كنت ألعب مع خادمة عندنا اسمها أمينة، وكنت في السابعة من عمري، وكانت هي في مثل سني، وكانت تجري وأجري وراءها، وحمي الوطيس وازداد الجري، وأرادت أمينة أن تهرب مني، فدخلت تحت أحد الأسرة، وكانت أمينة سوداء فطساء الأنف، ولم يكن الهواء تحت السرير كافيا، فأغمي عليها من قلة الهواء، وحين دخلت وراءها وجدتها لا تنطق، فجريت أنادي أم عبده مديرة المنزل، فأسرعت إليها ومعها خدم آخرون وأخرجوها من تحت السرير، وأحضروا لها نشادر، فأفاقت ولم يزد إغماؤها عن دقيقة أو اثنتين، وذهبت أم عبده، رحمها الله وغفر لها، فقالت لأبي أنني ضربت أمينة حتى أغمي عليها. وأخبرتني والدتي أن أبي غاضب علي كل الغضب، فحرصت ألا ألقاه، وكنت أجلس وحدي منزويا في كرسي كبير واسع لم أشهد له مثيلا من قبل أو من بعد. وإذا أبي يدخل إلي وفي يده سوط، ووقف على رأسي وقد أذهلني الخوف أن أقف، وقال أبي: «لقد ضربت البنت حتى أغمي عليها، وأنا سأضربك حتى يغمى عليك.»
وبدأ يضرب بغير توقف وبكل العنف الذي لم أعرفه فيه من قبل أو من بعد. ولم يغم علي وكنت من السذاجة بحيث لم أفكر أن أدعي الإغماء، وما زلت على هذه السذاجة حتى الآن، فأنا لا أعرف حتى اليوم كيف أتظاهر بما ليس في، وضرب أبي وضرب حتى مل ورمى السوط وانصرف.
وظلت آثار الضرب على ظهري فترة طويلة لا أذكرها، ولكنها باليقين لم تكن قصيرة، شهد الله ما ضربت أمينة.
ويشهد الله أنني ما ضربت خادما بعد ذلك قط؛ فقد علمت من هذا الذي أنزله بي أبي أن هؤلاء الخدم إنما هم إخواننا، لهم علينا من الحقوق ما لإخواننا وأبنائنا. وعلمت مما صنع أبي أننا مطالبون بالمحافظة على أجسادهم، بل وكرامتهم وإنسانيتهم بنفس القدر الذي نحن مطالبون به إزاء أنفسنا وأبنائنا وأخواتنا، رحمك الله يا أبي العظيم، فإنك حتى حين ظلمتني أنصفتني وعلمتني ما لم أكن لأتعلمه لولا ظلمك الرءوف الشفيق الحنون.
كان أبي يحب أبناءه جميعا بعدل مذهل وهبه الله له، وكنا نحن ولديه أنا وشامل نحس أنه يحبنا، ولكنه يحرص أن يستر حبه الذي قد يجعلنا نعتمد على مجده ولا نقيم من نفسينا رجلين يحرصان على أن يكون كل منهما شخصا ذا قيمة بذاته هو لا بذات أبيه. وكان في نفس الوقت لا يرد لنا مطلبا ولا يحجب عنا عطفه. حين حصلت على الثانوية العامة رغبت إليه أن يشتري لي سيارة محتجا ببعد المسافة بين العباسية وجامعة فؤاد - القاهرة الآن - بالجيزة. فكان أن كلف بذلك مدير مكتبه، وكان في ذلك الحين حسين بك صادق والد الفتاة التي أصبحت فيما بعد الملكة ناريمان. وجاءت السيارة وفي غمرة الفرحة بها وفي الأيام الأولى لها خرجنا أنا وأخي شامل بالسيارة، وذهبنا إلى طريق الهرم، وقمنا بنزهة طويلة فخورين أن لنا سيارة خاصة بنا، وإن كانت أصغر سيارة يمكن أن تشترى، ولكنها سيارتنا. وذهبنا أنا وشامل إلى السينما وعدنا والساعة تقارب الثانية عشرة، فإذا بأضواء بيتنا كلها مضيئة في جميع أدواره، ونظرنا إلى نافذة غرفة أبي فوجدناها أيضا مضيئة، وتخطفنا الخدم من كل حدب وصوب: كلما الباشا، الباشا منتظر، الباشا يريدكما. فقلت لشامل: «اذهب أنت إلى حجرتك فأنا المسئول والله المستعان.»
بلغت بابه وأحس بخطواتي أمام الحجرة، فلم ينتظر حتى أفتح الباب، وإنما فتحه هو وأطل برأسه، وقال في حسم: «السيارة ستباع بكرة.» وأقفل الباب رافضا أن أجعل من الأمر موضوع نقاش، فهو حتى لم يسأل أين كنتما.
ذهبت إلى والدتي هالعا، فأنا لم أفرح بعد بالسيارة، وقالت : «لقد سأل عنكما عندما جاء وحين عرف أنكما لم ترجعا لم يغير ملابسه كما تعود أن يفعل وتناول عشاءه، وقد كان عشاء خفيفا لا يزيد عن الزبادي والفاكهة، وسمع الأخبار دون أن يخلع ملابسه أيضا، وظل ينتظركما بكامل ملابسه.» وقد كانت عادته أن يسمع أخبار الحادية عشرة وينام. حتى إذا سمع صوت السيارة هب من فوره فلبس جلبابه حريصا ألا نحس أنا وشامل أنه مشغول علينا، وأنه غير عادته من أجلنا، وكان فعلا بالجلباب حين أطل علي من فتحة الباب، ولكن لم يكن قد أكمل إغلاق أزراره.
ومكثت في غرفة والدتي أرجوها أن تتشفع لي عنده وهي سعيدة أننا عدنا، وحريصة في نفس الوقت أن تبقي على الخوف في نفسي حتى الصباح؛ فلا أعود إلى مثل ما فعلت مرة أخرى. وقضيت ليلتي أكتب قصيدة أعتذر فيها عما فعلت، وأرجوه أن يبقي على السيارة، وقد نشرت هذه القصيدة في مجلة الصباح في هذه الأيام، وأذكر آخر بيت فيها:
وما أظنك ترضى
بأن أكون بيادة
Bilinmeyen sayfa