه من المسائل التي يلزم كل طالب علم التنبه إليها. كما أن على طالب العلم عند دراسته للعقيدة أن يسير على منهجية صحيحة في دراسته؛ لأنه دراسة العقيدة من أعز العلوم وأشرفها، فهي تبين المنهج الوسط الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم.
1 / 1
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
فليس المقصود من هذا البحث: وضع مشروع مقترح لطالب العلم في قراءة علم أصول الدين علم العقيدة -وإن كنا سنشير في أثنائه إلى بعض المصنفات والكتب، وبعض المصنفين والكاتبين في هذا العلم- لماذا؟
لأن الحديث في هذه المشاريع المقترحة ربما ناسب جيلًا من طلبة العلم ولم يناسب جيلًا، وربما ناسب بيئة ولم يناسب بيئةً أخرى؛ وذلك لأن الناس يختلفون في قدراتهم وأحوالهم وبيئاتهم، وفي مقاصدهم من التحصيل ..
إلى غير ذلك.
فهذا شأن -في الجملة- فيه تنوع واطراد واختلاف، وعلى كل حال فثمة متون وكتب قد اشتهر وشاع بين طلبة العلم أنها من الكتب التي يُقصد إلى قراءتها ودراستها في تحصيل هذه العلوم، وإنما الذي قصد في هذا البحث هو: بيان بعض المسائل المتعلقة بالمنهج الشرعي، ولا أقول: العلمي، فإن كلمة (الشرعي) أعم وأشمل، لأن الشرعي يتضمن العلمي وما زاد على ذلك.
هذا البحث هو بيان لعشر مسائل في تقرير المنهج الشرعي في دراسة العقيدة، نجملها في ما يلي:
أولًا: الأسماء التي يسمى بها هذا العلم.
ثانيًا: تقسيم الدين إلى أصول وفروع.
ثالثًا: مسألة السنة والبدعة.
رابعًا: تقسيم البدعة.
خامسًا: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعًا، على الإطلاق.
سادسًا: الفرق بين خطأ المتأول المجتهد وبين المعاند.
سابعًا: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين.
ثامنًا: الوسطية.
تاسعًا: الامتياز والشمول.
عاشرًا: ما يضاف إلى مذهب السلف.
نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق ..
1 / 2
المسألة الأولى: الأسماء التي يسمَّى بها هذا العلم
إذا نظرنا إلى المصنفين من أئمة السنة ﵏، ومن درج على طريقتهم من أهل العلم: من الفقهاء، وأصحاب الحديث ونحوهم؛ نجد أنهم سمَّوا ما كتبوه في مسائل الاعتقاد ومسائل أصول الدين بعدة أسماء؛ فسمي هذا العلم: بعلم أصول الدين، وسمِّي: بعلم العقيدة أو بالاعتقاد، وسمِّي: بالإيمان، وسمِّي: بالتوحيد، وسمِّي: بالسنة، وسمِّي: بالفقه الأكبر، ونجد أن كل هذه الأسماء متداولة في كلام أهل العلم، وفيما كتبوه وصنّفوه من الرسائل والكتب، وأن بعض هذه الأسماء قد يكون نوعًا من الاصطلاح، كما نجد بعضها منقولًا من جهة الأسماء الشرعية الأولى.
1 / 3
التسمية الأولى: العقيدة
فأما تسمية هذا العلم بالعقيدة، فليس مقصود المسمِّين به من علماء السنة والجماعة: أن هذا العلم هو عبارة عن المسائل التي محلها القلب ولا صلة لها بالعمل، وهي ما قد يسمَّى في اصطلاح بعض المصطلحين بالمسائل العلمية، التي يقابلها المسائل العملية.
فلا يُعلم أن أحدًا من علماء السنة المعروفين سمَّى هذا العلم بالاعتقاد على هذا المراد، ومن هنا نجد أن الذين يشرئبون أحيانًا على بعض كلام أهل العلم ﵏، يقولون: إن تسمية العلماء لهذا الباب بعلم العقيدة، أو بالاعتقاد، لا أصل لها في الكتاب والسنة.
ولا شك أن هذا الاعتراض اعتراض ساقط؛ لأن هذه التسمية هي من باب الترتيب العلمي، الذي بُني على مقصود صحيح.
فإن من نطق بكلمة الاعتقاد، إما أن يريد: أن هذا العلم -علم الاعتقاد- هو علم المسائل العلمية، ويخرج بذلك المسائل العملية، فعلى هذا المراد -إذا أخرج المسائل العملية من جملة هذا الأصل- لا تكون التسمية مناسبة؛ لأن ثمة مسائل علمية محلها القلب، وهي ليست من مسائل أصول الديانة الكبرى؛ كاختلاف أهل السنة: هل المنافقون والكفار يرون ربهم يوم القيامة، أم لا يرونه؟ فهذه المسألة مسألة علمية محلها القلب، ومع ذلك فليست من مسائل الأصول.
وكذلك ثمة مسائل عملية وهي مع ذلك تعد من مسائل أصول الدين؛ كالصلوات الخمس، فإنها مسألة عملية.
إذًا: من نطق بهذه التسمية من أهل السنة والجماعة، ليس مقصودهم: أنه علم بالعلميات المجردة عن العمل، بل إن التحقيق: أن مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة: أنه تلازم بين العلم والعمل، ولذلك يقولون: الإيمان قول وعمل.
فما مقصود من تكلم بهذه التسمية من أهل العلم إذًا؟
مقصودهم: أن ما سموه اعتقادًا، أو ما جعلوه من المسائل من باب العقائد، هو من باب أنها أمور لازمة في القلب، أي: أن القلب عقد عليها وجزم بها، كما في قول الله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ﴾ [البقرة:٢٢٥] فما كان من اليمين عقده القلب وجزم به، فإنه يكون لازمًا.
إذًا: تسمية هذا العلم بهذا الاسم من باب أنه أمور عقدها القلب، وجزم بها، وعزم عليها؛ لبيانها وظهورها في الكتاب والسنة، وعليه؛ تكون هذه التسمية تسمية سائغة.
1 / 4
التسمية الثانية: أصول الدين
وهذه التسمية بينة أيضًا، بمعنى: أن هذه المسائل هي الأصول في دين الإسلام، أي: أنها الكليات الأوائل التي انضبط دليلها ونصها من كتاب الله ﷾، ومن سنة نبيه ﷺ، وأجمع عليها الأئمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فسميت أصول الدين بمعنى: أنها هي أوائله، وهي كلياته، وهي ضرورياته، وما إلى ذلك من المعاني، فهذا وجه تسميتها: أصول الدين.
وتسمية هذا العلم بأصول الدين فيه نوع من الإضافة، بمعنى: أنه إشارة إلى أن ثمة مسائل لا تعد من مسائل أصول الدين، وهذا ينبني على مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وسيأتي الحديث عنه في المسألة الثانية من مسائل هذا البحث.
