وفى يوم من الأيام ملأ أخي صفيحة الماء إلى آخرها، وقام بوضعها على وابور الجاز لاستعمالها في الغسيل، ولما بدأت المياه بالصفيحة في الغليان، رفعها من على النار، فانبعجت الصفيحة لرقة حوافها وسخونة المياه؛ فانسكب الماء المغلي على ساعده، أسرعنا به إلى الصيدلية، فأعطوه علاجا بالزيت، وربطوها له، وأدركت مسئولية الأخ الكبير أو الأخت الكبيرة، وهي مسئولية صعبة وشاقة تصل لدرجة التضحية بالنفس في سبيل رعاية الأشقاء.
وفى يوم طلب مني أستاذي أحمد فؤاد الأهواني أن أقابل عبد الفتاح الديدي لمساعدتي في السفر، والذي عاد من فرنسا بعد عشر سنوات دون أن يحصل على شهادة الدكتوراه، وهو يعمل الآن مديرا لتحرير مجلة «المجلة» التي كان يرأسها الأديب الكبير يحيى حقي. وكان مقرها ملاصقا لسور قصر عابدين من ناحية باب اللوق، فكتب لي خطابا أقدم به نفسي إلى مديرة المكتب الطلابي في السفارة المصرية في باريس «مدام راتمباك». ولما وصلت باريس قدمت الخطاب لها وفتحته وعرفت المطلوب وهو مساعدتي، طأطأت رأسها إلى الأرض، وفهمت أنها لن تستطيع مساعدتي؛ فقد قطعت العلاقات بين مصر وفرنسا وبداية الاستعداد للعدوان على مصر أكتوبر 1956م، أي بعد وصولي إلى باريس بأقل من شهرين.
وحين غادرت إلى فرنسا عام 1956م وهو عام التخرج بدأ الفقر يظهر بشدة، من أين لي بتذكرة الباخرة إلى فرنسا لاستكمال الدراسة؟ وكيف سأعيش هناك بدون منحة دراسية لا من مصر ولا من فرنسا؟ ومع ذلك أخذت الباخرة وكان ثمن البطاقة عشرة جنيهات فوق السطح ودون غرفة نوم، وكانت لي توصية أن أنام في غرفة الطعام بعد فرش ملاءة على إحدى أرائكها. وأخذت معي حقيبة بها عدد من الأرغفة الجافة وعلبة جبن أصفر كانت توزع مجانا من المعونة الأمريكية. وكانت الرحلة من ميناء الإسكندرية إلى مارسيليا تستغرق ستة أيام. وكانت الباخرة تتوقف ليلة واحدة في ميناء بيريه بجوار أثينا، وكان السؤال: وما العمل في كيفية الذهاب من مارسيليا إلى باريس؟
وعلى ظهر الباخرة تعرفت يوما على سيدة فرنسية، ولما رأت طيبة الوجه بادية على ملامحي، وسلامة القلب، وإخبارها بمشكلتي؛ تعاطفت معي وأقرضتني مائة فرنك لأشتري تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس على أن أردها إليها بعد الوصول، وأعطتني عنوانها في باريس، ولما وصلت إلى باريس وجدت رجلا طويل القامة حسن الهندام واقفا على المحطة وقال لي: «أتريد غرفة يا أستاذ؟» قلت له: نعم. فقال أنا عندي غرفة بشقتي، وصحبني إليها. كانت غرفة صغيرة بها مكتب وسرير وكنت لا أطلب أكثر من ذلك، وقال لي إيجارها في الليلة عشرة فرنكات، فوافقت. وظللت بملابسي أستخرج الأوراق التي سأكتب فيها خطة البحث الذي سأقدمه للأساتذة للموافقة عليه لنيل درجة الدكتوراه ووجدت الباب ينفتح ويأتي الرجل وبيده طبقا من شوربة الخضار الساخنة يقدمها لي؛ فشكرته وكانت خير جزاء لي بعد مغادرتي الباخرة والقطار. إلا أنني لم أقض فيها غير ليلة واحدة؛ لأنني لا أملك المال فذهبت في الصباح التالي إلى السفارة المصرية، ذهبت إلى السفارة