وتمثل لي أمورا كثيرا مما كنت أراه في ذلك العهد السعيد القريب، ولكن صوت الطائر العزيز يبلغني فيخرجني من هذا النوم الحلو إلى يقظة مؤلمة لا أكاد أشعر بها حتى أحس غلظ المضجع وخشونة الفراش، وأين يقع هذا الوطاء الخشن من الصوف قد بسط على الأرض الغليظة بسطا، من ذلك الفراش الوثير الموطأ الذي كان يلقى لي غير بعيد من سرير خديجة في تلك الغرفة الجميلة المترفة من بيت المأمور!
لم أكد أحس بخشونة هذا الوطاء، وغلظ هذه الأرض، حتى ذكرت أننا ننام عند مضيفنا العمدة على سطح من سطوح الدار، لا يسترنا سقف وإنما تظللنا السماء، وتكاد تغمرنا ظلمة الليل لولا هذا الشعاع الرقيق الذي كان يترقرق فيها من ضوء القمر، وقد تقدم به الشهر غير قليل.
نعم! وذكرت كيف انتهينا إلى هذه القرية مجهودات مكدودات آخر النهار، نجلس إلى شجرات من التوت ساعة وبعض ساعة نستريح، لا تكاد واحدة منا تتحدث إلى صاحبتيها بشيء، حتى إذا طال علينا الصمت، وشقت علينا الراحة، وثقل علينا التفكير، قالت أمنا: ما أظن أننا نستطيع أن ننفق الليل جالسات إلى هذا الشجر، وما أرى أننا نستطيع أن نجد من يؤوينا أو يضيفنا في هذه القرية التي لا نعرف من أهلها أحدا ولا يعرفنا من أهلها أحد إلا العمدة، فيجب أن يكون بيته مفتوحا لكل غريب طارق بليل أو نهار، ثم نهضت متثاقلة ونهضنا معها، ومضت متباطئة ومضينا معها، حتى انتهت إلى دار العمدة، لم تسأل عنها ولم تستدل عليها، وإنما مضت إليها كأنما كانت تعرفها من قبل، هنالك رأينا جماعة من الناس قد جلسوا أمام الدار على مصطبة عظيمة، وتوسطهم رجل شيخ لا تكاد العين تقع عليه حتى تثق النفس بأنه عمدة القرية، فلما بلغنا مجلس القوم ولحظتنا أبصارهم، تقدمت أمنا إلى الشيخ الوقور وقالت في صوت هادئ متزن: غريبات قد طرقن القرية في هذه الساعة المتأخرة من النهار فآونا يا عمدة حتى يسفر الصبح. قال الرجل: على الرحب والسعة، ثم دعا فأقبل إليه غلام من داخل الدار، قال: خذ هؤلاء النسوة إلى دار الضيافة ومر بإكرام مثواهن.
ومضى الغلام ونحن نتبعه حتى انتهى بنا إلى دار الضيافة، فإذا بناء متواضع قد انبسط أمامه فناء عظيم، فأدخلنا إلى بعض حجراته وقيل لنا أقمن هنا حتى يأتيكن الطعام.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى اتصلنا بمن في الدار من أضياف وخدم، قد اختلط بعضهن ببعض فكأنهن جميعا أصحاب البيت، ثم اتصلت الأحاديث واختلطنا بمن وجدنا، فأمسينا وكأننا منهن.
وكان العشاء الغليظ، وكان السمر المضطرب المختلط، ثم كان التفرق إلى المضاجع، فمنا من آثر الهواء الطلق فاتخذ مضجعه على سطح الدار أو في فنائها، ومنا من أشفق من ذلك فأوى إلى الغرفات والحجرات.
وقد رغبت «هنادي» في السطح وشاركتها في هذه الرغبة ومضينا معا ننتظر النوم، وكنت أحدث نفسي بأن هذه الخلوة إلى أختي قد تكشف لي عن بعض ما يخفى علي من أمر.
ولكني لم أكد أجلس إليها أحاول أن أصل الحديث بينها وبيني حتى لقيتني بذلك الإعراض المثلوج الذي لقيتني به أمس، ثم أشاحت بوجهها ومضت في صمتها، وأقمت أنا إلى جانبها حائرة لا أدري كيف أقول.
ثم استلقيت وأرسلت نفسي في فضاء هذا الليل العريض تلتمس ما يلهيها عن هذه الهموم الغامضة المستغلقة التي لم أكن أعرف منها إلا ثقلها، ولكن هذه النفس لم تكد تمضي في ظلمة الليل حتى أدركها موج من هذا النوم اليسير فأخذت تسبح فيه، ولبثت كذلك حتى أخرجها منه هذا الطائر العزيز.
ذكرت هذا كله حين استيقظت، ومرت بي خواطره مسرعة في حين كنت أحاول أن أتبين أين أنا وكيف انتهيت إلى حيث أنا، وفي حين كنت أفتح عيني وأديرهما من حولي كأنما أريد أن أستكمل شخصي حين أتبين حقيقة المكان الذي أنا فيه، وفي حين كنت أمد ذراعي عن يمين وشمال، وأمد ساقي كأنما أريد أن أستمد لجسمي ما أفقده هذا النوم اليسير من نشاط، وكأنما كنت أمحو عنه ما تركت فيه هذه الأرض الغليظة من ألم.
Bilinmeyen sayfa