لا يعني بروز هم العلم تواري هم الوطن أو البعد عن السياسة التوقف عن ممارستها أو عدم الاهتمام بها، بل يعني عدم وقوع أحداث كبرى تجعل المفكر يتجه بشعوره نحو الواقع المباشر، ونحو تحليل الحوادث الحاضرة. هذا الاستقرار السياسي الذي دام ثلاثين عاما كان ربما في الظاهر، ولكن الباطن كان يسخن على نار هادئة حتى درجة الغليان في الثورة الشعبية الكبرى في يناير 2011م، باستثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م والحرب بين حزب الله وإسرائيل وإطلاق صواريخه عليها عام 2006م. وتملكني إحساس بأن النهاية قد قربت وأن إكمال «التراث والتجديد» ما زال بعيدا، والعلوم النقلية التي أردت تحويلها إلى عقلية أو على الأقل إلى علوم نقلية عقلية مثل أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف.
1
وقد أخذ مني «من النقل إلى العقل» خمسة عشر عاما مثل أولى أجزاء «التراث والتجديد»، «من العقيدة إلى الثورة». والعلوم النقلية خمسة: القرآن، الحديث، السيرة، التفسير، الفقه.
2
وهو موثق توثيقا دقيقا مع تحليل كل مساهمة للقدماء في كل علم، وتضخم جزء «التفسير». والفقه أكثر حساسية لأنه يحكم الناس شرعيا. ولم أشأ أن أخرجه إلى الإعلام في مقالات أو مراجعات صحفية حتى لا يجده صحفي شاب يريد الترقي في جريدته، ويثير زوبعة إعلامية تدخل فيها الاتجاهات المحافظة، وأصبح ضحية الإعلام مثل نصر حامد أبو زيد، ومن الأفضل أن يكون ضحية الصمت عن أن يكون ضحية الإعلام.
وقد ركزت في هذه السنوات على إخراج أجزاء «التراث والتجديد». وكنت أكتب فيه منذ المغرب العربي، ثم بدأت «من النقل إلى الإبداع» لإثبات أن علوم الحكمة؛ أي الفلسفة، ليست نقلا عن اليونان بل فيها قدر من الإبداع في تسعة أجزاء عن طريق تحليل المضمون. الثلاثة الأولى عن النقل، الترجمة، التعليق والشرح أو التفسير. والثاني عن التحول، في التأليف في الوافد دون الموروث ثم التأليف في الوافد مع غلبته على الموروث ثم التأليف في الوافد مساويا بالموروث. والثالث الإبداع، التأليف في الوافد مع غلبة الموروث مع اختفائهما، اختفاء الوافد والموروث تماما مثل العلوم الرياضية والطبيعية دون الاعتماد على أي من الرافدين والذي اكتمل في عام 2002م بعد أن كان الكومبيوتر قد دخل عالم الطباعة. وجمعت كتاباتي الصحفية في «الدين والثورة في مصر (1952-1981م)» في ثمانية أجزاء؛ الأول: الدين والثقافة الوطنية. والثاني: الدين والتحرر الثقافي. والثالث: الدين والتنمية الثقافية. والرابع: الدين والتنمية القومية. والخامس: الحركات الإسلامية المعاصرة. والسادس: الأصولية الإسلامية. والسابع: اليمين واليسار في الفكر الإسلامي. والثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، وصدر عام 1988م. طبعة أيضا لينوتيب بالرصاص.
وهناك ثلاثة مستويات لمشروع «التراث والتجديد». أولا: المستوى العلمي للمتخصصين. وهو ما سماه القدماء خاصة الخاصة والذي لا يمكن عرضه في الصحافة وأجهزة الإعلام التي تبغي الإثارة، المدح أو القدح، وقد يصل الأمر إلى التكفير والاغتيال، ولا يناقش إلا في الجامعات والمراكز والمعاهد المتخصصة. والثاني: المستوى الفلسفي والثقافي للفلاسفة والمثقفين من أجل نشر الوعي الفلسفي وبيان أثر المشروع في الثقافة. والثالث: المستوى السياسي الشعبي للعامة الذي يحول المشروع إلى ثقافة شعبية سياسية؛ فلا يجوز الخلط بين هذه المستويات الثلاثة. والحفاظ على كل مستوى لأهله.