وتسمية هذه الكليات من المسائل: في الصفات، والإيمان، والشفاعة، والقدر، وفي التوحيد العبادي، وتوحيد العلم، ونحوها - تسميتها بأصول الدين، قد درج عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، بل وغيرهم من الطوائف، فإن سائر المسلمين متفقون على أن هذه المسائل تسمى: مسائل أصول الديانة.
1 / 5
التسمية الثالثة: التوحيد
لقد صنف الإمام ابن خزيمة ﵀ كتابًا في العقيدة وأصول الديانة، وسماه: كتاب التوحيد، ومثل هذا نجده في كتب المحدثين أحيانًا، كما في صحيح البخاري، فإنه وضع كتابًا في صحيحه سماه: كتاب التوحيد
وهلم جرا.
فتسمية هذا العلم بالتوحيد، هي تسمية له بأشرف مسائله ومقاصده، فإن ما يسمَّى بمسائل العقائد، والكليات والضروريات من الديانة، المراد منها: تحقيق توحيد الله ﷾، فإنه يصح لك أن تقول: إن حقيقة الإسلام كله من أوله إلى آخره هي: تحقيق التوحيد لله ﷾؛ لأن الله يقول: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٨ - ١٩] ويقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] ويقول في سياق آخر: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران:٨٣] فالمسائل الواجبة؛ بل حتى المسائل المستحبة هي من تحقيق التوحيد؛ لأن التوحيد معناه: عبادة الله ﷾، والإقبال على طاعته، والإخلاص له، واتباع ما أنزله.
ومعلوم أن كل فعل أو قول يقوم به العبد على جهة التدين لله، فهو تحقيق لهذه العبودية، فإن التوحيد: هو العبودية لله، فإذا فعل العبد مستحبًا، فضلًا عن الواجب، أو ما إلى ذلك من سبل الخير؛ فهو من توحيد الباري ﷾، ولذلك قال النبي ﷺ كما في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، زاد الإمام مسلم: (فأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فكل هذه المسائل تدخل في تحقيق التوحيد ومعناه.
إذًا: سُمِّي هذا العلم بهذا الاسم من باب التسمية له بأشرف مقاصده، وأوائل مسائله، فإن هذا العلم إذا ذُكر فأول ما يقرر فيه: التقرير لربوبية الله وكماله في أفعاله وصفاته، والتقرير لفردانيته ووحدانيته في العبودية، وأنه المعبود وحده بالحق، وأنه لا يُصرف شيء من العبادة لغيره.
وهذا هو معنى كلمة التوحيد التي هي فاتحة دين المسلمين، بل فاتحة دين المرسلين، فإن الله قد بعث جميع المرسلين بالدعوة إلى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة متضمنة للإقرار لله ﷾ بالربوبية، وهي أيضًا تحقيق وتقرير بأنه ﷾ هو المعبود وحده بحق، فلا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله ﷾.
إذًا: هذه التسمية تسمية مناسبة.
1 / 6
التسمية الرابعة: الإيمان
إن الإيمان كلمة شرعية، أي: جاء ذكرها في كتاب الله ﷾، وفي كلام الرسول ﵌، وما دام أنها كلمة شرعية، فإن مجرد ذكرها في القرآن على مثل هذا المقام، يكون كافيًا في بيان أنها تسمية مناسبة صحيحة؛ بل شرعية.
ولكن المصنفين في هذه المسائل، يسمون ما يكتبونه في مسائل أصول الدين: الإيمان، ويقصدون به: الاسم الشرعي العام، الذي ذكره الله في مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:١] وفي مثل قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله﴾ [الأنفال:٢] والذي ذكره النبي ﷺ في مثل قوله: (الإيمان أن تؤمن بالله، ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ...) الحديث، فيقصدون الإيمان، وتحت هذه التسمية تُذكر سائر مسائل الأصول العقدية.
ومن هذا تسمية الإمام مسلم ﵀ في صحيحه لكتاب الإيمان، فقد وضع كتابه: الصحيح في كتبًا، ومن أوائل هذه الكتب: كتاب الإيمان.
ومقصود الإمام مسلم: أن يذكر تحت هذا الكتاب الأحاديث التي فيها تقرير مسائل أصول الديانة، سواء تعلقت هذه الأحاديث بمسألة العبودية والألوهية لله، أو تعلقت بصفات الله ورؤيته وعلوه ونحو ذلك، أو تعلقت بشفاعة النبي ﵌ وحكم أهل الكبائر من المسلمين، أو تعلقت هذه الأحاديث بما يتعلق بمسائل القدر ..
أو ما إلى ذلك، فكتاب الإيمان عند الإمام مسلم، لم يقصد به الرد على المرجئة، وأن يبين أن الإيمان قول وعمل فحسب، بل هو كتاب جامع.
وربما صنف بعض أهل العلم في هذه المسائل، وسمَّى ما صنفه بالإيمان، ويكون مقصوده: دراسة مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، وهي مسألة: مسمَّى الإيمان.
وهذه المسألة هي أول مسألة حصل فيها نزاع بين أهل القبلة من المسلمين، فلما كان الصحابة ومن بعدهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وظهرت المرجئة الذين يخرجون العمل عن مسمَّى الإيمان، وظهرت الخوارج الذين يبالغون ويُغلون في مسألة الإيمان، لما حدث ذلك صنف بعض الأئمة ما سمَّاه: كتاب الإيمان، ولم يكن مقصوده الكلام عن سائر مسائل أصول الديانة، وإنما الكلام عن مسألة واحدة وهي: مسمَّى الإيمان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، وكيف يرد على المرجئة الذين أخرجوا العمل عن الإيمان ..
ونحو ذلك، ومن هنا سمَّى البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان.
ومن هنا يتبين الفرق بين تسمية الإمام البخاري، وبين تسمية الإمام مسلم، فمقصود الإمام البخاري بكتاب الإيمان: ذكر مسألة من مسائل الإيمان، وهي مسألة: أن الإيمان قول وعمل، والرد على المرجئة في ذلك، ومن يُلحق بهم ممن قابلهم من الوعيدية، أي: يلحق بهم إلحاق مخالفة، وأما الإمام مسلم فإنه قصد الشمول كما تقدم.
ومثل ذلك أيضًا: كتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الإيمان لـ ابن أبي شيبة، إلى غير ذلك من المصنفات الأخرى.
1 / 7
التسمية الخامسة: الفقه الأكبر
وهذه تسمية أضافية، أي: أن ثمة فقهًا دون ذلك، فإن الشريعة فقه، وقد قال النبي ﷺ -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، فهذا الفقه في الدين يتضمن الفقه في مسائل أصول الديانة، والفقه في مسائل التشريع، وقد درج أهل العلم من الفقهاء على تسمية مسائل الشريعة فقهًا، فتجدهم يقولون مثلًا: كتب الفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية، وما إلى ذلك.
وما يتعلق بأصول الدين، سمَّاه بعض العلماء -كما نقل عن أبي حنيفة وغيره-:الفقه الأكبر، أي: أنه إذا كان القول في تفصيل مسائل الشريعة فقهًا، فإن القول في مسائل أصول الديانة يُعدُّ الفقه الأكبر، وهذه تسمية سائغة مناسبة، وإن كان كتاب: الفقه الأكبر، المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة، ليس كتابًا له، وإنما كتبه بعض الحنفية من بعده، ثم شرحه بعض الأحناف على غير طريقة الإمام أبي حنيفة.
