İnsan Dini
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Türler
إن ما أريد قوله في التعقيب على أطروحات الاتجاه العقلاني في نشوء الدين، هو أننا إذا قبلنا جدلا كل ما جاءت به النظرية الأرواحية والنظرية الطبيعانية، فقد نقبله كتفسير لنشوء فكرة الآلهة في تاريخ الدين، لا لتفسير نشوء الدين في حد ذاته؛ لأن الدين كان أسبق بكثير من المرحلة التي ظهرت فيها الآلهة في الحياة الدينية للإنسان، كما أوضحنا بكل جلاء عبر الفصول السابقة من هذا الكتاب. كما أريد أن أضيف إلى هذه الملاحظة عددا من الملاحظات الأخرى الصائبة التي أثارها إميل دوركهايم في نقده للاتجاه العقلاني.
يرى دوركهايم أن المدرسة الطبيعانية قد أقامت حججها انطلاقا من نقدها للمدرسة الأرواحية التي تنشئ الدين على أساس من التهويمات التي تتخذ من الأحلام والأرواح منطلقا لها، فادعى الطبيعانيون أنهم إنما ينشئون الدين على أساس من الخبرة المحسوسة. غير أن الطبيعانية في واقع الأمر لا تختلف عن الأرواحية من حيث النتيجة؛ لأنها تختصر الدين في النهاية إلى نظام من التهيؤات القائمة على شبكة من المجازات التي تفتقر إلى القيمة الموضوعية. فهنا لا تحتك الأفكار الدينية بالواقع إلا لكي تحجبه سريعا بغطاء يخفي حقيقته، والإنسان لا يعيش من خلال منظوره الديني للوجود إلا في عالم مسكون بكائنات لا تمتلك إلا وجودا شفويا معلقا في فراغ الوهم. فإذا أتينا إلى الركن الذي تقوم عليه النظرية الطبيعانية، وهو إحساس الإنسان بالروع والدهشة أمام مظاهر الطبيعة وحركة عناصرها، لوجدنا أننا هنا أمام افتراض يطرح كبدهية لم تخضع للنقد حتى الآن؛ ذلك أن الطبيعة تظهر لنا نظاما روتينيا متكررا أكثر مما تظهر إعجازا، والمنتظم المتكرر لا يمكن أن يترك في النفس أثرا عاطفيا كبيرا، فالشمس تشرق كل يوم وتغيب، والقمر يسير في كل شهر عبر الأطوار نفسها، والأنهار تجري في أحواضها دون انقطاع. قد يخسف القمر أحيانا وقد تكسف الشمس، وقد تفيض الأنهار أو تعصف الرياح، إلا أن هذه الانقطاعات في مسار الطبيعة الروتيني لا تترك إلا انطباعات مؤقتة ما تلبث أن تزول، ولا يمكن لهذه المفاجآت الطبيعية أن تكون أساسا لهذا النظام الدائم من المعتقدات والممارسات مما ندعوه دينا. وفوق هذا وذاك، فإن مفهوم الطبيعة الطاغية هو مفهوم حديث نسبيا؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يشعر بأن قوى الطبيعة أكثر من قواه الذاتية، بل كان يعتقد بقدرته على التدخل في مسار العمليات الطبيعانية بواسطة طقوسه السحرية؛ فهو يأمر الرياح ويتحكم بماء المطر ويحفظ حركة الأجرام السماوية. إنه لم يشعر قط بضآلته أمام جبروت الطبيعة، فكيف يمكن لما يقع تحت سيطرتنا أن يثير فينا الروع الذي يولد الحس الديني؟
3
لقد وجد العقلانيون في الدين نظاما من الأفكار، ينطلق من واقعة بيولوجية مثل الأحلام عند الأرواحيين، أو واقعة طبيعية مثل ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة المؤثرة عند الطبيعانيين. وهم يؤكدون على أن فكرة الألوهة تنشأ في الذهن نتيجة التأمل في موضوع ما، ومحاولة الإجابة على تساؤلات تدور حوله. غير أن المؤمن عندما يصف لنا حقيقة إحساسه الديني، لا نجد في وصفه موقفا فكريا عقلانيا من أي نوع؛ فالخبرة الدينية لا تعمل على زيادة معارفه ومعلوماته بخصوص موضوعات معينة يجهلها الآخرون، بل تجعل منه إنسانا متكاملا مع نفسه، ومع كل ما يحيط به؛ أي إن التفكير لا يخلق الخبرة الدينية في النفس الإنسانية ولا يزرع فكرة الألوهة فيها، بل يأتي لاحقا لهذه الخبرة التي تداهم الإنسان وتستولي عليه دون تفكير مسبق. والتأمل لا يسبق الإحساس بالألوهة، بل ينطلق من هذا الإحساس نفسه ويستهدف التعامل معه بما هو كذلك.
إن الملاحظات النقدية التي سقتها أعلاه، ليست موجهة فقط إلى المدرستين الأرواحية والطبيعانية، بل إلى كل رأي يعزو نشأة الدين إلى موقف عقلاني تفكيري من الحياة والوجود. ولم يكن اختيارنا للمدرستين المذكورتين إلا باعتبارهما المؤسستين لهذا الاتجاه في العصر الحديث وأقوى المعبرين عنه. وسننتقل الآن إلى نقد النظرية العاطفية في نشوء الدين، وهي التي ترى في الدين انعكاسا للعواطف الإنسانية لا استجابة لتأملات ذهنية.
