İnsan Dini
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Türler
11
أما من موقع تل المريبط على الفرات الأوسط، فإن عبادة الجماجم تعلن عن نفسها لأول مرة بكل قوة ووضوح؛ فأجسام الموتى كانت مدفونة تحت أرضيات المساكن، بينما فصلت جماجمها ووزعت ضمن المسكن على امتداد الجدران، وكل جمجمة ترتكز على قاعدة طينية خاصة بها، وذلك كنوع من الأثاث الجنائزي المعروض باستمرار أمام الأنظار.
12
جماجم مشكلة الملامح من تل الرماد.
وفي مستويات النيوليت الفخاري بأريحا، لم يكتف الإنسان النيوليتي هنا بعرض جماجم الموتى بشكلها الخام الطبيعي، بل لقد عمد إلى إعادة تشكيل ملامح أصحابها، بحيث تغدو الجمجمة المعروضة وكأنها صورة شخصية (بورتريه) للسلف المبجل، واستخدم في عملية التشكيل عجينة من كلس وطين، وملئت محاجر العيون بأصداف تعطي شكل البؤبؤ، ثم طلي الوجه بلون يماثل لون البشرة الإنسانية، وتم حشو الجمجمة من الداخل بالطين المدكوك لأجل تقويتها. وينبي تشكيل الملامح عن حرفة فنية عالية ورهافة لا يتوقعها الكثيرون من إنسان ذلك العصر. وقد وجدت هذه الجماجم معروضة ضمن البيوت في مجموعات مؤلفة من خمس أو اثنتين وأحيانا واحدة. تستمر شعيرة الجماجم هذه في موقع أريحا خلال عصورها اللاحقة، إلا أن الصنعة الفنية تميل تدريجيا نحو التنميط، وتبتعد عن رصد الملامح الفردية المتنوعة، كما يتم تشكيل الجمجمة باعتبارها جزءا من تمثال نصفي أو ربما بالحجم الطبيعي؛ لأن ما تم تجميعه من كسرات هذه التماثيل لم يكف لإعادة بناء هيئة كاملة.
13
جماجم مشكلة الملامح من أريحا.
ويقدم لنا موقع تل الرماد قرب دمشق، في سوية الألف السابع، دلائل على شعائر مشابهة لشعائر أريحا، إلا أن تقنيات تشكيل الجماجم هنا لم تصل إلى المستوى الرفيع لتقنيات أريحا. وقد وجدت الجماجم المشكلة الوجوه باللدائن نفسها في مجموعات ضمن البيوت، وإلى جانبها قواعد طينية بارتفاع عشرين سنتم على هيئة جذع، كانت تستخدم كقواعد لعرض الجماجم. كما وجدت في الفترة نفسها في شتال حيوك بجنوب الأناضول جماجم على أرضيات أو مصاطب الهياكل (انظر التشكيلات الجدارية في الفصل الثالث). ورغم أن هذه الجماجم لم تكن مشكلة الملامح مثل جماجم تل الرماد، إلا أنها كانت جزءا من أثاث جنائزي معروض باستمرار. وهناك أمثلة أخرى متفرقة على شعائر الجماجم من مواقع أخرى في سوريا وفلسطين، إلا أن ما يلفت النظر في بعض الحالات هو العثور على مقابر تضم هياكل بلا رءوس، وعدم العثور على رءوسها في أي مكان من الموقع؛ الأمر الذي يدل على أن السكان ربما حملوا جماجم أسلافهم عندما هجروا المكان.
14
وهكذا تثبت المعلومات الأكيدة المستمدة من علم آثار ما قبل التاريخ، أن عبادة الأسلاف لم تنشأ عند جذور الدين كما قال سبنسر وأتباع المدرسة الأرواحية، بل بعد مائة أو مائتي ألف عام من ظهور الشواهد على حياة دينية منظمة لدى الإنسان الأول؛ ذلك أن عقيدة الجماجم، وهي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، لا تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلا في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينية منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعية. فهذه العقيدة التي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى، وتعايشت معها دون أن تحل محلها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت الناس الذين تعبدوا للقوة السارية من خلال رءوس الثيران المعروضة على المناصب الطينية. وفي شتال حيوك توضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل التي أقيمت أصلا لرءوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا ترصف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنية للناس الذين بنوا هياكل دينية أقاموا فيها الطقوس للتواصل مع القوة الكونية الوحيدة التي عرفها الإنسان في ذلك العصر؛ قوة المجال القدسي.
Bilinmeyen sayfa