3
لم تثر أجزاء «التراث والتجديد» في علم أصول الدين أو أصول الفقه أو علوم الحكمة أو التصوف قدر ما أثاره «من النقل إلى العقل»؛ فقد حدث أن أقامت مؤسسة آل البيت الملكية الفكرية للفكر الإسلامي بعمان-الأردن مؤتمرها السابع عشر عن علم السيرة. وقدمت بحثا بعنوان «السيرة بين الواقع والخيال». ووصفت مراحل كتابة السيرة من المرحلة الأولى ، مرحلة المغازي، إلى الثانية مرحلة الشمائل إلى الثالثة مرحلة التعظيم والتبجيل مما يصل إلى درجة التأليه، والرابعة مرحلة القراءة؛ فكل عصر له احتياجاته في السيرة. وهي دراسة لتطبيق الرواية، وليس لشخص الرسول، في حين أن كل الأوراق تقريبا كانت حول شخص الرسول وطاعته، فتصور العلماء الأجلاء أنني أطعن في الرسول، ومما يدل على ذلك عدم ذكري «
صلى الله عليه وسلم » أو «عليه الصلاة والسلام». وشرحت أن الأمر يتعلق بالرواية وليس بمضمونها كما هو الحال في علم أصول النقد التاريخي للكتب المقدسة؛ فماذا سيحدث إذن في الجزء الخامس عن «الفقه»، وهو يحاول وضعه في إطاره الزمني وفي مرحلته التاريخية من أجل التحول من فقه الأحكام إلى فقه الوجود؟ وعرضت الأمر على دور نشر أخرى فطلبت مني المساهمة في ثمن الورق فوافقت. وعلى هذا النحو نشر «الواقع العربي المعاصر»، ثم رد إلي ما اقترضته ليس بعد عام كما وعدت بل بعد أربعة أعوام مع بعض الحقوق. ولما عرضت باقي أجزاء «من النقل إلى العقل» على صاحب الدار طالب بدفع كافة التكاليف، عشرون ألف جنيه مصري لكل جزء. ولا يرد منها شيء إلا 33٪، وبالمثل الموزع 33٪ والناشر 33٪. والبعض رفض النشر لأن سوق الكتاب واقف ولا يستعيد الناشر حتى تكاليفه. فكيف يربح؟! وأخيرا بدلا من أن ألف على الناشرين كالشحاذ قررت طباعة الجزأين الأخيرين على نفقتي الخاصة، وتركت قضية التوزيع للمستقبل، وربما ما بقي من مؤلفاتي سأطبعها على نفقتي الخاصة «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «ذكريات» و«هيجل والهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي »، ثم أنشغل بعد ذلك بإعادة طباعة ما نفد من مؤلفاتي الأولى. اقترح أحد الأصدقاء المقربين: لماذا لا أنشئ دار نشر باسمي مثلا، «دار حنفي للطباعة والنشر والتوزيع». ولكني خشيت أن أدخل في مشاريع تجارية وقوانين الشركات والضرائب ومهايا الموظفين. إن ما يهمني طبع الكتاب وترك الباقي للتاريخ. ليتني أستطيع أن أجد ناشرا واحدا لجميع مؤلفاتي يقصدها الناس كما وجد الجابري «مركز دراسات الوحدة العربية» ببيروت، ينشر كتبه ويوزعها، ويحفظ له حقوقه في حياته وبعد مماته؛ فقد لاقيت الأمرين عند الناشرين. بدأت ببيروت
Bilinmeyen sayfa