الحب نداء، والزواج تلبية.
فالحب صوت، والزواج صدى.
وطوال الحياة المشتركة تنشأ عاطفة ثالثة أقوى من الحب وما بعده، بل وأقوى من الزواج نفسه. وهي العشرة أو المعاشرة، أي الحياة المشتركة والتعاطف المتبادل والسير يدا بيد لمواجهة الصعاب. فالمراحل التالية للحب قد ينقصها الاطمئنان. أما المرحلة الأخيرة أي العشرة فتقوم على الاطمئنان المطلق. فلا خوف من الانفصال أو الحزن أو الزعل أو الملل. فقد أصبحت العشرة هنا جزءا من التاريخ، ومن الذكريات المدونة كاللوح المحفوظ.
ولا يعني ذلك انغلاق القلب انغلاقا مطلقا؛ فهذا يميت الحب في كل مراحله، ويغلق الباب دون أن يترك مواربا حتى يتجدد الهواء. ويظل القلب نابضا بتغييرات الحياة؛ فالحب في مرحلته الأخيرة أي العشرة تترك القلب مواربا للشعور بتجدد الحياة والجمال المتغير المتعدد، والماء النقي. وبإغلاق القلب تماما بدعوى أن الإخلاص يميته، ويمل القلب الآخر منه، وإلا فلماذا كانت الغيرة تعيد شباب الحب؟
فالماضي المعلوم أفضل من المستقبل المجهول، وإذا كان الحب مغامرة في البداية فإنه استقرار في النهاية. فإذا تحول، تحول الاستقرار في النهاية إلى مغامرة جديدة في البداية، فقد يخسر الحبيب البداية والنهاية معا.
وبلغة السياسة المصرية فإن العشرة تكون 99,9٪ من العاطفة الإنسانية والباقي إذا بقي شيء للرياح الجديدة التي قد تهب على القلب دون أن يكون لها أي مخاطر على العشرة.
فالبرتقالة ليست خطرا على شجرة راسخة من البرتقال، وحبة العنب ليست خطرا على عنقود العنب.
وقد حدث أنه في مرحلة ما بعد الحب العذري أن قلبي قد انفتح بما بقي من حرية فيه نحو فنانة ومخرجة مسرحية ومناقشة سياسية. قامت بإخراج مسرحية لها في المسافر خانة في حي الأزهر. لم يكن لديها المال لدفع أجور الممثلين، ولم تأخذ من وزارة الثقافة شيئا. إلا أنهم تركوا لها استخدام المسافر خانة مجانا، فكنت أعجب بنشاطها وإصرارها وفنها وتعاون الممثلين والممثلات معها، والاعتماد على الجيل الجديد باستثناء بعض المغنين الكبار، وفي مقابل ذلك وقفت أمام المسافر خانة لتنظيم الدخول بأجور زهيدة لا تكفي لطعام العشاء للمخرجة الفنانة، فوضعت لها بعضا من المال في صندوق بطاقات الدخول ليساعدها في عملها، وظللت أفعل ذلك كل ليلة طيلة شهر رمضان والزوجة الحبيبة تتساءل عن هذا النشاط اليومي الليلي ؛ فأخبرها بما يحدث. وبدا الحزن على وجهها وهي تحمل طفلنا الثاني بجمالها وصدق وفائها للأسرة؛ فانتابني الندم على إهمال الكثير من أجل القليل، وكانت زوجتي الحبيبة حاملا في ذلك الوقت. فصاحبتها إلى المستشفى، ومكثنا عدة أيام حتى يحين موعد الولادة. وكنت في صراع بين البقاء معها وبجوارها أو الذهاب إلى المسافر خانة كالعادة؛ لأنظم الدخول وأطرب بالغناء، وأستمتع بجمال الفنانة والمخرجة المسرحية، وأستعرض في ذهني كل ما قيل عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين وغيره. بعد ذلك انطفأ الحب الرومانسي عندما شعرت أنه تحول إلى استغلال مقصود يوم دعتني لمشاركتها العشاء مع ضيوفها الأجانب في المعادي على ضفاف النيل. وتركتني أدفع ثمن العشاء وأنا ما زلت محدود الدخل، كانت ترفض زيارتي لها في شقتها الجديدة حيث كانت تعيش في المعادي. فانتهت هذه الفترة القصيرة الرومانسية، خاصة بعد أن دعتني مرة لإيصالها في الصباح الباكر إلى محطة القطار في شارع رمسيس. أحسست باستغلالها لي وأن الريح التي هبت علي من جهتها لم تكن نقية؛ فانغلق قلبي وربما ينفتح أمام ريح أخرى بمرور الزمن.
وأنا جالس بالقسم في مصر كان باب مكتبي مفتوحا، رأيت طالبة كانت شقراء تمر أمام باب غرفة مكتبي، ذهابا وإيابا. تنظر لي وتبتسم، دعوتها إلى مكتبي، عرفت منها أنها طالبة بالسنة الرابعة، وكان مكتبي نفسه هو الغرفة التي كنت أدرس فيها فلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر. فسألتها إن كانت تريد شيئا أشرحه لها. قالت: «لا.» فسألتها من جديد: «ألا يوجد شيء غامض من المادتين المقررتين أوضحه لك؟» قالت مرة أخرى: «لا.» وهي تضحك؛ فدعوت لها بالتوفيق والنجاح.
وكانت كلما رأتني أركب سيارتي مغادرا القسم، أسرعت فاتحة باب السيارة بجواري وتدخل وفي يدها قطعة شوكولاتة وزجاجة مياه غازية، فأشكرها. وأنا خارج من بوابة الجامعة وهي تركب بجواري في يوم، قلت لها : «أنا في طريقي إلى مدينة نصر.» فتقول هي ذاهبة إلى اتجاه آخر إلى شارع الملك فيصل بالهرم؛ فسألتها إن كانت تريدني أن أوصلها؟ رفضت بحجة أن المشوار طويل والمكان بعيد. وتكرر منها ذلك عدة مرات. وكنت قد اشتريت شقة بمنازل هيئة التدريس بجامعة القاهرة، تقع خلف الجامعة على مسافة قريبة منها، كي أستقبل فيها طلابي، فلم يكن بالقسم حجرات خاصة للأساتذة، وبالفعل استقبلت فيها الطلبة والطالبات، وكنا نترك باب الشقة مفتوحا حتى لا يظن أحد أن في الأمر شيئا.
Bilinmeyen sayfa