وبلغ القوم السجن والشمس تعلن الظهيرة، ولم يطل بهم الانتظار حتى خرج إليهم سعد الله الحياني. وتعانق الأب وولده ثم فرغ سعد الله إلى أصدقائه حتى إذا بلغ إلى محمد قدمه إليه مسعود بأنه ابن متولي العضل؛ فصافحه وأشار الأب إلى سيارة أجرة قريبة من السجن وركبوا فيها جميعا واتجه الركب إلى القرية. وحين اقتربت السيارة من المهدية وجدوا جماعة كبيرة من الناس منتظرة بظاهر البلدة تعلن فرحها بالطبل والمزمار. وأصر المستقبلون أن ينزل سعد الله من السيارة ويدخل بلدته بين مظاهر الحفاوة هذه التي ينتظرونه بها، وكان ما أرادوا.
وحين استقر بهم المقام في بيت عبد الصمد دار الحديث بعيدا عن السجن وإنما هي أنباء القرية وما جرى فيها. واستمع سعد الله واستمع ولكن سؤالا ما يزال يلح عليه إلحاحا غير هين يريد أن يلقيه ولكنه ينتظر من القوم أن يفصحوا عنه دون سؤال، ولكن الأحاديث تدور والأنباء تلقى إليه واحدا بعد الآخر، وليس عن جواب هذا السؤال كلام. وكأنما دبر القوم مؤامرة صمت فيما يتصل بهذا الموضوع، وطال صبر سعد الله وطال حتى لم يعد يستطيع صمتا: أين عبد الهادي الأكتع؟
وكأنما كان الحديث آلة عظيمة الضجيج أصابها العطب فجأة فهوم الصمت المفاجئ على أجزائها، صمت الجميع ونظر كل منهم إلى الآخر وعاد سعد الله يقول: خير يا جماعة، هل أصابه شيء؟
وعاد الصمت مرة أخرى وعاد سعد الله يقول: لا بد أن شيئا أصابه وأنتم تخفون، لا يمكن أن يتأخر الأكتع عن لقائي.
وكان سعد الله محقا؛ فعبد الهادي رفيق العمر، لعب وسعد الله في الملعب الصغير في ظل الطفولة، ثم كان صديقه الأول ويده اليمنى في مغامراته، لقد صاحب سعد الله حياة الأكتع جميعا، بل لقد شاهد الحادثة التي جعلت اسمه الأكتع. في ذلك اليوم السحيق البعد من تاريخها يوم داست الجاموسة على ذراعه وتناوله حلاق الصحة بما زاده سوءا، حتى إذا أدركه الطبيب أصلح ما أمكنه إصلاحه من الذراع المهشم فظل عبد الهادي بعد ذلك بذراع ينثني ولا يمتد، ولم تكتف القرية بهذا الذي أصابه وإنما أطلقت اسم الأكتع فلازمه وظل يكبر معه ومع الأيام حتى اندثر اسمه الأصلي وهو عبد الهادي أبو جراد. وحين كان سعد الله يمازحه: أراك لم تغضب من قول الناس عنك الأكتع.
فكان يقول في ابتسامة خالية من الغضب: الحقيقة أن اسم الأكتع أحسن عندي من اسمي الأول. فسعد الله محق إذن حين يسأل عن الأكتع ويلح في السؤال، ولم يجد مسعود بدا آخر الأمر من أن يقول: لقد كون عصابة وأصبح رئيسها، وأظنه يخشى أن يجيء حتى لا تجعل منه مساعدا مرة أخرى.
وتصعق القوم دهشة آخذة حين يجدون سعد الله قد انفجر ضاحكا مقهقها لا يتوقف ثم يقول والضحكة ما زالت عالقة بألفاظ حديثه: لا، حد الله بيني وبين هذا، دعوه يأت، فلن يجد عندي ما يخشاه.
ويفرح الأب بهذه الإجابة تدنيه من الأمل الذي طالما داعبه، وتهدأ الحيرة في خاطر راضي ويقول في نفسه بركة يا جامع، ويأخذ الجزع بمجامع مسعود فإنه يرى الأمل الذي عاش له طول هذه الفترة يوشك أن يولي، ولكنه ما يلبث أن يقول لنفسه يطمئنها لعله ينتوي أمرا جليلا لا يصلح له الأكتع وتوشك نفسه أن تصدقه. ويظل محمد العضل حائرا لا يدري ما يقصد إليه سعد الله بهذا الحديث الذي يسوقه.
ويأتي الغداء فهو غداء ضخم فخم يتصدره خروف بأكمله، ويعود الحديث إلى الضجيج يصاحبه ضجيج آخر من مطالب الطاعمين حتى إذا رفعت الأطباق والصواني علا في السماء صوت الأذان فإذا بسعد الله يصاحب كلمات الأذان: الله أكبر، الله أكبر، هيا يا أبي تقدمنا لنصلي العصر.
وبقلب مليء بالفرح تقدم عبد الصمد وخلجات السرور تهز صوته هزا: الله أكبر، الله أكبر.
Bilinmeyen sayfa