Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Türler
3
هذه النظرة الساخرة إلى الأديان والقوانين ليست مبتكرة، وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم، كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات، فقديما زعم هؤلاء السوفسطائية «أن الإنسان كان في أول نشأته يعيش بغير رادع عن قانون ولا وازع من خلق، وأنه كان لا يخضع إلا إلى القوة الباطشة ... ثم كان أن وضعت القوانين، فاختفت المظاهر العلنية من هذه الفوضى البدائية، ولكن الجرائم السرية ما برحت سائدة منتشرة، فهنالك فكر بعض العباقرة في إقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وتهيمن بحكمتها على كل شيء ...»
4
وهكذا لم تكن القوانين والديانات في تصويرهم إلا ضروبا من السياسة الماهرة التي تهدف إلى علاج أمراض المجتمع بكل حيلة ووسيلة.
ولقد أعان على بعث هذه الآراء وترويجها في أوروبا الحديثة سببان: أحدهما الانحلال الخلقي عند نفر من رجال الكنيسة، والثاني ظلم القوانين الوضعية، وسوء توزيع الثروة العامة، فكان من السهل أن يظن الناس أن الدين والقانون كانا كذلك في كل زمان ومكان. (1-1) انهيار هذه النظرية في العصر نفسه
على أنه لم ينقض القرن الثامن عشر نفسه حتى ظهر خطأ هذه المزاعم؛ حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوروبا، واكتشفت العوائد والعقائد والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية، وهكذا ظهر أنها أقدم في المجتمعات من كل حضارة مادية، وأنها لم تقم على خداع الرؤساء وتضليل الدهاة، ولم ترتكز على أسباب طارئة أو ظروف خاصة، بل كانت تعبر عن نزعة أصيلة مشتركة بين الناس.
واعلم أن عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها؛ فإنه لا تخلو أمة من وجود «ذاهلين» قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعباؤها، إلى حد أنهم لا يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يمكنهم من رفع رءوسهم للنظر في تلك الحقائق العليا؛ كما لا تخلو أمة من «منكرين ساخرين» يحسبون الحياة لهوا ولعبا، ويتخذون الدين وهما وخرافة، لكن هؤلاء دائما هم الأقلون في كل أمة، وهم - في الغالب - من المترفين الذين لم يصادفهم من عبر الحياة وأزماتها ما يشعر نفوسهم معنى الخضوع والتواضع، وما ينبه عقولهم إلى التفكير في بدايتهم ونهايتهم، وهذا الاستثناء من القاعدة لا ينفي كمون الغريزة الدينية بصفة عامة في طبيعة النفس الإنسانية، كما أن غريزة بقاء النوع لا يمنع من عمومها أن بعض الناس لا يتزوجون ولا ينسلون. (1-2) لم توجد أمة بغير دين
ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجاوبا مصنوعا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان. (1-3) شهادة العلماء
يقول معجم «لاروس» للقرن العشرين: «إن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية ... وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية.»
5
Bilinmeyen sayfa