1 / 8
التسمية السادسة: السنة
إن كلمة السنة كلمة شرعية، فإنه يقصد بها ما سنه رسول الله ﵌، وإن كانت هذه الكلمة كلمة مشتركة، بمعنى: أنها قد تطلق على أكثر من مراد، فربما ذكرت السنة وقصد بها المستحب، أو المندوب، كما يقال: إن السواك سنة، فالمقصود هنا: أن السواك مستحب، وربما ذُكرت السنة على معنى: ما قابل البدعة، فيُقال: هذا سنة، وهذا بدعة، وقد تذكر السنة على معنى مقارب لذلك، وربما كان أخص منه من بعض الوجوه، وهو: المسائل اللازمة من الديانة، بمعنى: أن من تمسك بها صار سنيًا، ومن تركها فإنه يخرج عن هذه التسمية والإضافة.
ونجد أن المتقدمين من أوائل الفقهاء والمحدثين؛ كالإمام: مالك، والشافعي، وأحمد، وابن مهدي، والبخاري، وأمثال هؤلاء، كثيرًا ما يسمون ما يقررونه في هذا الباب من المسائل: السنة اللازمة، فيقول الإمام أحمد مثلًا: السنة اللازمة عندنا هي: أن الإيمان قول وعمل، وأن أفعال العباد مخلوقة ..
إلى غير ذلك، فيسمون ذلك: السنة اللازمة، أي: أنها أصول الديانة العامة.
1 / 9
المسألة الثانية: تقسيم الدين إلى أصول وفروع
لقد ذكر سابقا أن هذا العلم يسمى: أصول الدين.
وتقسيم الدين إلى أصول وفروع، أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولاسيما المتأخرين، وقد أشكل على كثير من طلاب العلم -ولاسيما المعتنين بكلام الأئمة المقتدين بكلام السلف- أنه ورد في كلام بعض المحققين -وأخص منهم الإمام ابن تيمية ﵀ اعتراض على هذا التقسيم، فقد تكلم ابن تيمية ﵀ في المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى وفي غيره، تكلم بنوع من النقد والاعتراض على هذا التقسيم، وأنه تقسيم أحدثه بعض النظَّار والمتكلمين، مع أنك إذا قرأت في كتب شيخ الإسلام، بل ومن قبله من الأئمة؛ وجدت أنهم يسمون المسائل التي نسميها نحن: العقائد الأولى، يسمون هذا النوع من المسائل من الدين: مسائل أصول الدين، وهذا شائع كثير متواتر في كلام الإمام ابن تيمية.
إننا نجد في كلام الإمام ابن تيمية التصريح بأن هذا من مسائل أصول الدين وهذا من مسائل الفروع، وقد نص الإمام ابن تيمية في غير موضع من كتبه أن هذه من مسائل الفروع وأن هذه مسائل الأصول، أما تسميته لباب الصفات والقدر وما إلى ذلك بأصول الديانة، فهذا شائع لا حصر له في كلامه.
إذًا: ما معنى الاعتراض الذي ذكره ﵀؟ معناه: أنه لا يعترض على الاصطلاح كاصطلاح عام، فإنه يُعلم بالبديهة الشرعية والعقلية الشائعة عند أهل العلم، المحصَّلة من دلائل الكتاب والسنة: أن مسائل الديانة ليست بدرجة واحدة، فإن منها ما لها قوة وظهور، ولها تواتر في الكتاب والسنة، ومنها ما تحصَّل بالاجتهاد، أو القياس، أو الأدلة التي قد تسمى بالأدلة المختلف فيها.
فأما تسمية مسألة إفراد الله ﷾ بالعبادة، ومسألة الصفات، ومسألة القدر، والمسائل التي من هذا النوع، بأصول الدين، فهذه لا يعترض عليها أحد من أهل العلم، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه حتى من خالف أهل السنة والجماعة من الطوائف، فإنهم لا يعترضون على تسمية هذه المسائل بمسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون الأئمة من أهل السنة في طريقة تقرريها، لكنهم يتفقون على أن باب الصفات -مثلًا- يعد من مسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون في تقريره وترتيبه.
إنما المأخذ الذي أخذه الإمام ابن تيمية، هو أن كثيرًا من النظَّار والمتكلمين، أصحاب علم الكلام ومن شاركهم من الأصوليين، وأقول: من شاركهم من الأصوليين؛ لأن كثيرًا ممن كتب وصنف في أصول الفقه هم من أعيان علماء الكلام، فإن من كتب أصول الفقه: المعتمد لـ أبي الحسين البصري، وهو متكلم معتزلي حنفي، وكتاب المستصفى لـ أبي حامد الغزالي، وهو رجل متكلم على طريقة أبي الحسن الأشعري، وكتاب البرهان للجويني، وهو أيضًا متكلم
إلخ، ولا يعني هذا أن كل من صنف في أصول الفقه كذلك.
المقصود: أن مأخذ ابن تيمية هو: أنهم قالوا: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع، وهذا قدر عام لا إشكال فيه من حيث هو، لكنهم أخطئوا من جهة الحد، أي: التعريف، فما هي المسائل التي تسمى بالأصول، وما هي المسائل التي تسمى بالفروع؟
لقد شاع في كلام هؤلاء النظَّار ومن شاركهم من الأصوليين والفقهاء المتأخرين: أن مسائل أصول الدين هي المسائل العلمية، ومسائل فروع الدين هي المسائل العملية، ومنهم من يقول: إن مسائل أصول الدين هي ما علم بالعقل والسمع -والسمع هو دليل الشرع الكتاب والسنة- ومسائل فروع الدين هي ما علم بالسمع وحده دون العقل.
فلمثل هذه الحدود والتعريفات للأصول والفروع، اعترض الإمام ابن تيمية؛ لأنه يقول في قولهم: إن مسائل الدين هي العلميات دون العمليات، يقول: هذا غلط في المقامين.
ما معنى أنه غلط في المقامين؟
يقول: إن هناك مسائل علمية ولا تعتبر من مسائل أصول الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى مسألة رؤية الكفار لربهم، ومثلها مسألة: سماع الميت صوت الحي، وهل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ فإن هذه مسائل علمية تصورية، فإذا قلنا: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو قلنا: لا يعذب، هل لهذا تطبيق فعلي في أفعال المكلفين؟ الجواب: لا، ومع ذلك فقد اختلف الصحابة: هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ على أقوال معروفة: لـ عائشة، وابن عباس، وغيرهم، واختلف الأئمة من بعد في مسألة: رؤية الكفار، واختلفوا في سماع الميت صوت الحي، فيقول ابن تيمية: إن ثمة مسائل علمية لا تعد من مسائل أصول الدين.
