وإني لأدعو أختي حين أخلو إلى نفسي في النهار وحين أخلو إلى نفسي في الليل فلا تستجيب لي صورتها التي كنت أعرفها في المدينة باسمة مشرقة، ولا تستجيب لي صورتها التي عرفتها في بيت العمدة واجمة هائمة، ولا تستجيب لي صورتها التي كنت أراها مطرقة إلى ينبوعها الأحمر، تطيف بها ظلالها الحمراء.
لا تستجيب لي صورة من هذه الصور، وإنما هي ذكرى غامضة حزينة تلذع القلب أحيانا فتندفع لها بعض الزفرات وقد تنهمر لها بعض العبرات، ثم لا تلبث أن تنجاب كما ينجاب السحاب الرقيق، وإذا أنا أعود إلى حياتي المضيئة الهادئة، الحزينة في غير تكلف لحزن أو سرور.
وأنتقل مع سيدي إلى القاهرة وأقيم معه في دار أبويه موكلة بخدمته لا أكلف شيئا غيرها من أعمال الدار، ولا أجد من أبويه إلا برا وعطفا، وإلا رفقا وحنانا. فأما هو فقد جعل ينظر إلي كلما تقدمت الأيام كما ينظر إلى الصديق لا كما ينظر إلى الخادم، قد اصطفاني لنفسه، واختصني بوده، وجعل يشركني في كثير من أمره.
يالله! إني لأحس شبها بين هذه الحياة التي أحياها مع هذا الشاب في دار أبويه الفخمة بالقاهرة وبين تلك الحياة التي كنت أحياها مع خديجة في بيت أبويها بمدينة من مدن الأقاليم، لقد عاد الأمر بيني وبين هذا الشاب إلى مثل ما كان بيني وبين خديجة من النقاء والطهر، ألم أخلق إلا لأحيا حياة الأصدقاء!
ولكنها صداقة غريبة هذه التي تقوى وتنمو بين هذا الشاب المترف الغني، وهذه الخادم البائسة التي طالما طمعت فيها نفسه الطامحة، وأغرته بها عواطفه الجامحة، والتي طالما اتخذها غرضا لأهوائه الآثمة، وابتغى عندها من اللهو والمجون ما يبتغيه أمثاله من الشباب المترفين عند أمثالها من البائسات الغافلات، فلما لم يظفر منها بشيء حاصرها كما تحاصر القلعة، وحاربها كما يحارب العدو، فلم يستطع أن يقهرها، ولم تستطع أن تقهره، وأقاما معا في شيء من الموادعة لا يستطيع عنها سلوا، ولا تستطيع عنه انصرافا، لا يشير إليها من آماله ومطامعه بقليل أو كثير، ولا تلقاه هي من مقاومتها وامتناعها بقليل أو كثير لأنها لم تعد في حاجة إلى المقاومة أو الامتناع.
أأكذب نفسي أم أصدقها؟ أأصارحها بالحق أم أموه عليها الأمر؟ لقد رضيت حياتنا الجديدة واطمأن إليها قلبي كل الاطمئنان، واغتبطت بها نفسي أشد الاغتباط، وارتاح إليها ضميري هذا المتعب المعذب الذي كان في حاجة إلى أن يرتاح، ولكن أظل قلبي مطمئنا ونفسي مغتبطة وضميري مرتاحا بعد أن مضت علينا الأسابيع والشهور في مدينة القاهرة قريبين بعيدين مؤتلفين مختلفين؟ ألم أشعر شعورا غامضا بأن هذه الهدنة قد طالت وبأن هذه الموادعة قد اتصلت أكثر مما ينبغي أن تتصل؟ ألم أجد في أعماق ضميري شوقا إلى تلك الحرب وجنوحا إلى ذلك الخصام؟ ألم أحس في دخيلة نفسي أن حياء هذا الشاب قد يكون لونا من الصد، وأن احتشامه قد يكون فنا من الإعراض؟ بلى! وجدت هذا كله وأنكرته من نفسي أشد الإنكار ولمتها فيه أعنف اللوم، وما أشك في أنه وجد من نفسه مثل ما كنت أجد، ولام نفسه في مثل ما كنت ألوم نفسي فيه.
وقد زاد هذا الحمل ثقلا على نفسه وعلى نفسي أنه سار منذ انتقل إلى القاهرة سيرته تلك التي ألفها في الأيام الأخيرة من حياته في الأقاليم.
فكان يغدو إلى عمله مصبحا ويروح إلى دار أبويه حين يتقدم النهار فلا يكاد يخرج منها إلا إذا كان الغد، ومع ذلك فأمثاله من الشباب لا يلمون بدورهم إلا ليخرجوا منها، إنما دورهم فنادق يطعمون فيها ويأوون إليها آخر الليل، وفي القاهرة مما يفتن الشباب ويغريهم شيء كثير طالما سمعت أحاديثه قبل أن أبلغ القاهرة وبعد أن أقمت فيها، فما بال هذا الشاب لا تبلغه فتنة ولا يناله إغراء؟ لقد رضي أبواه أول الأمر عن هذه الحياة المستقيمة كل الرضا، وابتهجا بمحضر ابنهما كل الابتهاج، ولكنهما وجدا آخر الأمر أن الفتى قد أسرف على نفسه في لزوم الدار والعكوف على القراءة والانقطاع عن الأندية وما يكون فيها من لقاء الأصدقاء والتعرف إلى الناس، وكثيرا ما رغبته أمه في الخروج فلم يستجب لهذا الترغيب، وكثيرا ما أغراه أبوه بملاعب التمثيل ومجالس الموسيقى وزيارة هذا البيت أو ذاك من بيوت الأصدقاء فلم يستمع لهذا الإغراء، إنما هو الغدو على العمل والرواح إلى الدار، والأوقات ينفقها مع أبويه، ثم الانحياز إلى غرفته والانقطاع إلى كتبه يعكف عليها حتى يتقدم الليل.
وكان في أثناء ذلك ربما دعاني إلى غرفته وأخذ يتحدث إلي ويسمع مني، وكانت المدينة وشئون أهلها موضوع حديثنا في كثير من الأحيان، كما كانت القاهرة وشئونها موضوع حديثنا أحيانا أخرى.
كان يتحدث أو يسمع جالسا إلى مكتبه، وكنت أتحدث أو أسمع واقفة غير بعيدة من مكتبه، وما أكثر ما دعاني إلى الجلوس وما أشد ما كنت أتمنى الجلوس! ولكني كنت أعتذر باسمة؛ فما ينبغي لمثلي أن تجلس إلى مثله وإنما حسب مثلي من مثله الوقوف بين يديه والتحدث إليه والاستماع له، وهذا كثير.
Bilinmeyen sayfa