لقد بعد صوت الكروان قليلا قليلا حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، واطمأن من حولي كل شيء، فما أسمع إلا هذه الدقات المنتظمة تصدر عن الساعة غير بعيد، وهذه الدقات المضطربة المختلفة تصدر عن هذا القلب الحزين ... وأنا آخذ نفسي بالهدوء لألائم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأنا أنظر إلى هذه الأشياء حولي في الغرفة فأرى ثراء ويسرا، وأرى ترفا وكلفا بالجمال والفن، وأنا أمد عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينا فتعود إلي بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنها لا تخلو من رواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحس شيئا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإني لأرى صورتي مرات ومرات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون!
لقد رأيت صورتي اليوم في غير عين من هذه العيون التي كانت ترمقني مسرعة، ثم تعود إلي مرة أخرى فتثبت في وجهي لا تكاد تنصرف عنه، وكنت كلما رأيت صورتي في هذه العيون يحيط بها الإعجاب والرغبة والشهوات الآثمة لا أنكر ما أرى، ولا أكره ما أجد من الشعور، ولا أرد نفسي عن هذا الغرور الذي يثيره في المرأة إعجاب الناس بها وتهالكهم عليها.
ثم أنا أنهض من مجلسي، وأمشي في غرفتي لحظة غير قصيرة، أذهب فيها وأجيء، وأقف عند ما يملأ هذه الغرفة من أدوات الترف والنعمة، فأطيل النظر إليه لا معجبة ولا مكبرة له، وإنما أسأل نفسي: أأنا صاحبة هذا كله؟ أأنا المالكة لهذا كله؟ أأنا صاحبة هذه الصورة التي تردها إلي المرآة، والتي كانت ترمقها العيون معجبة حين كنت أتناول الشاي في بعض مشاربه عصر اليوم؟!
ثم أنا أفكر غير طويل فإذا أنا أستطيع، وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، أن أمد يدي إلى زر كهربائي قريب، فلا أكاد أمسه حتى يطرق الباب، ولا أكاد أرفع صوتي بالإذن حتى تدخل علي خادم وضيئة، حسنة الشكل، جميلة الزي، ساهرة مهما يتقدم الليل لأني ما زلت ساهرة، ولأنها لا تستطيع أن تأوي إلى مضجعها حتى آذن لها بالنوم.
ثم أنا أمضي إلى هذه النافذة، فلا أكاد أفتحها حتى تمتلئ نفسي روعة وجلالا لهذه الأشجار النائمة، وهذه الأزهار المتأرجة، وهذه الأطيار التي تحلم في ثنايا الغصون، وكل هذا لي ملك خالص لا يشاركني فيه أحد، ولا يزاحمني عليه أحد، أستطيع أن أعبث به إن شئت، ومتى شئت، وكيف شئت، لا يسألني أحد عما أفعل!
فإذا اجتمعت في نفسي صور هذا النعيم كله أحسست راحة وأمنا وثقة، ثم لا ألبث أن أحس شيئا من الكبرياء الغريبة؛ لأني لا ألبث أن أرى صورتي منذ أكثر من عشرين عاما حين كنت صبية بائسة يائسة، قد شوه البؤس واليأس شكلها وألقيا على وجهها غشاء كئيبا من الدمامة والقبح، لا ألبث أن أجد هذا الحزن اللاذع العميق حين أذكر هذه المأساة التي كنت أتحدث بها منذ حين إلى هذا الطائر العزيز، والتي كان يتحدث بها منذ حين إلي هذا الطائر العزيز.
إن في أحداث الحياة وخطوبها لعظات وعبرا! إني لأتحدث الآن إلى نفسي حديثا ما كان يمكن ولا ينتظر أن تتحدث به إلى نفسها تلك الفتاة التي كان الناس يسمونها آمنة، والتي تسمى الآن سعاد لأنه اسم جميل يلائم المألوف من حسن الاختيار والتظرف في الأسماء.
لقد كانت آمنة تلك فتاة بدوية، انحدرت بها وبأختها امرأة من أهل البادية، أو من أهل هذا الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبث في أطراف الأرض الخصبة مما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي.
كانت زهرة أم آمنة وأختها هنادي امرأة بدوية ريفية، تقيم في قرية من هذه القرى المعلقة بهذه الهضاب، والتي لا يستقر أهلها فيها إلا ريثما يزيلهم عنها فوج من أفواج الأعراب الذين يقبلون من الصحراء ليتعلموا الاستقرار في الأرض، والحياة في أطراف الريف، ثم يدفعهم فوج آخر فإذا هم يمضون أمامهم مضيا بطيئا، ينتقلون في أناة ومهل من مكان إلى مكان، وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائما حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدي، وإذا هم على شاطئ القناة التي يسمونها البحر، ويزعمون أن يوسف هو الذي احتفرها في الزمن القديم، فإذا أتيح لهم أن يعبروا البحر، فقليل منهم يحتفظ ببداوته، وأكثرهم يفنى في طبقات الزراع ويضيع في عداد الفلاحين.
كانت زهرة أم هاتين الفتاتين تعيش مع زوجها الأعرابي وابنتيها في قرية من هذه القرى، قد اتخذت اسمها في أكبر الظن من بطن من بطون الأعراب أو قبيلة من قبائلهم؛ فقد كانت تسمى «بني وركان» وكان أهل القرية ومن حولها يميلون الألف قليلا ويذهبون بها نحو الياء، فما أسرع ما أصبح سبة وعارا يعاب به أهل القرية، وكيف لا وقد أصبح اسمها «بين الوركين» وما أسرع ما أصبح أهل القرية يستحيون من اسم قريتهم ويكرهون الانتساب إليها، ولا سيما حين كانت تدفعهم حاجة البيع والشراء إلى أن يهبطوا المدن، فقد كان اسم قريتهم لا يذكر إلا أضحك الناس وأجرى على ألسنتهم مزاحا كثيرا ثقيلا، محفظا لنفس البدوي الذي لم يتعود دعابة القرويين وأهل الحضر.
Bilinmeyen sayfa