وبالمقابل: لما قال هؤلاء: إن المسائل العملية هي مسائل فروع الدين، قال: هذا غلط شرعي، ووجه كونه غلطًا شرعيًا: أن الزكاة، والصلاة، والحج، والصوم، هي أفعال عملية، وإن كانت مرتبطة بالمقاصد القلبية، لكنها أفعال وحركات، فالحج حركة: وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وكذلك الصلاة، مع أن الحج والصلاة وأمثالها من العبادات الكبرى أو الأولى التي سماها النبي ﷺ مباني للإسلام، ولا شك أنها تعد من مسائل أصول الدين.
إذًا: هذا هو مقصود ابن تيمية من الاعتراض.
كذلك لما عرَّفها قوم منهم فقالوا: الأصول: هي ما دل عليه السمع والعقل، قال ابن تيمية: إن ثمة فروعًا دل عليها السمع والعقل، أي: أن العقل يدرك كونها مناسبة؛ كالأمر بالصدقة مثلًا، أو بذل المعروف، مثل: طلاقة الوجه، وإماطة الأذى عن الطريق، ألا نقول: إن هذا الحكم مدرك بالشرع؛ لأن النبي ﷺ ندب إلى إماطة الأذى عن الطريق؟ الجواب: بلى ..
ثم أليس إماطة الأذى عن الطريق مدرك بالعقل أنه حسن وأنه خير وبر ..
إلى آخره؟ الجواب: بلى، فهل معنى هذا: أنه من أصول الدين؟ الجواب: لا.
وفي المقابل: هناك مسائل لم يدل عليها العقل، وإنما قضى بها الشرع وأخبر بها، وهي تعد من مسائل أصول الدين، كنزول الرب ﷾، فلو لم يحدث النبي ﵊ بهذا الحديث، لما كان لأحدٍ من بني آدم أن يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ..
إلخ.
فهناك مسائل خبرية مبنية على خبر الله أو خبر رسوله.
إذًا: فمحصَّل هذا التقسيم: أنه إذا استعمل كمصطلح على معنىً مناسب، فهو تقسيم سائغ، وأما إذا استعمل على معنى: أن في الدين أصولًا وفروعًا على هذا الحد الكلامي، الذي يخالف مقاصد الشريعة وأحكامها، فهذا مرفوض، وكذلك إذا استعمل هذا التقسيم على أن معنى الفروع: أنها مسائل ليس لها أهمية في الإسلام، أو كما قد يسميها بعض المتأخرين المعاصرين لما يسمى بعصر النهضة: أن هناك مسائل اللب، ومسائل القشور، وأمثال هذه التعبيرات السطحية التي استعملها بعض الكتاب، فلا شك أن هذه تسميات ليست صحيحة، بل إنها مخالفة لشرع الله، فإن الدين كله له جلاله وله قدره، مهما كان قدر مسألته.
1 / 10
المسألة الثالثة: السنة والبدعة
إذا كانت المسألة من مسائل أصول الدين فإن ما يقابلها يسمى: بدعة، والابتداع لا شك أنه مذموم، وذمه ثابت بالنص والإجماع، فإن الله ﷾ قد عاب على من شرَّع فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:٢١] ومثله قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد:٢٧].
وقد كذلك ثبت ذم النبي ﷺ للبدع كما تواتر عنه، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ كان إذا صعد المنبر قال في خطبه: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فذمُّه ﵊ للبدع: قوليها، وفعليها، فضلًا عن عقديها أمر متفق عليه.
وقد تقدم: أن كلمة السنة كلمة فيها اشتراك، فربما ذكرت السنة بمعنى: الذي أذنت به الشريعة، فيقال: إن هذا سنة، أي: مأذون فيه شرعًا، وربما ذكرت السنة بمعنى: ما ندب إليه الشارع، فيقال: إن عيادة المريض سنة، بمعنى: أنه مندوب إليها، وربما قُصد بالسنة -كما هو الحال هنا- الأصل من الديانة.
وهنا يأتي سؤال: هل كل ما ليس سنة يكون بدعة، أم أن التعبير الصحيح: أن ما خالف السنة يكون بدعة؟
لك أن تقول: إن التعبير الأول صحيح، بشرط أن يُفسَّر تفسيرًا صحيحًا، فمثلًا: إذا قُصد بالسنة ما أذنت به الشريعة، فضلًا عما ندبت إليه، فلك هنا أن تقول: إن ما ليس سنة يكون بدعة، وأما إذا قُصد بالسنة ما أمر الله به، أو أمر به الرسول، على جهة التخصيص له، والندب إليه، فهل يلزم أن يكون ما خالف هذا الأمر الخاص بدعة؟ ربما كان وسطًا وهو ما يسمى: ما أذنت به الشريعة.
ونضرب لذلك مثلًا في باب العمل:
تقول عائشة: (ما كان النبي ﵌ يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، والحديث في الصحيحين، فمن صلَّى كصلاة النبي ﷺ إحدى عشرة ركعة من الليل، فنقول: إنه أصاب السنة، بمعنى: أنه فعل ما ندب إليه؛ لأنه اقتدى بالنبي ﵌، ولكن من صلَّى من الليل ثلاثين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل، أي: أنه صلَّى عددًا لم يرد دليل بخصوصه، فهل أصاب سنة خاصة بهذا العدد، كما أصابها من قصد أن يصلِّي إحدى عشرة ركعة، أم أنه فعل بدعة؟
إن من يضيِّق الفهم في هذه المسائل، ربما قال: ما دام أنه لم يفعل سنة معينة، فيلزم أنه فعل بدعة؛ لأنه ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ونقول: نعم، ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ولكن بشرط أن تُفسَّر السنة تفسيرًا عامًا، فإذا فسرت السنة بأنها: ما أذنت به الشريعة، فلا شك أن الأمر كذلك.
ولقائل أن يقول: إذًا ماذا نسمي عبادة من صلَّى ثلاثين ركعة؟ هل نقول: إنه فعل سنة؟ فإن قلنا: إنه فعل سنة، لزمنا الدليل على هذه السنة.
فنقول: إنه فعل أمرًا جائزًا شرعًا، وربما يشكل هذا عند البعض فيقول: كيف نسمي العبادة أمرًا جائزًا، والجائز هو المباح، كالأكل والشرب؟ نقول: ليس معنى ذلك أنها بحكم الأكل والشرب، وإنما المعنى: أن هذه الصورة من العبادة قد أذن بها الشارع، ووجه إذن الشارع بها: أن النبي ﷺ لما سأله الرجل عن صلاة الليل -كما في الصحيحين- قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر)، فجعل الضابط وقتًا وليس عددًا، ومعلوم أنه لما أطلق وقال: (مثنى مثنى) فإنه لا يستطيع أحد أن يفرض رقمًا في ذلك.
إذًا: هناك مسائل -وإن كانت عبادات- من إذن ومباح الشريعة، وليست من السنن التي يقصد إليها، ولكنها مع ذلك ليست من البدع؛ وقد رخص بعض أهل العلم في مسائل قد يحتاج فيها إلى تأمل أكثر، فمثلًا: عندما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ عن التسبيح بالسبحة -ومن المعلوم أنه لم يُنقل عن رسول الله ﵊ في ذلك شيء- إلا أن ابن تيمية قال: (إن التسبيح بها حسن -أي: جائز- بشرط: ألا يكون ذلك من باب المباهاة والرياء، وبشرط: ألا تتخذ اتخاذًا عامًا، ويهجر التسبيح بالأصابع).
