وبعد المسير نحو ساعة وصل الصديقان إلى مدينة المال، فدخلا إليها بلهفة وشوق ليروا داخلها.
وكانت هذه المدينة أكبر المدن الثلاث وأوسعها، وكانت ممتازة عن المدينتين الأخريين بقصورها الشاهقة ودورها الباذخة وجنائنها المحيطة بمنازلها، فلما أخذ حليم ورفيقه يجولان في أسواقها وشوارعها لم يكونا يسمعان إلا نداء الباعة وأصوات التجار ورنين المال يدفع أو يقبض ودوي أصوات البضائع تحمل أو تنزل، ونظر حليم إلى أهلها نظر منتقد فرآهم بأجسام سمينة وعيون هائمة لا تستقر في مكان لألفتها النشاط والحدة والتفتيش، وثياب نظيفة مرتبة تدل على سعتهم، فخيل له أنه بين قوم سعداء بمالهم أقوياء بنشاطهم وجدهم، لكنه كان من الذين لا يكتفون بظواهر الأشياء للحكم عليها حكما سديدا، فقال في نفسه سنرى النتيجة بعد زيارة المدينتين الأخريين.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن حليما كان يفتش بعينيه كثيرا عن فتاته لعله يلمحها في نافذة مفتوحة أو شرفة أو حديقة، ولكن تعبه ذهب بلا جدوى، فإنه كان يرى في النوافذ والشرفات والحدائق والطرق كثيرات من الحسان وكلهن كأنهن أقمار فوق أغصان بان، إلا أنه لم يقف على أثر لحسنائه، فكان كلما رأى حسناء وظنها إياها ثم ظهرت له خيبة ظنه يردد قول الشاعر:
أليس عجيبا أن نكون ببلدة
كلانا بها ثاو ولا نتكلم
وبعد أن جال حليم وصديقه في مدينة المال ساعتين خرجا منها إلى مدينة العلم، فمرا في طريقهما إليها بالحديقة العظيمة الواقعة بين هذه المدن الثلاث وهي ملتقى أهلها ومجمعهم ومتنزههم، فشاهد فيها حليم ورفيقه رهبانا وقسسا وشيوخا وأئمة ورجالا وشبانا يحملون بأيديهم كتبا وصحفا وهم تارة يقرأون فيها وطورا يتأملون وآونة يتذاكرون، فقال حليم لرفيقه هذه طلائع مدينتي العلم والدين، ثم مرا قاصدين مدينة العلم دون أن ينتبه إليهما المقيمون في الحديقة.
ولما وصل حليم ورفيقه إلى مدينة العلم وجدا السكون والهدوء مخيمين عليها حتى إنك لتسمع حين مرورك في الشوارع طنين الذباب في طيرانها، وكانت منازلها صغيرة حقيرة وشوارعها ضيقة، فارتاحت نفس حليم لما وجده من الهدوء فيها وقال: أين نحن من جلبة تلك المدينة. غير أن البياض إذا اشتد صار برصا، ولذلك لم يوغل حليم في المدينة حتى صار ذلك الهدوء التام ثقيلا على نفسه، فإنه لم يكن يسمع حركة ولا يرى شخصا في الشارع ولا يلمح يدا ولا وجها في النافذة، فكان كأنه في مقبرة أو مدينة أموات لا أحياء، إلا أنه كان أحيانا في مروره ببعض المنازل يرى شابا مستلقيا على سريره وكتابه في يده، أو رجلا يروح ويجيء في غرفته وهو يفكر ويتأمل كأنه متجرد عن هذا العالم، أو قارئا كتابه في يده ولكن فكره يسبح بعيدا في الفضاء الأبدي.
ولو لم يكن حليم ممن ألف هذه الحالات وأحبها لداخلته خشية منها وعراه نفور عنها، لأن هذا الهدوء هدوء الأموات، وذلك الانقباض البادي في وجوه النفر الذي رآه لمما يبعث في النفس شعورا رهيبا لمعرفتها أن ما يقع في ذلك الحين في وسط ذلك الهدوء الشديد مع ذلك الانقباض الأليم يجب أن يكون أمرا رهيبا خطيرا تقف عنده النفوس رهبة وإجلالا، والنفس غير مخطئة في شعورها هذا لأن ذلك الأمر هو عبارة عن عراك ونضال بين الأرض والسماء، والمعلوم والمجهول، والمادة والروح، والمحدود وما لا حد له، ذلك أن الإنسان الترابي القاصر الضعيف يطلب الوصول بفكره إلى الذي لا يصل إليه فكر، والعقل المحدود يروم الاستيلاء على العقل الذي لا حد له.
وبعد ساعتين خرج حليم ورفيقه من مدينة العلم وقصدا مدينة الدين، وكان حليم يمشي وفكره مشغول للعواطف التي قامت في نفسه حين مروره في مدينة العلم، فهناك تجددت هواجسه كلها وبلغ اضطرابه معظمه، هناك كان ينتظر أن يرى العلم ضاحكا باشا لأنه وجد ضالته فإذا به يراه كما عهده منقبضا مظلما يطلب ويفتش عبثا، فانقبض صدر حليم ونسي في هذه الدقيقة حسناءه نسيانا حقيقيا، ومن هنا تقدر أن تستدل على أخلاق هذا الشاب استدلالا مهما وتعرف السبب الذي جاء من أجله إلى هذه البلاد، فإن الناس يضعون عادة حبهم فوق كل أمر، وقد وضعه الملوك مرات كثيرة فوق تيجانهم وعروشهم، أما حليم فلم يكن يعرف أحب إليه من أن يعرف.
1
Bilinmeyen sayfa