هل كان الناس يعيشون في ذلك العصر عيشة ترف ونعيم، ولهو ومجون، أو عيشة جد وعفة؟ وهل كان الخلفاء العباسيون الأولون يتحرون أوامر الدين ويتقيدون بها، ولا ينعمون إلا بما أحل الله، كما يصورهم بعض المؤرخين، أو هم تحللوا من كثير من القيود، وأسرفوا في اللهو كما يصوره آخرون؟ وهل كانت حالة الشعب رخية سعيدة، أو بائسة شقية؟ وما أثر ذلك كله في العلم والفن والأدب؟
ذلك ما نحاول الإجابة عنه في هذا الفصل. •••
إذا نحن نظرنا نظرة عامة لنقارن بين الحياة الأموية، والحياة العباسية وجدنا الأولى أقل تكلفا، وأكثر سذاجة، وأدل على الذوق العربي البدوي البسيط. وأكبر ظاهرة تراها أن سيطرة العنصر العربي في العهد الأموي صبغته بهذه الصبغة، وجعلته إذا أراد الترف والنعيم، تخير من ترف الأمم الأخرى ونعيمها، ولم يأخذه كما هو بحذافيره، ثم هو يعدل فيه حسب ذوقه وميوله، ويجعله شيئا آخر عربيا لا فارسيا صرفا، ولا روميا صرفا. رأوا الموائد الفارسية، وأدخل الخلفاء والأمراء على موائدهم نوعا من التحسين، ولكن لم يكن العربي البدوي إذا دخل على معاوية أو عبد الملك يشعر بأنه في جو آخر بعيد كل البعد عما يعرفه.
روى ابن خلدون: «أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس، وقال: أخبرني بأعظم صنيع شهدته. فقال له: نعم أيها الأمير، شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعا، أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة (أربعا على كل واحد)، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس؛ فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها، ووصائفها. فقال الحجاج: يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس.»
1
كأنه كره ذلك واستعظمه، ونبا عن ذوقه العربي، وعده فخفخة كاذبة، وأبهة لا يستسيغها، فنفر من ذلك إلى عادات قومه. وكذلك شأنهم في الدواوين، وضروب الحضارة الأخرى. وعلى الجملة فالذوق العربي واضح كل الوضوح في العهد الأموي، والعلاقة بين دمشق ومكة والمدينة، وأعني من الناحية الاجتماعية لا السياسية علاقة متينة، يتفاهمون كل الفهم، ويتذاوقون كل الذوق، والإسلام مفهوم لديهم في بساطته وتقاليده على نحو أحسن مما فهم به في العصر العباسي.
أما العباسيون فلم يكن شأنهم كذلك، لئن كان الأمويون ينقلون إليهم بعض العادات مع صبغها بصبغتهم، فالعباسيون كانوا هم الذي ينتقلون بحذافيرهم إلى العادات الجديدة، والتقاليد الجديدة. خذ لذلك مثلا «النيروز»؛ كان عيدا للفرس قديما، ولم نسمع في العهد الأموي أن كان له شأن ذو بال، ولكن العباسيين اتخذوه عيدا قوميا يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالهدايا والقصائد، ويجلس فيه الخلفاء للتهنئة. وقل مثل ذلك في الأزياء؛ فانتشرت القلنسوة الطويلة، وضروب الأزياء الفارسية، اتخذ القضاة القلانس العظام، واتخذ الخلفاء العمائم على القلانس، وتفننوا في العمامة ونوعوها تبعا للطبقات كما كان يفعل الفرس؛ فللخلفاء عمة، وللفقهاء عمة، وللبغالين عمة، وللأعراب عمة. ولكل قوم زي؛ فللقضاء زي، ولأصحاب القضاء زي، وللشرط زي. وأصحاب السلطان على مراتب، ولكل مرتبة زي؛ فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس «البازيكند». وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات، والأردية السود. وقد كان شاعر في هذا العصر يتزيا بزي الماضين فهجاه بعض الشعراء.
2
والخلفاء الأمويون إذا وهبوا فإنما كانت أكثر جوائزهم الإبل، أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم. أما في دولة بني العباس فجوائزهم كانت أحمال المال، وتخوت الثياب، والخيل بمراكبها.
3
Bilinmeyen sayfa