فهذا النوع من المسائل لا بد له من فقه، فإنه قد يشكل على المسلم: أهي من باب السنة المأذون بها، أم من باب البدعة؟
فمثلًا: لو صلى أحد قبل الجمعة ست ركعات، فهل هناك دليل على هذا العدد؟ وأيضًا صيام العشر من ذي الحجة لمن أراد أن يتعبد لله تعبدًا عامًا؛ لأن النبي ﷺ يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله ﷿ من هذه الأيام.
يعني أيام العشر)، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، فمن قصد الصيام فيها على أنه نوع من العبادة تناسبه فلا ينكر عليه.
لكن من ظن أن الصيام عبادة مختصة مشروعة في هذه العشر من بين سائر العبادات، كما ندب النبي ﷺ إلى صيام العاشر من المحرم، فيقال له: هذا غير صحيح؛ لأن العاشر من المحرم مسنون من جهة الندب إليه، أما صيام العشر من ذي الحجة فهو مما سوغته الشريعة بالأدلة الإجمالية.
وقد يقول البعض: ربما اعتقد بعض العوام أنها سنة خاصة مندوب إليها، فنقول: هذا الاعتقاد يُعدَّل، لكن لا يلزم من ذلك أن يحرَّم على الناس الصيام، أو أن يقال: إن الصيام في عشر ذي الحجة من البدع، فهو ليس من البدع، وأما القول: إن النبي ﷺ لم يفعله، فهذه مسألة أخرى، فإن النبي ﷺ قد ندب إلى العمل في هذه الأيام، ومعلوم أن سنته العامة تثبت بقوله، وتثبت بفعله، وتثبت بإقراره.
إذًا: هذا التقسيم لا بد أن يكون على جهة من المراعاة.
1 / 11
المسألة الرابعة: تقسيم البدعة
هناك تقسيمان للبدعة كثر ورودهما في كلام أهل العلم، ولا سيما المتأخرين.
1 / 12
التقسيم الأول
تنقسم البدعة إلى: بدعة حسنة، وبدعة سيئة، وقد ذكر هذا التقسيم كثير من الفقهاء كما هو معلوم، وربما تسلسل بعضهم فقال: إن البدعة الحسنة قد تكون مباحة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، ويضربون لذلك بعض الأمثلة.
وهذا التقسيم فيما يظهر -والله تعالى أعلم- تقسيم خاطئ؛ لأن من قسم البدعة إلى: بدعة الحسنة وبدعة السيئة، يفسر البدعة الحسنة بأنها أمر سائغ، أو ما يُندب إليه بجملة عموم قواعد الشريعة ومصالحها، وهذا لا ينبغي أن يسمَّى بدعة؛ لأن كلمة (بدعة)، قضى الشارع ﵊ أنها كلمة مذمومة في رسالته، فإنه كان يكرر على منبره: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة)، فلما قال الشارع ﵊: إن البدعة مذمومة، وقال: (كل بدعة ضلالة) وهذا لفظ عام، لم يسغ لأحدٍ من أمته من بعده أن يأتي ويقول: إن من البدع ما هو حسن.
وقد يتمسك بعضهم بكلمة لـ عمر بن الخطاب ﵁ في مسألة التراويح، حين قال لما اجتمع الناس عليها: (نعمة البدعة هذه)، مع أن عمر ﵁ إنما سمى هذا العمل بدعة تسمية عارضة من باب اللغة، وفرق بين التسمية العارضة على معنى لغوي، وبين أن يلتزم هذا كتقسيم مطرد لتضاف هذه التسمية إلى البدعة الحسنة، وكأنها بمعنى البدعة المشروعة؛ لأنه إذا قيل: بدعة حسنة، فهل هي حسنة بالعقل، أم حسنة بالشرع؟ إن من يلتزم بهذا التقسيم لا بد أن يقول: إنها حسنة شرعًا، إذًا كأنه قيل: البدعة المشروعة، وهذا لا شك أن المسلمين ليسوا بحاجة إليه؛ لأنه يُشكل من وجهين:
الوجه الأول: أنه مخالف لعموم حديث الرسول ﵊، وقبل ذلك هو مخالف للقرآن أيضًا، فإن الله تعالى قد ذكر البدعة على معنى الذم، قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ [الحديد:٢٧] إذًا: فلا يرد في مسائل التعبد بدعة وتكون محمودة، لأن الله تعالى قد ذكرها ذمًَّا وكذلك رسوله ﷺ، بل إن النبي ﷺ قد ذكرها ذكرًا عامًا فقال: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
الوجه الثاني: أن هذا التقسيم أشكل على عوام الناس؛ لأن العاصي إذا قيل له: هناك بدع حسنة وبدع سيئة، ثم قيل له: هذه حسنة وهذه سيئة، أصبحت الأمور عنده غير دقيقة، وربما قال: إنكم تتحكمون فتجعلون هذه من الحسن وهذه من السيئ، ولماذا كانت هذه حسنة وهذه سيئة؟ بخلاف ما إذا قيل للعامة من المسلمين: إن الواجب هو الأخذ بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ وترك الابتداع؛ لأن النبي ﷺ يقول: (وكل بدعة ضلالة).
إذًا: هذا التقسيم وإن استعمله بعض أهل العلم، فليس من باب التراتيب العلمية السائغة؛ لأنه يعارض لفظًا نبويًا وسياقًا قرآنيًا، فضلًا عما يتضمنه من الإشكال على العامة من المسلمين، وقد درج بعض المسلمين على بعض البدع المذمومة شرعًا لما سمَّاها بعض المترخصين بالبدعة الحسنة.
1 / 13
التقسيم الثاني
وهو تقسيم شائع في كلام كثير من أهل العلم المحققين، يقولون: تنقسم البدع إلى: بدع الأحوال، وبدع العقائد، وبدع الأفعال، والأصل أنهم يقرنون بين البدع القولية والعملية دون البدع العقدية، فيقولون: بدع الأقوال والأفعال، فيجعلون لها نوعًا من الميزان، ويقولون: بدع العقائد، فنجد أن ابن تيمية مثلًا لما تكلم عن رأي الإمام أبي حنيفة ﵀ وأبو حنيفة إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، وإن كان قد أخطأ في مسألة مسمَّى الإيمان خطأً نقله عن حماد بن أبي سليمان وطائفة من فقهاء الكوفة، هذا هو الخطأ المضبوط في شأن الإمام أبي حنيفة، أما ما نُسب إليه في تاريخ بغداد، أو في السنة لـ عبد الله بن أحمد، من كلمات، بل بعضهم أضافوه إلى نوع من الزندقة، أو أنه كان قدريًا، أو يقول بخلق القرآن؛ فهذه كلها لا يصح منها شيء عن هذا الإمام، بل هو إمام من أئمة الفقهاء، وأئمة أهل السنة والجماعة، وإن كان أخطأ في هذه المسألة.