يمكن تلخيص العواطف، التي يرى أهل الاتجاه العاطفي وجودها وراء الدين، إلى عاطفتين أساسيتين عند البشر، هما: الخوف والطمع. وبما أن منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإن هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين؛ واحد مادي وآخر روحاني. فإذا كان الموت لا بد مدرك كيانه المادي، كما تعلمنا الخبرة اليومية، فإن الكيان الروحاني سوف يجتاز واقعة الموت، ويترك سكنه المؤقت الذي آل إلى التلف إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبدية. وبما أننا نواجه فكرة الروح هذه، إلا ما ندر، في كل ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا، كما نواجه في كل منها تصورا ما لحالة الروح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصل أهل النظرية العاطفية إلى القول بأن الحس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأن مفهوم الألوهة لم يترسخ إلا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصا وبقاء أبديا.
فإلى أي حد تفلح هذه النظرية، وما أكثر أتباعها، في تقديم تفسير يتوافق مع ما نعرفه عن تاريخ الأديان ومعتقداتها؟
في مجال العلوم الطبيعية، تقوم نظرية ما من أجل تفسير عدد من الظواهر المتكررة والمتشابهة. وتبقى هذه النظرية مجدية حتى يثبت لنا عدم مقدرتها على تفسير بعض الظواهر الداخلة في مجالها، أو حتى ظاهرة واحدة مفردة فقط؛ ذلك أن أهم ما يجب أن تتصف به الظواهر التي تفسرها النظرية هو تماثلها وتكرارها، وصمودها أمام التغير باختلاف المكان والزمان. فقانون الثقالة (الجاذبية) سوف يفقد قدرته على تفسير حركة الأجسام، إذا اكتشفنا جسما يسير بأسرع من الضوء. كما أننا سوف نضطر إلى إعادة النظر في كل قوانين الحركة (= الميكانيك) إذا خرقت كرة القدم في ملعب ما أحد القوانين الرئيسية في الحركة، ولم ترتد عن عارضة المرمى بعد اصطدامها بها. ولعل الأمر لا يختلف كثيرا في مجال العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بخصوص صلاحية نظرية ما أو بطلانها؛ فالنظرية مطالبة هنا أيضا بتقديم تفسير لجميع الظواهر التي تصدت لتفسيرها، لا لبعضها. وبما أن معطيات تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، ومعطيات الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، تزودنا بأكثر من مثال على معتقدات دينية، من بدائية وغيرها، لا نجد فيها أثرا لفكرة خلود الروح الفردية، ولا لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرية العاطفية في تفسير نشوء الدين، أي نظرية الخوف من الموت والطمع في الخلود، تهتز أركانها أمامنا. ولسوف أعمد فيما يلي إلى تقديم البرهان على أن الخوف والطمع لا يكمنان عند جذور الدين، وذلك من خلال عرض عدد من الأمثلة الموثقة توثيقا جيدا، ومختارة من تاريخ الدين ومن ملفات الأنتروبولوجيا الميدانية.
يعطينا معتقد الإنسان الأسترالي في تناسخ الأرواح فكرة واضحة عن نظرته إلى مسألة النفس وخلود الروح. ومعتقد التناسخ الأسترالي، كما أوضحنا سابقا، لا يشبه أي معتقد آخر في التناسخ؛ ففي بداية الزمان عاش على الأرض فريق من الناس، هم الأسلاف الأسطوريون الذين رحلوا بعد أعمار مديدة إلى باطن الأرض، ولكن أرواحهم بقيت خالدة تتجدد في كل جيل. وهم يدعون هؤلاء الأسلاف بأكثر من اسم وصفة، وكلها تؤدي معنى «الأسلاف غير المخلوقين»، وهؤلاء مسئولون، كما رأينا، عن تناسل الناس؛ ففي تجوال أرواحهم خارج مقرها، تجسد نفسها في أجسام؛ وبذلك يجسد السلف نفسه في أكثر من مولود، ويعيش عددا من الحيوات في آن واحد، مع احتفاظه بنواته التي تبقى خارج سلسلة التجسدات. من هنا يمكن القول بأن الأسترالي لم يؤمن قط بالروح الفردية؛ لأن روحه ليست إلا شذرة من كل، وإلى هذا الكل تعود بعد الموت. أما شخصية صاحبها المؤقت، فلا تتمتع بالخلود في حياة قادمة أخرى، وهي آيلة حتما إلى الفناء مع فناء شقها المادي. ومع ذلك، فقد كان الأسترالي إنسانا متدينا، رغم عدم إيمانه بالروح الفردية وخلودها، واحتوت ديانته على كل مقومات الدين المتكامل في صيغته البدائية. ويمكن لدارس الدين الأسترالي أن يقول بكل ثقة بأن مفهوم الروح هو ناتج ثانوي من نواتج الدين، وليس باعثه الرئيسي ولا حتى باعثا من بواعثه.
في مثالي الثاني أنتقل من أديان الشعوب البدائية شبه المنعزلة، إلى أديان الشعوب البدائية التي عاشت على أطراف الحضارات الكبرى. والمثال هنا عن معتقدات القبائل التيوتونية في أوروبا الشمالية، وهي القبائل التي عاشت على حدود مناطق النفوذ الروماني في أوروبا، وقاومت انتشار المسيحية حتى وقت متأخر من العصور الوسطى. فلقد آمن التيوتون بوجود الروح الفردية التي تسكن الجسد، واعتقدوا بالخلود الفردي لهذه الروح بعد موت صاحبها، ولكنه خلود الفناء التام أرحم منه؛ فالأرواح بعد انفصالها عن الأجساد لا ترحل إلى آخرة خير من الأولى، وإنما تهبط إلى أرض الظلمة في العالم الأسفل لتستمر في وجود شبحي لا نكهة فيه للعيش ولا متعة، لا فرق في ذلك بين أمير أو فقير أو بين صالح في هذه الحياة أو طالح. يدير شئون العالم السفلي إلهة مرعبة أسميها هيل
Bilinmeyen sayfa