المصرية لأسكن مع البواب الذي أخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن السفارة مبنى دبلوماسي؛ لا يجوز لأحد أن يسكن فيه إلا موظفوه، وطلب أن أذهب لمنزل السفير المجاور حيث ذهبت إليه ولكني وجدته مغلقا بالكامل لا أحد فيه. حيث كان ذلك بسبب تأميم قناة السويس في يوليو 1956م وسحب السفير المصري وقطع العلاقات مع فرنسا، فذهبت إلى مسجد باريس لكي أقضي به ليلتي طبقا للعادات القديمة، ولكن إمام المسجد اعترض وأخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن المسجد له تصريح خاص بأسماء موظفيه. وسلمني الإمام لأحد الجزائريين لكي يعتني بي. أخذني الجزائري وكان وجهه مملوءا بحب الشباب، وصحبني إلى الفندق الذي يقيم فيه في الحي السادس عشر شمال باريس كي أنام معه في غرفته؛ فذهبت وكانت الغرفة بها ستة جزائريين آخرين ينامون متعامدين، ثلاثة يمينا وثلاثة يسارا. وكان في وسط الغرفة مدفأة من الفحم. قضيت فيها ما يقرب من شهر، وكان صاحب المقهى تحت غرفتي في الفندق ينظر إلي صباحا ومساء حين أغادر وأعود دون أن يستنفع مني بشيء. فشربت فنجان قهوة في الصباح التالي وأنا لا أملك ثمنه إلا بصعوبة؛ وأذهب إلى منزل الخدمات الطلابية في الجامعة والذي لديه كشف بأسماء الغرف الخالية، وهي على أنواع: غرفة مجانية في مقابل إعطاء دروس لابن صاحب الشقة ومساعدته في المذاكرة، وكانت الغرفة فوق السطح مخصصة للشغالات، وغرفة أخرى إيجارها قليل لكرم صاحب الشقة أو لضيقها أو لبعدها من الجامعة. وكنا كطلبة نذهب منذ الصباح الباكر حتى نكون أول الواقفين في الطابور لنحظى بما نريد من الغرف، وبطبيعة الحال كنت أبحث عن الغرفة المجانية؛ فأخذت مرة عنوان غرفة وذهبت لمقابلة صاحب الشقة الذي يملكها، فلما رأى هيئتي وأنني أجنبي اعتذر، وقال لي صراحة: «شكلك سيضايق ابني.»
وفى مرة أخرى ذهبت لمكان آخر أبحث عن غرفة في مقابل إعطاء دروس لطفلهم الصغير، ولما رآني صاحب الشقة اعتذر أيضا دون إبداء السبب؛ فقررت أن أختار غرفة بأجر زهيد وهو النوع الثاني من الغرف التي يؤجرها أصحابها، وكانت قريبة من الجامعة، فقبل صاحبها أن يؤجرها لي، وكانت غرفة في السطح، فسررت. وبعد عدة أيام ذهبت للغرفة كعادتي فوجدتها مغلقة ومفتاحها لا يفتح وورقة على الباب تقول: «أغراضك التي في الغرفة أخذناها، وحجزنا لك غرفة في فندق قريب.» فذهبت لصاحب الشقة وسألته: «لماذا فعل ذلك؟ فقال: بأن أخاه كان موظفا في شركة قناة السويس وبعد تأميمها أخرجوه بحقيبة ملابسه من مصر وعاد إلى فرنسا.» وسألني: «هل تقبل أن أقبل بمصري يسكن في غرفة سطحي وأخي مطرود من مصر؟»
وبينما أنا في الطريق للذهاب من السفارة المصرية إلى مسجد باريس، قابلني شرطي أمن وطلب مني أوراقي الثبوتية إذ كان يبدو علي الإرهاق والتعب والبهدلة، فلما أعطيته جواز سفري وثبتت له صحة ما فيه وتحقق من شخصيتي قال لي مقارنا وجهى بالصورة التي في جواز السفر: «وجهك نحيف، ألا تأكل؟» فأجبت: «عن قريب.» قال ذلك لأني نحفت كثيرا خلال تلك الفترة القصيرة.
وذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي إلى مكتب الخدمات الطلابية؛ كي أجد غرفة زهيدة الثمن حتى لو كانت بعيدة عن الجامعة؛ فوجدت عنوان غرفة كانت بعيدة عن الجامعة في الحي السادس عشر وهو حي «الأغنياء». وبدلا من أن تكون في السطح كانت في الطابق الأرضي. وبجوارها مخزن فحم تستعمله العمارة للتدفئة، وكانت الغرفة ليس بها نوافذ، بها فقط سرير ومكتب، وكانت الحوائط دافئة، فقبلتها ومكثت فيها حوالي سنة وأنا أكتب وأقرأ وأدرس فيها متمتعا بالدفء والسكون. وفي نفس الوقت كنت قد قدمت طلبا للمدينة الجامعية؛ كي أحصل على غرفة بأحد منازلها؛ فوجدت غرفة مزدوجة في منزل الولايات المتحدة الأمريكية مع طالب أمريكي شاب. والمنزل يطل على الشارع الرئيسي حول طريق باريس الرئيسي، تمر به الناقلات الضخمة ليل نهار، وأمام محطة مترو المدينة الجامعية. مكثت فيها سنة أيضا، وأنا لا أستطيع النوم ليلا من ضجيج الطريق وهدير عربات النقل الثقيل، وسألت الأمريكي: «كيف تنام في هذه الضجة؟» فقال إن منزله في شيكاغو فوق محطة قطار حيث اعتاد على الضجيج.
وكان هناك منزل للطلبة المصريين داخل المدينة ولكنه يسمى منزل الطلبة الأرمن عندما كان نوبار باشا وزيرا للتعليم، فرفض الطلب. قدمت طلبا إلى المنزل الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية «الظاهريات» وأتكلم الألمانية وأريد أن أزيد فيها بالتحدث مع الطلبة الألمان، فوافق مدير المنزل؛ وانتقلت إلى غرفة مفردة حديثة، حوائطها من الزجاج الشفاف، تدخل منه الشمس، وفي الصباح يصير سريري أريكة أفتحها، وفي المساء أفرد الأريكة فتصير سريرا أنام عليه. وعشت في هذا المنزل ثلاث سنوات إذ يحق للطالب أن يسكن ويقيم في المدينة الجامعية لمدة أربع سنوات .
بعدها انتقلت إلى منزل الطلبة الرياضيين في بور رويال في غرفة مزدوجة مع أحد الطلاب المصريين الذين يدرسون الحقوق، والذي أصبح الآن أستاذا بجامعة عين شمس ومحاميا مشهورا. ووضعنا ستارا لقسمة الغرفة إلى اثنين. مكثت في هذا المنزل عامين، وتجاوزت المدة المقررة؛ فبحثت عن غرفة أخرى تكون قريبة من الجامعة في منطقة «دانفير روشيرو». وفي الميدان تمثال الأسد الكبير كالذي على واجهة كوبري قصر النيل، والذي بني في عصر الخديوي إسماعيل؛ فالنحات واحد، وكانت غرفتي فوق السطح ودورة المياه خارجها، وكان فيها المكتب والسرير، وصممت لها رفوفا من الحديد لكي أرتب كتبي، وما زال اسمي حتى الآن موجودا على اللوحة الخارجية للعمارة، قضيت فيها السنة الأخيرة من وجودي في باريس وقبل العودة إلى القاهرة.
وبعد العودة من فرنسا عشت مع الوالد والوالدة والشقيقة الصغرى من 1966-1970م حيث كان دخل الأسرة حينها معاش الوالد الذي يبلغ أربعة جنيهات في ذلك الوقت، وعلى عمل شقيقتي في البنك حيث يبلغ عشرة جنيهات، وبمساعدة أخي الأكبر بحوالي خمسة عشر جنيها.
Bilinmeyen sayfa