كما تبدو هذه الطريقة وكأنها تأليف في عدة موضوعات متناثرة، وفي هذه الحالة تقضي على موضوعيتها وعلميتها.
وفي كلتا الطريقتين تأتي الذكريات وتذهب لاإراديا في سريانها، وإن كان يمكن أن تبقى في خطوطها العريضة، مراحلها أو موضوعاتها؛ فالذكريات تعوم في محيط من الحرية، وتسبح مع التيار، لا يمكن إيقافها بالقوة إن أتت، ولا يمكن استدعاؤها إن هربت؛ فالشعور تيار جارف كما يقول هوسرل وبرجسون: ميزتها الصدق في الحضور والغياب.
ومن ثم يكون السؤال: هل الذكريات علم أو فن؟ فلسفة أم أدب؟ هي كلاهما لأنها تحليل نفسي لصاحبها؛ فهي أقرب إلى علم النفس وتداعي المعاني والصور. وهي فن لأنها لا تخضع إلا لفن الكتابة وفن الرواية. ونموذج ذلك «قصة نفس» و«قصة عقل» و«حصاد السنين» لزكي نجيب محمود مقارنة ب «حياتي» لعبد الرحمن بدوي التي هي أقرب إلى السجلات والمدونات؛ لذلك كانت «اليوميات» إحدى وسائل كتابة الذكريات. يكتب الذكريات الأدباء مثل لويس عوض، والفلاسفة مثل رسل وياسبرز وسارتر، والعلماء مثل أينشتاين. والفنون التشكيلية سير ذاتية لأصحابها؛ مثل تماثيل نهضة مصر لمختار مؤرخا لثورة 1919م بالفن ومعبرا عنها بالحجر والإزميل، وموسى لمايكل أنجلو؛ فعندما تكتمل «ذكريات» من أي نوع ستكون؟
العنوان «ذكريات» وليس الذكريات؛ فربما لم أتذكر كل شيء؛ فالاسم النكرة أكثر دلالة من المعرفة. وربما يستحيل على الإنسان أن يتذكر كل شيء، وتلك فضيلة النسيان عند برجسون، ذكرى تأتي وأخرى تذهب وإلا لانفجرت الذاكرة لكثرة ما اختزن فيها من ذكريات. وإذا تذكرها فلن يستطيع أن يكتب كل شيء فيها حياء وخجلا في مجتمع ما زال الحب بكافة أنواعه: الحسي والمعنوي، الجسدي والروحي، ما زال غير مقبول صراحة كما يغني عبد الوهاب في أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
والذكريات تجارب ذاتية، قد يعيشها شخصان قريبان مثل الأخوين، ولكنهما يعبران عنها بطريقتين مختلفتين مثل يوسف وإخوته؛ فالذكريات لا تتعلق فقط بالذاكرة، هي إحدى وظائف، العقل، ولكنها ترتبط بالعواطف والانفعالات بل والمصالح والأهواء؛ فالحاضر هو الذي يتحكم في الماضي كما يتحكم الماضي في الحاضر؛ فالذكريات ليست فقط رواية للقديم بل هو تحريك من الجديد.
وهي ليست «ذكرياتي» لأن الموضوع ليس ذاتيا خالصا، إنما هي «ذكريات» أكثر من ثمانين عاما؛ فهي ذكريات عن عصر بأكمله: سبعة عشر عاما قبل الثورة، ثورة 1952م وتقلباتها من الناصرية (1956-1970م)، والانقلاب عليها منذ 1970م حتى بعد اغتيال رئيس الجمهورية عام 1981م، ثم استمر الانقلاب على الناصرية لأن الرأسمالية ليست جريمة حتى الثورة الشعبية في يناير 2011م والتموجات فيها بين الإسلاميين والعسكريين والفلول، جمعا بين الاستبداد والفساد، ووضعا للإسلاميين واليساريين في السجون والمعتقلات، انتظارا لثورة الجياع أو الجرابيع والعشوائيات، والعودة إلى الناصرية روح الثورة الأول، وتحقيقا لشعار الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وليس العنوان «حياتي» أو «سيرتي الذاتية»؛ فكلها تحول الذكريات إلى جانب ذاتي خالص، وتنسى أنها تعبير عن عصر بأكمله يمكن الرجوع إليه. وليست «يوميات» تدون أحداث يوم بيوم؛ لأن هذه الأحداث لها مسار موضوعي. وليست مجرد حوادث متفرقة، وإن كان أحمد رامي في الإهداء يقصد حبيبته؛ فربما أقصد أنا مصر، حبيبتي الكبرى، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تطورات جعلت الناس تندم على أيام زمان أو الزمن الجميل؛ فهذا واجب المثقف الوطني الذي يحمل «هموم الفكر والوطن». ظننت أنها ستأخذ وقتا طويلا؛ عاما تقريبا، فلما قفزت على الجزء الأخير من «التراث والتجديد» «التفسير الموضوعي»، كما قفز «هيجل والهيجليون الشبان» من قبل، بدأت في الكتابة لاستراحة محارب من توثيق الآيات والموضوعات التي ربما أكون قد نسيتها حتى أصبت بضعف النظر أو إحساسا بدنو الأجل.