المقصود: أن الإمام ابن تيمية قال عن كلمة أبي حنيفة أو حماد بن أبي سليمان، لما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمَّى الإيمان، مع أنهم يوافقون جمهور الأئمة في بقية المسائل أو في أكثر المسائل، قال ابن تيمية: (وبدعة حماد هي بدعة عن السلف والأئمة، لكنها من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد التي يُضلَّلُ فيها المخالف).
فكأنه أشار إلى أن البدع القولية والبدع الفعلية، شأنها دون البدع العقدية، وكأن هذا يتضمن: أن البدعة القولية والفعلية لا تؤدي في الغالب إلى خروج صاحبها عن السنة والجماعة خروجًا مطلقًا كليًا، بحيث لا يسمَّى سنيًا، فضلًا عن أن يحكم عليه بما هو أشد من البدعة؛ كالكفر ونحوه.
إذًا: هذا التقسيم تقسيم صحيح، وصحته مأخوذة من جهة أنه اصطلاح على معنىً مناسب.
وقد يقول قائل: إنه يشكل على هذا التقسيم ما إذا أشير إلى أن البدع القولية والعملية أو الفعلية شأنها دون البدع العقدية، فإننا نرى مثلًا بعض الناس، يعملون أعمالًا عند القبور، وهذه الأعمال من البدع، ولا يمكن أن يقال: إنها من المسائل التي لا يُضلَّلُ فيها المخالف، مما يدل على أن مسألة البدعة الفعلية ليست فقط من هذا الوجه؟
والجواب: أن هذا السياق حينما نقول: بدع الأقوال والأفعال أو البدعة الفعلية، ليست العبرة بكون هذه البدعة في الجانب الفعلي أو الحركي الآدمي فتكون عكس المسألة الصورية النظرية، وقد سبق معنا: أن مسائل أصول الدين منها مسائل علمية ومنها مسائل عملية، وكذلك الفروع: منها مسائل علمية، ومسائل عملية، فمقصود ابن تيمية في بدع الأقوال والأفعال التي يقول: إنه لا يضلل مخالفها: هو ما لم يتضمن خروجًا عن أصل من الأصول، سواء كان هذا الأصل أصلًا عباديًا فعليًا أو أصلًا علميًا.
فعليه: من فعل بدعة عند القبور من البدع الفعلية المنكرة الكبرى، فإنه يقال: إنه أتى بدعة من البدع، حقيقتها أنها بدعة من بدع العقائد؛ لأن الاعتبار فيها بالمقصود القلبي الذي حرَّكه لهذا الفعل، وهو مقصود بدعي خارج عن أصول السنة.
إذًا: هذا التقسيم إذا فُقه على هذا الفقه فإنه يكون تقسيمًا مناسبًا، أو لك أن تقول: إنه تقسيم سهل.
1 / 14
المسألة الخامسة: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعًا على الإطلاق
وتبع لهذا التقرير أيضًا: عدم التلازم بين كون المقالة من مقالة المخالفين من أهل القبلة كفرًا، وبين كون القائل بها كافرًا.
لقد ذكر النبي ﵌ أن أمته ستختلف وستفترق، وبيِّن ﵌ فيما تواتر عنه: أنه (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ...)، وهذا حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، أما حديث: (افترقت اليهود) إلى قوله: (وستفترق هذه الأمة ...)، فهو حديث تكلَّم فيه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، وسواء صح أو لم يصح فإن النبي ﷺ أشار إلى الطائفة المنصورة في حديث صحيح متفق عليه متواتر عند الأئمة.
والمخالفون لسنة النبي ﷺ من أهل القبلة -أي: من المسلمين- عندهم مخالفات سمَّاها أئمة أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين: بدعة، وعندهم بدع ربما سمَّاها بعض الأئمة كفرًا، فهل كل قول قال السلف أو الأئمة: إنه بدعة، يلزم منه أن من قال به يكون مبتدعًا، أو يسمى مبتدعًا تسمية مطلقة، ولا ينسب إلى السنة والجماعة؟
الجواب: ليس هناك تلازم، بمعنى: أن الإنسان قد يقول بدعة فيسمَّى مبتدعًا، كمن قال بنفي صفات الله، أو من قال: إن القرآن مخلوق، فهذا قال بدعة، ويسمَّى مبتدعًا؛ وذلك لأن هذه البدعة التي خالف فيها تُعدُّ من البدع المغلظة، التي فيها مفارقة بينة لمذهب أهل السنة والجماعة.
ومن ناحية أخرى: قد يقول بعض الناس -ولو من أهل العلم- بدعةً أو يفعل ما هو بدعة، من باب الاجتهاد، وهو لا يعلم أن هذا القول أو الفعل بدعة، فيمكن أن يصحح فعله، ويمكن أن يقال: إن فعله أو قوله بدعة، فلا جدل أن يسمَّى ما فعله بدعة بالدليل الشرعي الصحيح، لكن لا يجوز أن يسمى هذا القائل مبتدعًا، وذلك كقول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله، فلا يلزم من ذلك أن نسميهم من أئمة أهل البدع، لكون ما قالوه بدعة، مع أنه قد اتفق الأئمة أن كلمتهم بدعة، لكن لم يقل أحد من الأئمة: إنهم من المبتدعين الخارجين عن السنة والجماعة، إلا أئمة بلغتهم عن أبي حنيفة بلاغات لا تصح، فحكموا عليه بمجموع هذه البلاغات، التي ظنوا أنها بلاغات صحيحة.
إذًا لا تلازم بين هذا وهذا.
ومن ذلك أيضًا: أن الإمام أحمد قال -كما في رواية أبي طالب -: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع).
وصح عن البخاري أنه جعل اللفظ بالقرآن مخلوقًا، ومقصود البخاري: أن فعل العبد مخلوق، وهذا مقصود صحيح، لكن كلمته وحرفه ليس مناسبًا، فهل نقول: إن البخاري جهمي، أو يسمى جهميًا؛ لأن الإمام أحمد يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟ الجواب: لا، بل لا يجوز أن نقول: إن البخاري مبتدع، أو ما إلى ذلك.
فهذه مسائل لا بد فيها من الفقه، ولا سيما في النقل عن الأئمة ﵏.
ومثل ذلك مسألة الكفر:
فقد قال الأئمة عن كثير من المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين: إن القول بخلافها كفر، كقولهم مثلًا: إن إنكار العلو كفر، والقول بخلق القرآن كفر، وتعطيل الصفات كفر
فهل معنى هذا القول الذي تواتر عن الأئمة، ونجده في كلام الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم- هل معناه أن القائلين بذلك يسمون عند هؤلاء كفارًا، ويحكم عليهم بالكفر بأعيانهم، كما يحكم على عبدة الأصنام والأوثان والمشركين وغيرهم؟ الجواب: لا.
ولذلك نجد أن كتب السنة مليئة بالنقل عن الأئمة المتقدمين: أن القول بخلق القرآن كفر، ولكن لا نجد في كتبهم التصريح بأن فلانًا وفلانًا -مع كثرة من قال بخلق القرآن من الطوائف- كفار بأعيانهم.
