هذه ثمار أعمالهم أيها السادة، ومن ثمارهم تعرفونهم، فلا يفتخروا بعد الآن بأنهم حفظة «النظام المطلق» مع أنهم مضعضعوه، إن النظام يقتضي قبل كل شيء «إنكار الذات» أي أن يتنازل الإنسان عن شيء من حقوقه في سبيل المصلحة العمومية إكراما للذين يخدمون وينفعون، فالرؤساء والحكام والأغنياء والكبراء يتفانون في الخدمة العمومية ونفع الأمة، ولذلك يجب على أفراد الأمة أن ينكروا ذواتهم قليلا ويتركوا لهم شيئا من حقوقهم في مقابلة متاعبهم ومسئوليتهم، ولذلك تكون المساواة المطلوبة بين هؤلاء وأفراد الأمة عبارة عن وهم وخيال، أما المساواة الممكنة الحقيقية أيها السادة فهي تكون في السماء لدى الله لا في الأرض بين الناس.
وهنا فرغ الخطيب من خطابه وجلس وهو يمسح العرق عن جبينه، ويظهر أن الغيظ الذي كان في أثناء كلامه يجيش في صدور العمال والغلاة من أنصارهم قد طفح حين سكوت الخطيب، فهاجوا وماجو وصرخوا صرخة واحدة قائلين: «فليسقط الظالمون»، وصاح أحدهم: «قلت إن المساواة وهم وخيال فالوهم معتقدك والخيال في دماغك أما المساواة فسنحققها أو نموت»، وصاح آخر: «إن قولك وهم وخيال ينقض كل الأديان ولكن لا يهمكم دينكم ما دامت مصلحتكم مصونة»، فرد عليهم حينئذ فريق من رجال المال ورجال الدين، وعلت الضوضاء واحتدم الجدال وتماسك فريق منهم بعضهم ببعض وتضاربوا فعمت الفتنة الحديقة كلها واضطرت الجنود إلى المداخلة حفظا للأمن، ولكن الجنود لم تتمكن من ذلك إلا بشق النفس لعظم الاضطراب، ثم انجلت الفتنة عن جريحين حملا إلى المستشفى بحالة النزع، وأخرجت الجنود الناس من الحديقة وفرقتهم في المدن الثلاث لأن التحمس كان شديدا.
الفصل الثامن
الجلسة الثالثة
الدين ومشاكله
وفي اليوم التالي انتبه السكان على أصوات جلبة العمال واجتماعهم في الشوارع والأسواق أفواجا لاعتصابهم وتركهم العمل بتاتا في ذلك اليوم، فتفاقم الخطب وازداد الاضطراب، لكن لما بلغ العمال أن شيخ أهل العلم سيخطب في تلك الليلة ردا على خصومهم خمدت قليلا نار حدتهم، ولما أمسى المساء غصت الحديقة بالناس حتى لم يبق فيها مكان لموضع قدم، وكانت جميع الأبصار حائمة على صفوف أهل العلم لتشاهد شيخهم الكبير الذي كان لا يخرج من خلوته في مدينة العلم، ولا يحضر المجتمعات العمومية ليبدي رأيه فيها إلا في أشد الأوقات، وبينا هم يتطاولون نحو صفوف العلم انفرد من هذه الصفوف شيخ مهيب جليل كلل الشيب رأسه وهو يناهز السبعين، فجلس على كرسي منفرد كان موضوعا على دكة، وابتدأ خطبته والناس سكوت كأن على رءوسهم الطير، وكان حليم جالسا مع رفيقه في الزاوية التي تقدم ذكرها قريبا من شيخ العلماء والشيخ الرئيس، وقد صار شديد الاهتمام بما عليه أهل هذه المدن من الاختلاف بعدما سمعه في الليلتين السابقتين.
أما شيخ العلماء فإنه أنشأ يقول:
خطبة شيخ العلماء
أيها الإخوان:
قرأت اليوم في الجرائد خطبة أخينا المدافع عن الدين الحامل على العلم حملة منكرة، فخيل لي وأنا أقرأها أنني في مشهد صراع وأن الخطيب مصارع يطلب إعدام خصمه لا إقناعه، فذكرت حينئذ مشهدا كهذا المشهد فيه فكاهة وعبرة معا، فإنني كنت أسمع مرة أحد المتحمسين في الدين يدعو إلى دينه، فكان يتكلم بصوت كالرعد القاصف ويخبط الهواء بيديه خبطا متواليا ويرفس الأرض بقدميه رفسا شديدا وينادي ملء فيه: إن البشر لا يستغنون عن الدين، إن دينه خير الأديان كما ورد في كتابه، ثم أردف ذلك بأقوال عن العلة والمعلول والفاعل والمفعول والواجب والممكن وغيرها، فلبثت في مكاني مبهوتا وأنا أقول: إن هذا الرجل يطلب أن يدلنا على طريق السماء ومع ذلك فإنه يغطي وجهها بالغبار الذي تثيره حدته، وبالسحب المتراكمة من أقواله الجافة الغامضة التي لا يفهم سامعوه لها معنى، والتفت لأرى حالة سامعيه، فأبصرت في زاوية أمامي فتاة جاثية على بلاط الأرض ووجهها لاصق بالثرى، وهي تصلي ولا تسمع شيئا من كلام ذلك المتحمس، فثارت نفسي لهذا المشهد وقلت إن هذه الفتاة بلطفها وهدوئها وسكوتها تعرف طريق السماء وتؤثر في الإرشاد إليها أكثر من ذلك الواعظ البليغ الفصيح.
Bilinmeyen sayfa