وكان المفصولون أساتذة وصحفيين قد رفعوا أمر فصلهم بقرار جمهوري من الرئيس المغدور بغير وجه حق إلى القضاء ليدرس الأمر. وأصدر الرئيس التالي في يناير 1982م قرارا بإرجاع «من ثبت ولاؤهم» إلى وظائفهم في الجامعة، ورفض هؤلاء العودة إلا مع الجميع وبحكم من القضاء. وبالفعل صدر الحكم بأن الرئيس المغدور قد أخطأ في قرار الفصل، وتجاوز حدود سلطاته لأن الجامعة بها نظامها الرقابي ولجانها القضائية، والصحافة حرة. وعدنا جميعا في أبريل 1982م، وأرجعت إلينا مخصصاتنا، وخرج المعتقلون من السجون إلى القصر الجمهوري ليحاوروا الرئيس في الحريات العامة، وكان فرحا واستبشارا بقدوم عصر الحريات. وفي هذا العام الذي فصلت فيه من الجامعة تفرغت لكتابة «مقدمة في علم الاستغراب» ونشر في عام 1982م بين ناشر وآخر، وكان يمثل الجبهة الثانية من مشروع التراث والتجديد وهو الموقف من التراث الغربي.
وبعد نشر «التراث والتجديد» و«اليسار الإسلامي» جاءني إعلان من المحكمة بطلب من وزير الأوقاف محمد متولي الشعراوي، بأنني مطالب في قضية كفر، ولم أكن قد دخلت المحاكم من قبل إلا مرة واحدة إلى مجلس الدولة في مقاضاة رئيس الجمهورية الذي فصلني وزملائي من الجامعة والصحفيين ومحمد حسنين هيكل والبابا شنودة في مذبحة سبتمبر 1981م. وطلب مني الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب الذي نشر «التراث والتجديد» أن آخذ فتحي رضوان محاميا معي. أما «اليسار الإسلامي»، مجلة غير دورية، فلم يصدر منها إلا عدد واحد، وقد نشرته على نفقتي الخاصة، فرفضت بأني قادر على الدفاع عن نفسي. وذهبت باب الخلق، ودخلت على قاض شاب ومدعي الاتهام محامي الحكومة. وشرحت «التراث والتجديد»، وأن هذا الكتيب هو المقدمة لهذا المشروع، وأنه محاولة لإعادة قراءة التراث القديم في ضوء ظروف العصر. أما مجلة «اليسار الإسلامي» فهي نفس الأفكار، ولكن على المستوى الشعبي السياسي المباشر، وهو ما حاول المصلحون جميعا فعله؛ كيف أتقدم محافظا على شخصيتي الإسلامية وفي نفس الوقت أواجه قضايا الاستقلال والتحرر والحرية والوحدة والهوية والتنمية، فسأل القاضي محامي الحكومة: لماذا تريد أن تصادر هذين الكتابين؟ فأجاب: لأن الحكومة طلبت مني ذلك، ولم يقل كلمة واحدة في الموضوع، فأصدر القاضي حكما قانونيا ببراءتي، والإفراج عن كتاب «التراث والتجديد» ومجلة «اليسار الإسلامي». والحكم تاريخي فيه الإشادة بالمفكرين المصريين الشبان، وجهدهم الثقافي. وخرجت من المحكمة وأنا في نفسي أحيي القضاة الشبان المصريين ولعدم وجود دليل لدى الحكومة ضدي للمصادرة. وأعادت الشرطة ما أخذوه من مطبعة الشنيطي التي كانت في خلفية منزله. وسينشر الحكم مع وثائق أخرى في الجزء الثاني من هذه الذكريات «مقالات ممنوعة».
