وذهل مسعود وقال في حيرة: مع من، أتتجسسين علي؟ - لا، ولكن أخبارك تصل إلي دون أن أسعى إليها. - وما البأس أن يراني الناس مع سكرتيرتي. - في غير مواعيد العمل. - وفي أي وقت. - تلك هي إذن كرامتي المضاعة، فعليك أن تختار، أن أبقى في البيت أو تبقي على سكرتيرتك. - لا يمكن أن أختار، لا يمكن. - لماذا، ماذا بينكما؟ - إنها زوجتي.
قالها وعادت إلى فمه الانفراجة البلهاء وإلى عينيه النظرة الذاهلة، وحدقت فيه هبة طويلا، ثم احتضنت ابنها وتركت الغرفة، وحاولت، وحاولت كثيرا أن تترك البيت ولكن ذراعي طفلها الواهيتين كانتا تمسكان بها ببيت الأب في عنف جبار لا تطيق التغلب عليه، فهي باقية، باقية.
خطابان
أنت يا صديقي أحببت في مجدك، وأحببت في صورتك التي رسمتها، أحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء.
لم تعرف خطه على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي يكتب لها. وبيد مرتجفة أمسكت الخطاب:
أطويل طريقنا أم قصير؟ إلى أين تقودين خطاي؟ عرفتك منذ عرفتك هوى جامحا وحبا عاصفا، وأفانين من السعادة يشوبها الخوف وألوان من الهناء يخالطها الأسى، فما استمتعت بسعادة ولا خوف ولا هناء ولا أسى مثل هذه المتعة التي ذقتها من نبرة صوتك وفيها الحنين أو نبرته وفيها غضب، أو من عينيك أنظر إليهما فهما واد من الحب الظليل الحار العاصف النضير، ثم أنظر إليهما فهما حينا خوف وهما حينا أسى وهما حينا كل شيء ووميض وابتهال.
إلى أين بنا الطريق، إلى أين؟ أطويل سبيلنا، لكم أرجو أن يطول، أم قصير؟ لكم أخشى أن يقصر.
أنت خائفة، دائما إذا خلوت إلى فكرك وخلصت من فؤادك، تخافين، ثرية أنت باذخة الثراء. وأنا لا أملك إلا هذه الريشة التي أرسم بها، ولكني أكسب منها أموالا طائلة إن لم تصل إلى إيراد ثرائك فهي لا تقل عنه كثيرا. ولكنك مع ذلك خائفة، وتأبين أن تقولي مبعث خوفك ويهيئ لك الوهم أنني لا أعرفه، لماذا يظن الناس دائما أن غيرهم أقل منهم ذكاء؟ إنني أعرف خوفك ومبعثه، بل إني أيضا أمهد لك العذر أن تخافي ويشتد بك الخوف، فقد شاء حظك أو شاء حظي أن يتقدم لخطبتك قبلي إنسان كشفت حقيقة نفسه فإذا هو ولا مطمع له إلا مالك؛ فأنت منذ ذلك اليوم تأبين أن تصدقي أن بين الناس من يحبك لأنك أنت ...
أنت وحدك بلا مال ولا ثراء، مسكينة أنت لكم تنظرين إلى المرآة، ولكم تكذبين ما تقول لك المرآة، أنت جميلة، ألا تدرين أنك جميلة، ألا تدرين، أتذكرين أول يوم رأيتك فيه؟ أتذكرين ماذا فعلنا؟ لم أكن أعرفك وإنما رأيت هذه الوضاءة تشع من حولك فإذا ما حولك جميعا لا شيء إلا أنت، وقد كان ما حولك كثيرا. أضواء باهتة ونساء جئن يشهدن عرض الأزياء فجعلن من أنفسهن معرض أزياء، ومعرض جواهر أيضا، وموسيقى حنون ناعمة ونساء صنعتهن أيد ماهرة صناع يعرضن أنفسهن قبل أن يعرضن أزياء المتاجر، وصخب وتصفيق وضجيج، تلاشى هذا جميعا ولم يبق في عيني إلا أنت، أنت وحدك وجمالك الصاخب عالي الضجيج حلو الرنين عذب الأغاني باهر وهاب. وظللت أرنو إليك فما شهدت من الأزياء أو النساء أو الأضواء شيئا، وحين قارب الحفل الانتهاء كنت أنت وثقت أن عينين من مئات العيون لم ترتفع عنك، وكنت أنا قد بلغت من حيرتي يأسا. فما أدري كيف يتم بيننا اللقاء، لم أكن أريد حينذاك إلا أن يقدمني إليك أحد، وكالغريق في المحيط المترامي الأطراف تمتد إليه يد لا يدري من أين امتدت، جئت أنت، نعم أنت، صوب المائدة التي أجلس عليها، وحملقت، ولكنك كنت ما زلت قادمة إلى المائدة، وحملقت ودارت بذهني احتمالات فيما ستفعلين، أتراك ستثورين في أن ظللت أرنو إليك طوال العرض، أتراك ستصفعين وجهي، أتراك؟ لم يستطع واحد من هذه الاحتمالات أن يمنع الفرحة التي راحت تهز قلبي هزا، فإني سأتعرف بك، ثائرة كنت أو غاضبة لا يهم، المهم أنني سأتعرف إليك، وجئت، ووقفت إلى مائدتي وظللت جالسا أحملق منتظرا هجومك أو منتظرا ما هو أشد من هجومك ولكنك لم تفعلي شيئا من هذا، وإنما مددت يدا طيبة إلى أختي التي كنت قد نسيتها مع ما نسيت من ناس وأشياء، وحينئذ وقفت وقبل أن أعرف اسمك قلت: أتسمحين يا سيدتي أن أرسم لك صورة؟
وكان من الطبيعي أن تنظري إلي نظرتك إلى مجنون، ولم أحفل حينذاك بما تظنين، وإنما كانت لهفتي إلى أن أرسم صورة لك هي كل ما يسيطر علي، خيل إلي أنني لو رسمت صورة لك سجلت قطعة فريدة من إبداع الخالق لا تتكرر ولا يجوز لها أن تتكرر؛ فالعمل الفني إذا ما أعيد سقط عنه جلاله. لم أحفل بما قد يتواثب إلى ذهنك من أفكار، فما رأيك؟ وما ظنك بي أنني مجنون إذا ما قارنته بهذا العمل الفني الكبير الذي أريد أن أسجله، ولا أدري لماذا فكرت في هذه اللحظة العابرة أن حياتي الفنية، بل حياتي متوقفة على لفظة منك. وأدركت أختي الموقف وسارعت: أخي فريد حسني.
Bilinmeyen sayfa