في ذلك اليوم من طفولتي في شارع الملك الناصر أخذني عمي فكري من يدي، وصحبني إلى مكتب أبي، وقال: «انطق: ثروت.»
فقلت: «ثيوت.»
فظل يعلمني نطق الراء ثلاث ساعات متصلة لا يمل، ويطلب إلي أن أضع طرف لساني بسقف حلقي وأنطق، حتى نطقت الراء.
ولم ينته أمري مع الراء إلى هذا؛ فقد كنت أعرف كيف أنطقها مفردة، ولم أكن أعرف كيف أنطقها في موضعها من الكلمة، حتى أصبحت في مطلع الشباب، ووجدت الناس يسخرون من نطقي الناقص، ويحاولون إخفاء سخريتهم، فقلت لنفسي ما دام في الأمر سخرية فليسخروا مني، وأنا أتدرب على النطق، فكنت إذا أجبت التليفون، وسألني المتحدث: من؟ لا أخجل أن أقول: ثرررروت.
وتبين الراء وكأنها عشر راءات متصلة، ويضحك المتحدث، فأقول في نفسي إنه أيضا كان سيضحك علنا أو خفاء إذا قلت ثيوت.
وكنت أظل أقول وأنا منفرد بنفسي: «فرتر، فرتر» وأكررها حتى استقام لساني بعد بضعة أشهر، وتخلصت من هذا النقص، والفضل أولا لعمي فكري، وأخيرا لإصراري.
المدرسة
كنا نقيم في بيت كبير بشارع الملك الناصر رقم 24، وكان البيت هو البيت الثاني لداخل الشارع من جهة شارع نوبار، أما البيت الأول فقد كان مدرسة أولية متسعة الأرجاء، أصبحت الآن عمارة ضخمة. أما بيتنا فقد كان يطالعك منه أول ما يطالعك فناء متسع الأرجاء تحف به حديقة جميلة من الجانبين، والفضل في جمال الحديقة يرجع إلى عناية عم أحمد بخيت بالحديقة وإشرافه الأمين الحاسم على الجنايني الذي كان يزورها عدة مرات في الأسبوع على طريقة رعاة الجناين في القاهرة. وبعد الحديقة يبقى لنا مكان كبير نلعب فيه مختلف اللعب، ولو أننا كثيرا ما ننتقل إلى لعب الكرة في الشارع، وقد كان الشارع صغيرا، ولكن المرور كان في القاهرة جميعها خفيفا، فقلما كنا نقطع اللعب في الشارع لمرور سيارة أو عربة ذات خيل.
يحد حديقة البيت جدار من الناحية اليمنى يفصل بين البيت والمدرسة، وأما على الجانب الأيسر فسلاملك متصل بالبيت مباشرة، فهو أشبه بجناح منه بسلاملك له سلم خاص، وكان أبي يستعمله عادة ليخلص منه إلى البيت، أما أول باب في الجناح فكان يفضي إلى حجرة تتوسط حجرتين؛ الواقعة على يسار الداخل هي حجرة الاستقبال، واليمنى هي حجرة مكتب أبي، وكان كثير الاستعمال لها، ولها باب يؤدي إلى الشرفة المتصلة بسلم الصعود، ولها باب آخر يؤدي إلى صالة كبيرة كانت تستعمل حجرة طعام، وحجرة الطعام فيها أبواب ثلاثة أخرى؛ أحدها للقادم من شرفة السلم، والثاني على يمين الداخل من الشرفة يؤدي إلى حجرة جلوس أخرى، أما الباب الثالث المواجه لباب الشرفة فيؤدي إلى صالة أخرى بها باب غرفة في أقصى يسارها كانت لا تخلو من ضيف يقيم فيها إقامة كاملة قد يكون أحد أقربائنا، أو أحد المقربين لأبي من غزالة أو من غيرها. والعجيب أن بيتنا لم يخل قط من هذا النوع من الضيوف سواء كان هذا في البيت، أو في بيتنا الآخر الذي انتقلنا إليه في العباسية في أول يناير سنة 1939م، وفي وسط هذه الصالة باب آخر يؤدي إلى السلم الصاعد إلى أعلى ، ولم يكن سلما فخما، وإنما كان من الحجر العادي.
وفي فناء البيت وفي مواجهة الداخل إليه بابان؛ أحدهما كان يصل إلى سلم رخامي، وهو المخصص للحريم، وكانت والدتي وزائراتها يدخلن منه دائما. أما الباب الآخر فقد كان يؤدي إلى البدروم، وكان متسع الأرجاء بصورة عجيبة؛ حتى إن عمي محمود أخا أبي أقام فيه مصنع صابون جعل رائحته كلها تعبق بالصابون، وكان الخدم وعائلاتهم وأبناؤهم يقيمون جميعا في هذا البدروم، وكان به المطبخ أيضا.
Bilinmeyen sayfa