وبالرغم من أنني تزوجت عن حب وكنت موفقا في زواجي، وكانت زوجتي موضع ثقة وتملأ علي حياتي إلا أنني كنت أشعر بين الحين والآخر ببعض الضعف تجاه الجنس الآخر، فأتذكر قول الرسول «إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.» عندما شعر بشيء تجاه امرأة زيد ابنه المتبنى، فأسرع بالخروج. حدث ذلك لي عدة مرات عندما بهرتني مخرجة مسرحية بشخصيتها وفنها بل وعقليتها في المسافر خانة، فكنت أذهب للعرض المسرحي كل يوم، وأنفعل كفنان بالغناء المسرحي وأنا الموسيقي القديم، ثم اكتشفت استغلالها مقدما. أتاها ضيوف أجانب فدعتني، وأخذنا العشاء على النيل، وطبعا دفعت التكاليف، كانت تستغلني، فأخبرت زوجتي التي كانت تضحي بنفسها من أجلي. ومرة أخرى دعتني جامعة الإمارات على العشاء في قبو فندق يسيل الماء من أعلاه، وكانت بجواري فلسطينية ذات رداء بلا أكمام، أرى ذراعها الأبيض وصمتها كالملاك، وفي نفس الليلة كان تلميذي قد دعاني إلى العشاء بمنزله على خروف مشوي واقف، وفاجأني بالدعوة ليلتها طبقا للتقاليد، وكان ذراع الفلسطينية الأبيض الغض يجذبني أكثر من الخروف الذي لا أراه. وهنا أدركت أهمية الإدراك الحسي كما لاحظ ميرلوبونتي في «ظاهريات الإدراك الحسي»، فغضب مني الطالب، ولم تشعر بي الفتاة الفلسطينية. ومرة ثالثة جذبتني امرأة بيضاء ضاحكة بالرغم من قصرها تعمل في الإعلام، حاولت أن أراها عدة مرات، ولكن لم يعد لدي ولا لديها وقت لذلك، فأخذ الزمان ما أحضر؛ فكلما رأيت امرأة حتى لو كانت شغالة أو امرأة بواب أكون لطيفا معها، أمازحها بلا أي هدف مما كان يغضب زوجتي أحيانا، فأقول لها هذا هو الطابع الفرنسي، اللطيف مع النساء ومغازلة المرأة من حيث هي امرأة دون أي قصد أو هدف. وعلى النقيض من ذلك كنت عندما أزور باريس أذهب إلى شارع القديس دينيس
Saint Denis
وأرى النساء واقفات على الصفين. شجعني أحد تلاميذي مرة فتعرفت على واحدة، وكانت عربية؛ فالدم يحن، ومرة أخرى فرنسية، أدت دورها بحرفية دون عواطف أو انفعالات. وكنت أستمع إلى اللغة العامية الفرنسية الشعبية فأتعلم مصطلحاتها وشتائمها إذا ضايقني أحد، مجرد فرجة بلا شراء. وقد يكون الغزل بالكلام تعويضا عن العجز بالفعل.
حزنت لوضع الطالبات المصريات وحصارهن بين التقاليد القديمة ومتطلبات الحياة العصرية؛ فلا هن يستطعن أن يقلدن الطالبات الغربيات وسط زميلاتهن الغربيات، ولا هن يستطعن أن يقلدن زميلاتهن الغربيات وسط زميلاتهن المصريات. ومن حاولت ذلك - الصمود بين القديم والجديد معا - أصيبت بمرض عقلي؛ فمع من ستقضي نهاية الأسبوع؟ لم يبق لها إلا حجرتها ذات الأربع حيطان تحادث نفسها؛ فلو خرجت بمفردها وسارت في الطريق أو جلست في مقهى يتقرب إليها الشباب، إن حادثت يطلبون المزيد، وإن صمتت يهجرونها إلى غيرها. وقد حدث نفس الشيء للشباب أيضا الذين لا يريدون التوافق مع ضرورات العصر، كما حدث لشاب عندما رأى ابنة أستاذه مرة وهو يزوره، فتصور أنه يحبها وأنها وقعت هي الأخرى في حبه، وانتهى من الرسالة وناقشها وعاش أعزب، فإذا سئل: لماذا لم تتزوج؟ قال: إنه ينتظرها. هل تحادثت معها أو راسلتها أو تعلم بوجودك؟! قال: لا؛ فالحبيبان يشعر كل منهما بالآخر . وقد تزوجت وأنجبت، وهو ما زال أعزب، في الانتظار.