وإذا كانت الذكريات هي استدعاء الماضي، والماضي منصب في الحاضر، فيتداخل الماضي في الحاضر، الموتى مع الأحياء. تذكر الموتى ليس به حرج، ولكن الحرج مع الأحياء في المراجعة والتأويل المضاد على أحسن تقدير، وفي الخصام أو التقاضي على أسوأ تقدير. وفي تذكر الأحياء في الحاضر تشتد أزمة الاختيار بين الذكريات: أيها يذكر، وأيها لا يذكر؛ فتتدخل الإرادة في انتقاء الذكريات منعا للإحراج. وربما يختلط المستقبل أيضا مع الماضي والحاضر في ذكر ما كان الإنسان يود فعله ولم يفعله وهو قد فعله بالفعل. وهنا تتداخل الأبعاد الثلاثة للزمان؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وقد تنسى بعض تجارب الحاضر، فلا تدخل في الذكريات التي تحتوي على التجارب الحية التي تبقى في الذاكرة، سواء في الماضي أو في الحاضر.
والتقسيم إلى إحدى عشرة مرحلة هو تقسيم زمني وموضوعي في آن واحد؛ فبدأت بالموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة، ثم أولا: الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م) حيث بدأ الوعي بالعالم عن طريق اللعب والفن والفكر. ثانيا: التعليم الجامعي (1952-1956م) حيث بدأ الوعي العلمي متزاوجا مع الوعي الوطني، والتطلع إلى أفق أوسع. ثالثا: السفر إلى فرنسا (1956-1966م) حيث توازنت الشخصية بين الدين والدنيا، تجارب الأنا والآخر، وصياغة مشروع «التراث والتجديد» (بالفرنسية). رابعا: الأستاذ الجامعي وفلسفة المقاومة (1966-1971م) ودرء الهزيمة أو النكسة في 1967م بعد النكبة في 1948م وقبل صفقة القرن في 2017م أشبه بنداء إلى الأمة الألمانية لفشته لمقاومة نابليون الذي احتل ألمانيا. خامسا: السفر إلى أمريكا (1971-1975م)، لمعرفة العالم الجديد؛ أمريكا، تدريسا ودراسة، قراءات وزيارات وتوسيع المعرفة بالدين من المسيحية إلى اليهودية، والفلسفة، من الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الأمريكية. سادسا: إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1975-1982م) خاصة بعد مظاهرات يناير، 1977م «انتفاضة الحرامية»، وإعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية عام 1976م بعد أن أسسها منصور فهمي باشا في 1944م وتوقفت بعد الحرب العالمية الأولى، وزيارة القدس نوفمبر 1977م لإيجاد أحلاف خارجية، وكامب ديفيد 1978م، واتفاقية السلام 1979م، وطرد أساتذة الجامعات والصحفيين ، وتحويلي موظفا في وزارة الشئون الاجتماعية، وسجن هيكل، وإبعاد الأنبا شنودة إلى الصحراء في سبتمبر 1981م مما كلفه حياته في أكتوبر من نفس العام. وقد كتبت «مقدمة في علم الاستغراب» عام 1982م وأنا خارج الجامعة وفي ذهني
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . سابعا: فلسفة المشرق والمغرب، بالتدريس في المغرب وتولي الإشراف على البحوث الدولية في جامعة الأمم المتحدة في اليابان (1982-1987م). ثامنا: رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م). تاسعا: «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م). عاشرا: الثورة الشعبية والربيع والعربي (2011-2018م). الحادي عشر: كل نفس ذائقة الموت (2018م-...).
Bilinmeyen sayfa