واقترحت جريدة اليوم السابع أن تجري حوارا بيني وبين محمد عابد الجابري في رسائل متبادلة تنشر في اليوم السابع، وقبلنا الاقتراح، ونشر الحوار بعد ذلك في «حوار المشرق والمغرب»، وله الطبعة المغربية الأولى، ثم توالت الطبعات له نظرا لشهرته وصعوبة الحصول على نسخة منه. وقد ترجم إلى عديد من اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وذاعت شهرته لدرجة إجراء عدة رسائل علمية عليه؛ فالفكر العربي ليس مجزئا، ولا ينعزل عن بعضه البعض؛ فهذه من الحوارات النادرة التي تربط الفكر العربي مشرقا ومغربا؛ فقد تمغرب المشرق وتمشرق المغرب. لقد تعلم الجابري في دمشق. ودرست أنا بالمغرب، وكلاهما جناحا الوطن العربي، ولبنان الرأس الذي حمل لواء الثقافة والصحافة العربية على مدى قرنين من الزمان. ثم تكرر الحوار بيني وبين منصف المرزوقي صاحب «إصلاح العقل» من تونس، ولكن لم تبلغ شهرته شهرة «حوار المشرق والمغرب». كان مفتعلا، تقليدا للحوار الأول، ليس له موضوع. ومع ذلك قامت حولهما رسالة دكتوره في الصين من د. فوزية عميدة كلية الآداب في جامعة بيكين ، وكانت تلميذتي بالقاهرة بعد أن ترجم الحوار الأول إلى الفرنسية والألمانية، وأثيرت حوله عدة دراسات. ومرة ثالثة أجري بيني وبين صادق جلال العظم من دمشق حول «ما العولمة؟» وظلت الحوارات التالية للحوار الأول تقليدا له. ويبدو أن الفكر العربي لم يتعود على استمرار مثل هذه الحوارات.
ودعيت مرة إلى الجمهورية العربية اليمنية لإلقاء محاضرات على طلاب جامعة صنعاء واستدعاني الشيخ الزنداني لقضاء أمسية مع جماعته، وكان رئيس جماعة الإخوان المسلمين اليمنيين، فذهبت، فوجدت جماعة من ثلاثين فردا تقريبا في وسطهم الشيخ الزنداني وبيده «المداعة»؛ أي شيشة ذات خرطوم طويل ملفوف تدور حول أفواه الجميع، فرحبوا بي، وطلبوا مني أن أعرف بنفسي، فبدأت أتحدث عن مشروع «التراث والتجديد»، وكيف أنه يحاول إعادة بناء التراث القديم طبقا لظروف العصر، وهم يسمعون، فتبدو على وجوههم الموافقة وهز الرأس والترحاب بي، وظلوا يسألون وأنا أجيب على مدى ثلاث ساعات أتجنب الدخول في الغيبيات والعقائديات وأضعها بين قوسين، ولا أجيب إلا على المسائل الاجتماعية من عدل وظلم، وحرية واستبداد، وفقر وغنى، وكانوا يمضغون القات، ولا يناقشون وودعوني. وفي الغد، وجدت عربة مصفحة أمام الفندق الذي أسكن فيه كي تأخذني إلى الجامعة، فسألت: لماذا؟ فقالوا: رئيس الجامعة أمر بذلك. واتضح فيما بعد أن الزنداني وأصحابه أعدوا بيانا بتكفيري يبدأ باسم الله والصلاة والسلام على رسوله لأنهم بعد أن استمعوا إلي وقرءوا، تأكدوا أنني كافر ملحد، أستحق العقوبة، فخاف علي رئيس الجامعة، وأمر بحراستي ذهابا وإيابا من الجامعة إلى الفندق، وأن أغادر في الغد ضمانا لحياتي. وكان معي جابر عصفور، ونصحني بسماع كلام رئيس الجامعة، فغادرت في الغد مسلحا حتى المطار.
وأثناء انتفاضة 18-19 يناير 1977م التي كان اليسار هو الذي يوجهها قبض على عبد المنعم تليمة، أودع سجنا في طرة، وذهبنا أنا وزوجتي لزيارته، وكان سعيدا، ولما طلبنا منه ماذا يريد قال: ينقصنا الخضار. وفي المرة الثانية جهزت له زوجتي صينية قرنبيط باللحمة المفرومة، وذهبنا إليه، وأفرغناها في أواني السجن، واسترددنا الصينية فارغة. ونحن في طريق العودة نزلت العربة في حفرة فكسر محورها
Axe . وكلفتنا الكثير، لكن كنا سعداء بأننا قمنا بواجبنا تجاه المعتقلين؛ فعلى الأقل نحن أحرار، مطلقو السراح.