كنت آكل بمطاعم المدينة الجامعية، ويقتضي ذلك كارنيه مع صورة، وكان يقتضي شهادة نجاح، مدته ثلاث سنوات يجدد مرة أخرى. ولما كنت أعد رسالة فكان ريكير يكتب شهادة بخط يده أنني أعد معه رسالة، ولم تنته بعد، فأحصل على الكارنيه. وكانت تذكرة الطعام بسبعة قروش ونصف، فإن كنت طالبا فقيرا أعطوني تخفيضا لتصبح التذكرة بأربعة قروش ونصف، وإن كنت فقيرا جدا أعطوني تخفيضا ثانيا وتصبح التذكرة بثلاثة قروش ونصف. وكنت آكل مرة واحدة في اليوم، هي وجبة الغذاء، وأذهب في نهاية الفترة التي تبدأ في الحادية عشرة والنصف وتنتهي في الواحدة والنصف عندما يترك ما تبقى من طعام، يأخذ منه الطالب ما يشاء. وكنت أبيع التذكرة التي كان ثمنها ثلاثة قروش ونصف على باب المطعم بسبعة قروش ونصف، وهو السعر العادي، وأكسب كل يوم أربعة قروش. ومرة أحرجني طالب فرنسي قائلا: أنت تاجر جيد، وهو لا يعلم أنني أفعل ذلك بدافع الفقر. ومرة رأيت طالبا يبيع تذاكر المطعم بنصف الثمن، وأنا تذاكري بنصف الثمن عن طريق المشرفة الاجتماعية التي كانت ترى ملابسي، فتوافق على الفور. سألته: كيف؟ فقال إن الموظف الذي يأخذ التذاكر قبل أن آخذ صينية الطعام يضعها خرقا في عامود معدني طويل كي يرميها بعد ذلك، وكان لا يرميها، بل يضع قليلا من الماء مكان الخرم، ثم يكويها، فتعود صالحة للاستخدام مرة ثانية، وكأنها جديدة، فعرفت أن الفساد عند الأوروبيين أيضا، وليس كما نتصورهم أمناء شرفاء، ولم أشأ أن أقول للطالب الذي يبيع التذاكر المستعملة كما قيل لي: «أنت تاجر ماهر.»
وكانت المطاعم نوعان: الأول مطاعم عادية للأصحاء. والثاني مطاعم خاصة للمرضى الذين يحتاجون رعاية خاصة زائدة
Diedetique . وكانت الأخصائية الاجتماعية هي التي تقرر لأي نوع تستحق؟ وما إن تراني بوجهي المعظم حتى توافق على إعطائي بطاقة المرضى. وكانت نوعان من البوفيه المفتوح: آكل كل ما أشاء من لحوم أو أسماك، وأشرب اللبن وليس الماء كما أشاء. وكان معظم الرواد من الأفارقة المتمارضين. وكان المطعم يقدم لحما آخر غير لحم الخنزير إذا قلت للتي تغرف إنك من المسلمين. وكانت تتعرف عليهم بسمارهم أو سوادهم؛ فلم يكن يوجد مسلمون بيض في هذه الأيام. فإذا قال طالب أبيض إنه من المسلمين لأنه لا يحب لحم الخنزير نظرت إلى عينيه وابتسمت؛ أي إنها تعرف أنه من غير المسلمين ولكن «معلهش»، فأعطته ما يريد إذا كانت «بنت حلال». أما إذا كانت قاسية القلب فإنها ترفض، وتطلب منه أن يتقدم بسرعة ولا يجادل لأن الطابور وراءه طويل. وكان ذلك بداية ظهور «كرشي» الذي لم أستطع التخلص منه إلا وأنا في حالة مرضي الحالية حتى نقص الهيموجلوبين، وأحاول رفعه من جديد. وكان مطعم المرضى في محطة لوكسمبرج للمترو قبل أن يتم تجديدها بالتذاكر الممغنطة وليس بعاملة تخرقها. كانت مطاعم الجامعة تقدم الغداء والعشاء دون الإفطار، فكنت لا أفطر، وأكتفي بكوب من الشاي واللبن في أنبوبة كالدواء. وكانت الكوب مستعملة لا أغسلها إلا إذا حضر أحد الضيوف. وكنت أترك دراجتي مربوطة على باب المبنى في عامود. وفي مرة في الصباح وجدت أن العجلة الأمامية قد سرقت كما يحدث في مصر دون جسم الدراجة المربوط. وأفهمني الزملاء كيفية ربط العجلة من الأمام أو العجلة الأمامية مع جسم الدراجة في العامود؛ فالسرقة تتعدى حدود الأوطان. والوطن يبقى في القلب وإن هاجر الجسد.
وفي نفس الوقت الذي أدبر فيه حياتي الشخصية كنت أكتب مشروع الدكتوراه، الرسالة الكبيرة أو الأولى «المنهاج الإسلامي العام»
La Méthode Islamique Générale . وقدمته إلى هنري لاوست الذي كان أستاذا بالكوليج دي فرانس
Collège de France
Bilinmeyen sayfa