Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Türler
وجاء القرن التاسع عشر وقد تقرر هذا المعنى في النفوس، فلم يجرؤ أحد أن يشكك الناس فيه، بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل، مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم، لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود، بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم، وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء. (1) أوجست كونت والأدوار الثلاثة
هذه هي نظرية «أوجست كونت»، فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى أن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة:
Loi des troisages
دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور الثالث في نظره هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو بقوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية ... إلخ.
ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها. وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها؛ فلما كبرت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها؛ حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها، أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية.
1 (1-1) مناقشة هذه النظرية
نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري هي أن أنصاره جعلوا منه قانونا يستوعب التاريخ كله في شرط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت - أو كادت تنفض - يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه.
ولو أنهم جعلوا منه سلسلة دورية، كلما ختمت شوطا رجعت عودا على بدء، لكان الخطأ في هذه النظرية أقل شناعة، ولكنها بعد ذلك تظل دعوى غير مسلمة، لا لأنها مجردة عن البرهان فحسب، بل لأنها تحرف التاريخ وتصادم العيان، فنحن ما زلنا نسمع ونرى في كل عصر تقديسا للروحانيات، وشغفا بالمعنويات والمعقولات الكلية عند فريق من الناس، إلى جانب الكلف بالحوادث والحقائق الجزئية عند فريق آخر، وليس الحد الذي يفصل بين المعسكرين هو جهل أحدهما بالتجارب الكونية وخبرة الآخر بها؛ إذ كثيرا ما نجد من بين الجهلاء جاحدين متعصبين، كما نجد من بين علماء المادة مؤمنين متحمسين، وها نحن أولاء، في القرن العشرين، وفي قلب الحضارة الأوروبية، نرى إلى جانب البحوث المادية المتشعبة، دراسات روحية واسعة، تقوم بها جماعات محترمة من كبار علماء
2
الطب والفلسفة والطبيعة، على منهاج علمي دقيق، وبأسلوب برهاني يعتمد على التحليل والنقد الصارم، الذي ينحي عن الوقائع كل ما عساه أن يعلق بها من تزوير وخداع، وكل ما يحوم حولها من وهم وتسرع في الحكم، ولا يقبل منها إلا ما يؤيده اليقين ، وما ينتهي إليه البحث الدقيق الرزين.
Bilinmeyen sayfa