قال الإمام ابن تيمية ﵀: (والإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإن تواتر عنهم تكفير الجهمية، إلا أنهم لم يكونوا مشتغلين بتكفير أعيانهم؛ لأن كون المقالة من مقالات الغالطين من أهل القبلة كفرًا، لا يلزم أن كل من قال بها أن يكون كافرًا، وفرق بين المقالة التي يكون موجبها الرد والإنكار، وبين المقالة التي تقع عن تأويل).
وهل يعني هذا أن من طريق الأئمة أنهم لا يكفرون المعين؟ الجواب: لا، ولكنهم يقولون: إنه لا يُحكم بكفره بعينه إلا إذا علم قيام الحجة عليه، فإن قال قائل: فإن لم نعلم قيام الحجة عليه؟ نقول: إذا لم نعلم قيام الحجة عليه قلنا: قوله كفر، والقائل لا يعد كافرًا، بل يعد على الأصل، وتجري عليه أحكام المسلمين.
فإن تُردد في شأن القائل: أهو كافر، أم ليس كافرًا؟ فهذا التردد ليس إشكالًا، فإن بعض الناس قد يكون حاله عند الله تعالى على غير حاله في حكم الناس في الدنيا، فقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] وبعض الناس يظن أن من ضروريات ديانته أن يعرف حكم كل واحد من بني آدم: هل هو مسلم أو كافر؟ إن هذا الحكم ليس ضروريًا، ولو كان ضروريًا لفقهه الصحابة، بل إن النبي ﵊ لم يكن يعلم جميع المنافقين في المدينة وممن حولهم من الأعراب، بنص القرآن: ﴿لا تَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] وحتى من علمهم الرسول من أسماء المنافقين لم يبينهم لكل الصحابة، ولم يقل: إن فلانًا وفلانًا من المنافقين؛ بل ظل ذلك سرًا بينه وبين حذيفة، مع أنهم كانوا مختلطين بهم.
ولذلك يقول ابن تيمية: (ولما أجرى رسول الله ﷺ أحكام المسلمين على المنافقين، فإجراؤها على أهل البدع، الذين لم يُحكم بكفرهم بأعيانهم، وإن ضلوا في بدعهم وفارقوا السنة والجماعة، أو حتى أتوا قولًا كفريًا لم يحكم عليهم بموجبه، فإجراء هذه الأحكام على هؤلاء من باب أولى).
1 / 15
المسألة السادسة: الفرق بين خطأ المتأول وبين المعاند
هناك فرق في الحكم بين مقالة تصدر بالتأويل، ومقالة تصدر على جهة العناد، فمثلًا: لقد كفَّر الله ﷾ من قال عن كتابه وعن كلامه: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر:٢٥] وربما نجد أن بعض أئمة السنة، في ردهم على القائلين بخلق القرآن، يقولون: ومن الدليل على أنه كلام الله حروفه ومعانيه: أن الله قد ذمَّ من كفر به فقال: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر:٢٥] فهل يستدل الأئمة بهذا التقرير: أن القرآن كلام الله، وأنه ليس مخلوقًا، أم يستدلون به ليقولوا: إن من قال: إن القرآن مخلوق، فحكمه عند الله بالضرورة يكون كهذا القائل؟
لا شك أن المراد هو الأول: أن هذا من باب الدفع للبدعة، التي قال أصحابها: إن القرآن مخلوق؛ لأنه إن كان مخلوقًا، لزم أن يكون قول بشر، أو أن يكون مخلوقًا بعينه -كما قال بعضهم: إنه حكاية عن كلام الله، أو غير ذلك- لكن هذا الكافر الذي ذكره الله في القرآن لما قال: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر:٢٥] قالها على جهة الجحد لتصديق هذا القرآن.
إذًا: القول بأن القرآن مخلوق، مقالة كفرية في ذاتها، لكن من قالها على قدر من التأويل، فإذا ما علم قيام الحجة عليه، وأنه خرج عن هذا التأويل الذي منع القول بكفره، إلى العلم بقيام الحجة عليه، فإنه يحكم عليه بهذا الموجب، وهذا لم يقع في تطبيقات الأئمة مع القائلين بمثل هذه المقالات إلا في حالات يسيرة، مثل ما نقل: أن الإمام أحمد حكم بذلك على ابن أبي دؤاد، لكن كم كان المعتزلة إذ ذاك؟ وكم كان علماء الجهمية؟ هذا إذا استقام الإسناد إلى مسألة ابن أبي دؤاد.
وهنا يرد سؤال آخر: لماذا حكم الإمام أحمد بالكفر على ابن أبي دؤاد، ولم يحكم على المعتصم، مع أن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وأجبر العلماء بالسيف والسنان على القول بخلق القرآن؟ بل كان الإمام أحمد يدعو له، ويستغفر له، ويصلي خلفه؟ ولذلك قال ابن تيمية: (بل إن الإمام أحمد صلى خلف بعض من يقول بهذه المقالات).
وهو يقصد بذلك المعتصم، يقول: (صلَّى خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان كافرًا عنده لما فعل ذلك).
ومثل ذلك أيضًا: مسألة العلو، فإن إنكار العلو كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، فمن أنكر علو الله على جهة الرد والتكذيب، فهو كافر، وذلك كما أنكره فرعون فيما ذكره الله في شأنه، لكن من تكلَّم بهذه المسألة على نوع من الشبه التي عرضت له، فهل يتغير حكمه، أو لا يتغير؟ المقالة حكمها واحد: أنها كفر، لكن القائل بها، لما دخلت عليه هذه الشبه والتأويلات، وظن أن هذا هو تحقيق الحق، فلا يلزم أن يكون كافرًا، وقد ناظر ابن تيمية قومًا من المتكلمين الذين ينفون علو الله تعالى، حتى انقطعوا معه في المناظرة، حتى قال لهم بحضرة السلطان: (أنا أمهل من يخالفني في هذه المسألة ونحوها ثلاث سنين).
من باب ثقته بما قال، فمع مناظرته لهم، ومع انقطاعهم، خرج بنتيجة فقال لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفارًا عندي).
فهذا الفقه في طريقة الأئمة المرضيين ﵏؛ كالإمام أحمد، ونحوه من المتقدمين، وكذلك من بعدهم من الأئمة؛ كـ ابن تيمية ونحوه، لا بد أن يكون نموذجًا مبصرًا لطالب العلم، فيقول الحقائق الشرعية بغير نقص، ولكن لا يعتدي على الخلق أيضًا.
إذًا: هذا التفريق لا بد أن يكون بيِّنًا.
1 / 16
المسألة السابعة: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين
هناك ثلاثة أصول ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في مسألة الحكم.
- الأصل الأول: قال: (إن المقالة قد تكون كفرًا، ولا يلزم أن يكون قائلها كافرًا)، وقد حكى الإجماع عن السلف على هذه القاعدة، وإذا قلنا: إن المقالة تكون كفرًا، ولا يلزم أن يكون قائلها كافرًا، فهل معنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون كافرًا؟ قطعًا لا، إنما المقصود: أنه ليس هناك تلازم ولا اطراد بين القول وحكم قائله.
