وما كان أيسر الهرب لو أني رغبت في الهرب أو فكرت فيه، لكني كنت أريد أن أترك الدار جهرة لا سرا، وعلى علم منه لا على جهل. ومن يدري! لعلي لم أكن أحب أن أترك الدار، وإن كان هذا الخاطر لم يعرض لي ظاهرا جليا، وهو يعود مع المساء، وما أكثر ما يعود الآن مع المساء؛ وينفق ليله كله في الدار لا يسمر ولا يلقى أصحابه. ومن يدري! بم كان أصحابه يعللون انقطاعه عن السمر وإيثاره للعزلة، ولكنه يعود اليوم إلى الدار هادئا ظاهر الرضا، ويلقاني كما انصرف عني مبتسما في كآبة، وهو يسألني: أما تزالين هنا وقد فارقتك على ألا ألقاك إذا عدت؟! - أجل! فارقتني على ألا تلقاني، ولكنك أمرت خادمك ألا يخلي بيني وبين الطريق. - ومن زعم لك هذا؟ لقد كذبك الخادم، وما أرى إلا أنه حريص على بقائك، كاره لفراقك؛ ومن يدري! لعلك أنت لا تكرهين البقاء معه والاتصال به فهو الذي سماك لي، وهو الذي أنبأني بمكانك، وهو الذي جاء بك إلى هذه الدار، إني إذن لأحمق؛ لقد خدعني هذا البستاني، ولقد اتخذ داري مسرحا للهوه وهواه، فأنت إذن لا تعرضين عني ولا تمتنعين علي إيثارا للشرف واستبقاء للعفاف، فقد ذهب الشرف منذ زمن بعيد، وضاع العفاف منذ أقبلت أو قبل أن تقبلي على هذه الدار. وفي سبيل من ذهب الشرف؟ وفي سبيل من ضاع العفاف؟ في سبيل هذا البستاني الذي تهوينه، وما أشك في أنه يهواك.
وكان هادئا مطمئنا حين بدأ هذا الحديث، حتى لم أكن أشك أنه كان عابثا متكلفا يلتمس الوسيلة إلى استئناف ما بيننا من الخصام، ولكنه لم يكد يمضي في حديثه حتى أخذ هدوؤه يفارقه شيئا فشيئا، ولم يكد ينتهي إلى غايته حتى كان غضبا كله، وشرا مستطيرا يتمثل إنسانا يتكلم ويتحرك، ذاهبا جائيا متهيئا للبطش لا يكاد يمتنع عنه إلا في جهد شديد.
على أني لقيت عنفه هذا وسخطه كما تعودت أن ألقى كل ما قدم إلي من ألوان العنف واللين، ومن ضروب السخط والرضا، ثابتة مطمئنة، وقلت له في هدوء: لا بأس عليك! خل بيني وبين الطريق، ثم تبين بعد ذلك أتجمعني بالبستاني جامعة، أو تصلني به صلة. فلئن خليت بيني وبين الطريق لآخذن أول قطار، ولولا أن أشق على مولاي وأكلفه ما لا يتكلف السادة للخدم لعرضت عليه أن يضعني في القطار وأن يرسلني إلى أي مدينة شاء، فإني لا أبتغي إلا أن أعيش في حيث آمن على شرفي هذا الذي لم يذهب، وعلى عفافي هذا الذي لم يضع، وإن ظن سيدي بي الظنون.
قال في غيظ يشبه الرضا وفي سخرية تشبه الجد: ما تزالين تذكرين السادة والخدم! فقد علمت منذ حين أن ليس بيننا سيادة ولا خدمة، وإنما بيننا ما هو شر من ذلك وأبعد أثرا.
قلت: وما ذاك؟ قال: هو هذا ... ثم اندفع إلي هاجما كأنه الليث يريد أن يزدرد فريسته ازدرادا، ولكن المرأة لا تغلب إلا إذا أحبت، ولا تقهر إلا إذا أرادت، ولا تذعن إلا إذا رغبت في الإذعان. ومن أجل ذلك ارتد عني كما هجم علي؛ واستؤنف الخصام بيننا كما كان من قبل عنيفا لينا، وملتويا مستقيما، وفيه ما فيه من هذه الألوان التي تفسد حياة العاشقين وتزينها في وقت واحد.
وتتصل الحياة على هذا النحو، لا أجد لنفسي منها مخرجا ولا يجد لنفسه منها مخرجا، وإنما دفع كل منا إلى صاحبه دفعا، ورد كل واحد منا إلى صاحبه ردا، لا يستطيع أن يخرجني من داره، ولو قد أراد ذلك لكرهت أن أخرج من هذه الدار، ولا أستطيع أن أفارقه جهرة ولا خفية، ولو قد فعلت لطلبني حيث أكون من الأرض. فليس عندي شك الآن في أن سيدي لا يشتهيني ولا يبتغي أن يظهر علي وينتصر على خصم عنيد، وإنما هو الحب، هو الحب الذي يطمع في كل شيء ويرضى بأقل شيء، بل يرضى بلا شيء، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتا واحدا يحويه مع من يحب ويهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بهذا القلب الذي يضطرب بين جنبي أنا، فما خطبه؟ أمبغض هو كما كان مبغضا من قبل؟ أراغب هو في الانتقام كما كان راغبا من قبل؟ أحافظ هو لعهد هذه الأخت التي صرعت في ذلك الفضاء العريض، ولعهد الأشباح الحمراء التي تقيم معها على هذا الينبوع الأحمر، والتي قد طال مقامها معها حول هذا الينبوع، وانقطعت زيارتها لهذه الدار فلم تلم بها منذ حين؟
نعم! الشك في هذا القلب الذي يضطرب بين جنبي بعد أن استيقن أن هذا الشاب يحبني ولا يستطيع عني سلوا. ما خطب هذا القلب؟ أمحب هو أم غير مكترث؟ فإن تكن الأولى ففيم المقاومة، وفيم العذاب، وفيم تعذيب الحبيب؟ وإن تكن الثانية ففيم البقاء في هذه الدار، وفيم الصبر على هذه الحياة التي لا تطاق؟
كلا! كلا! فكري يا آمنة، ماذا أقول؟ فكري يا سعاد ... فقد محي اسم آمنة منذ دخلت هذه الدار.
فكري يا سعاد. فقد آن لك أن تفكري، واعزمي أمرك فقد آن لك أن تعزميه، أقيمي كما تقيم العاشقة أو ارتحلي كما ترتحل القالية، فأما هذه الحياة المعلقة فليس لأحد فيها خير وليس لأحد فيها غناء، ولم يبق لك إلى احتمالها سبيل!
الفصل الخامس والعشرون
Bilinmeyen sayfa