وفي يوم استدعيت إلى قسم مصر الجديدة وأنا ساكن بشارع الحجاز، فذهبت، فقابلني ضابط، وظل يسألني أسئلة لا معنى لها ولا هدف؛ فمن ضيقي كنت أحرك إصبعي السبابة في يدي اليمنى المسنودة على يد الكرسي. ويبدو أنه كان دارسا لعلم النفس، فقال: تحريك إصبعك يدل على أن فيه شيئا تخفيه، فأجبته: أنا لا أخفي شيئا، وأنا أعترف أني من المعارضة، وهذا شيء مشروع.
ودعتني وزيرة الثقافة في البحرين لإلقاء محاضرة عن تجديد الفكر الديني، وقيل لي إنها من الأسرة الحاكمة، وكنت أنا مع الثورة في البحرين، وفهمت بعد الزيارة أن الثورة يقوم بها الإخوة الشيعة الذين يمثلون الأغلبية في البحرين. لقد كنت مع الثورة في أي مكان وفي أي طائفة مثل تروتسكي وجيفارا، ثم فهمت أن الغرض من الثورة في البحرين ليس الثورة بل القضاء على عروبة البحرين؛ وبالتالي تكون البحرين امتدادا لإيران، فقلت إن عرب الأهواز لا يمثلون خطرا على فارسية الجانب الشرقي للخليج، فشرحوا لي أن عرب الأهواز يمثلون أقلية في إيران، أما الشيعة في البحرين فهم الأغلبية؛ فهل من المعقول أن يكون الشيعة هم الثوار وأهل السنة العرب هم المطيعون للحاكم؟ ألا يوجد سنة ثوار؟ وهو نفس الوضع في كل أنحاء الخليج حتى اليمن. أما عمان، الإباضية، فقد كانوا ثوارا في البداية مثل علي بن أبي طالب دون أن يكونوا شيعة. وعرفت جماعة في البحرين يسمون «الشراة»، يبدو أنهم ثوار على الثورة، وهم الذين شروا أنفسهم للشهادة في سبيل الحق. وفي المرة الثانية توقفت في البحرين، ومددت إقامتي يوما زائدا، فأنكروا أنفسهم، فكنت أخشى أن تكون صفة الغدر أيضا قد لحقت بهم كما لحق بدار الأمير، دار نشر شيعية ببيروت، وهي التي قدمتني إلى العالم حسين فضل الله، مؤسس حزب الله، بعد أن غادره، وتبادلنا المؤلفات. المخلصون منهم من هم في معهد الدراسات الفلسفية، للشيخ حراجي ؛ حيث تعاونت معهم في وضع برنامج المعهد، وما زال غير معترف به في نظام التعليم اللبناني، طبعوا كتابي «قضايا معاصرة» (الجزء الثاني) في «في الفكر الغربي المعاصر» للقراءة داخل المعهد، وليس للاتجار به مثل باقي الناشرين اللبنانيين. أقمت لهم عدة محاضرات، واستمعت إلى الشيخ حسن قائد الحزب بمناسبة تحرير أحد أسرى الحزب من السجون الإسرائيلية، وكان جمهورا واسعا، لم أر تنظيم حزب سياسي مثله. ورأيت ما قامت به إسرائيل من دمار في جنوب بيروت، في المخيمات الفلسطينية. وتصورت نفسي هناك ينازعني الولاء بين الحزب والدولة، بين الإسلام والوطن. ورأيت السجون المنفردة التي أقامتها إسرائيل في الجنوب، مترا في متر؛ فيخرج المقاتل من السجون وقد انحنى ظهره إلى الأبد من هذه الأقفاص الفولاذية.
الفصل السابع
التدريس في المغرب والبحث
Bilinmeyen sayfa