- الأصل الثاني: قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة)، أي: ممن يقيم الصلاة، والشعائر الظاهرة، فيصوم رمضان، ويحافظ على الصلوات الخمس، ويحج البيت، ونحو ذلك، قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافرًا في نفس الأمر -أي: في حكم الله ﷾ إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق).
وقد شرح هذا الأصل في أكثر من موضع من كتبه، ومن أقربها وأيسرها: شرحه لحديث الافتراق، ولعله في المجلد الثالث من فتاويه.
قال: (لأن الناس لما بعث النبي كانوا: إما مشركين يعبدون الأصنام، أو مسلمين متبعين للنبي، ولما هاجر إلى المدينة ظهر صنف ثالث، وهم المنافقون، فالناس: إما منافق، وإما كافر، وإما مؤمن، والمؤمن أحد درجات ثلاث: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات).
- الأصل الثالث: ذكره الإمام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى وفي درء التعارض وغيره، قال: (إن كل من أراد الحق، واجتهد في طلبه من جهة الرسول، فأخطأه، فإن خطأه مغفور له).
إذًا: لا بد من تحقيق إرادة الحق، وهذا الشرط يخرج به الذين يكون مقصودهم الانتصار لمذاهبهم، فإن هؤلاء لم يحققوا إرادة الحق؛ بل إنه قد خالط هذه الإرادة وشابها نوع من النقص، وربما نوع من الشرك، وهو التعصب لهذه المذاهب الباطلة، أما من سلمت إرادته للحق، (واجتهد في طلبه)، أي: بذل وسعه في تتبع الكتاب الكريم، ودلائل السنة، وآثار الصحابة، (من جهة الرسول)، أي: من جهة الكتاب والسنة وما جاء به الرسول، (فأخطأه، فإن خطأه مغفور له).
فلا بد من هذه الأصول أو الشروط الثلاثة:
الشرط الأول: (أن كل من أراد الحق).
الشرط الثاني: (واجتهد في طلبه).
الشرط الثالث: (من جهة الرسول ﵌، قال: (فأخطأه فإن خطأه مغفور له).
ولما تكلم عن أهل البدع الذين ذمهم السلف قال: (وأما من ذمهم السلف من الطوائف فهم في الجملة مقصرون في باب الإرادة، مقصرون في باب الاجتهاد، فإن كثيرًا منهم يكون من مقصوده الانتصار لمذهبه)، قال: (والمقصرون في مقام الاجتهاد لعدم علمهم بالسنة).
ولذلك فإن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة ليسوا أهل علم بمفصل سنة النبي ﵌.
إذًا: من ذمهم السلف والأئمة من طوائف المخالفين فإنهم في الجملة مقصرون في هذه المقامات الثلاثة.
فإن عندهم تقصيرًا ونقصًا في باب الإرادة، لكثرة ما يعنون به من التعصب لأئمتهم، وطوائفهم، وشيوخهم، والانتصار لهم.
وأما في باب الاجتهاد، فإنهم مقصرون في هذا الباب من جهة قلة عنايتهم بآثار النبي ﵌، وآثار أصحابه.
وهذا أمر بيِّن، فإن علماء الكلام كأئمة المعتزلة الأوائل، ونحوهم، ليسوا من أهل الرواية، بل إن الذين عرفوا بأنهم أئمة الحديث وأئمة الرواية هم علماء أهل السنة والجماعة.
قال: (وأما المقام الثالث- وهو قوله: من جهة الرسول ﵌ فإن هذه الطوائف مقصرون في هذا المقام من جهة ما استعملوه من الأصول الكلامية ونحوها، التي حصلوا بها، أو بكثير من مقاماتها، ما يعتبرونه هو مقام أصول الديانة، وربما قدَّموه على القرآن، وزعموا أن هذا من باب تعارض العقل والنقل).
إذًا: هذا الأصل لا يقود إلى تعطيل الحق، ولا يقود إلى تعطيل الذم للمخالفين، وإنما هو أصل من أصول العدل والشريعة التي يوزن بها المخالف، دون أن تنقص الحقائق الشرعية.
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى خطورة هذا النقص الذي يعرض لهؤلاء في هذه المقامات الثلاثة، فذكر أنه قد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون من باب الفسق، وقد يكون من باب المعصية، قال: (وهذا النقص قد يكون كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، بحسب قدر المقالة وحال قائلها).
1 / 17
المسألة الثامنة: الوسطية
يقول الله ﷾: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:١٤٣] قال الإمام ابن تيمية وغيره: (وكما أن هذه الأمة وسط بين الأمم، فكذلك أهل السنة والجماعة وسط بين طوائف هذه الأمة).
ومعنى الوسطية التي ذكرها الله في القرآن: أنهم عدول، يقضون ويشهدون بالحق؛ لأن الله يقول: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ [الزخرف:٨٦] أي: بالصدق والأمانة والعدل: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف:٨٦] أي: أنهم صادقون في إرادتهم، صادقون في مداركهم.
فمسألة الوسطية من مسائل المنهج المعروفة عند أهل السنة والجماعة، فقد قرر الإمام ابن تيمية في رسالته الواسطية -وإن كان اسمها ليس مشتقًا من هذا المعنى، وإنما لأنه كتبها لقاض من قضاة واسط، وهي بلد في العراق- قرر في هذه الرسالة مسألة الوسطية، في كلام معروف شائع بين طلبة العلم، وكثير من العامة.
فالمقصود: أن الوسطية أصبحت في هذا العصر مصطلحًا يُجادل عليه في أكثر من مقام، فإن بعض الذين ليس عندهم ضبط وعناية ببعض المسائل الشرعية أو المنهج الشرعي، نجدهم يدَّعون أن ما يذكرونه هو من باب الوسطية، فقد أصبحت الوسطية مصطلحًا يدخله الاشتراك والتداول في أكثر من ميدان وأكثر من ديوان، ولذلك لا بد من فقه هذه الكلمة، وأنها كلمة تدل على جملة من المعاني.
1 / 18
موارد الوسطية عند أهل السنة والجماعة
إن الوسطية عند أهل السنة والجماعة لها أربعة موارد: فتقع الوسطية في الأقوال، وتقع في طريقة ومنهج التقرير لعقيدتهم وأصولهم، وتقع في منهج الرد على مخالفيهم، وتقع في الحكم على مخالفيهم.
1 / 19
المورد الأول: في الأقوال
إن الأقوال الوسطية هي الأقوال الشرعية التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه ﵌، فأهل السنة والجماعة أقوالهم في مسائل أصول الدين وسط، أي: أنها مقتدية بالكتاب والسنة، وإذا قلت: إنها على الكتاب والسنة، كان هذا كافيًا عن التعليق بأنها متضمنة للعلم، متضمنة للعدل، متضمنة لنحو ذلك؛ لأنه من ضرورة أن يكون الشيء من كتاب الله أو سنة نبيه أن يكون متضمنًا لتلك الأمور.
1 / 20