أما المساعدات؛ فالأولى ربة المنزل وهي زوجتي الحبيبة. كان تقريبا عشر مساعدات على مدى نصف قرن باستثناء عشر سنوات كنت فيها خارج مصر.
وكانت الشروط في المساعدة التي تعمل عندنا أنا وزوجتي شرطين أساسيين: الأمانة والكفاءة. تأتي الأمانة أولا لأننا لا نحسن الحفاظ على ما لدينا من مال أو مجوهرات. أما الكفاءة فتأتي وتذهب طبقا للتعلم والخبرة وكسب المعرفة. وكن يقضين معظم الوقت بمفردهن في المنزل لأن زوجتي كانت تعمل بالجامعة الأمريكية، وأنا كنت أذهب إلى الجامعة ثلاث مرات أسبوعيا. وأولادنا الثلاثة في مدارسهم. ويمكن توزيع المساعدات الأمينات وغير الأمينات على الإطلاق، يمكن توزيعهن على قطبي الأمانة والخيانة. فكانت الأمينات التامات، مصرية قبطية تتصف بالأمانة، والكفاءة المطلقة في إدارة شئون المنزل من طبخ وتنظيف. فإذا ما عدنا من أعمالنا نجدها تجلس في المطبخ كالحارس الأمين. وإن تعبت تضع ذراعيها وتحني رأسها على المائدة، لترتاح قليلا. وكانت لا تتكلم كثيرا، أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. فلا تنقل ما يحدث في البيت إلى خارجه أبدا سواء بين أفراد العائلة الواحدة من فرد فيها إلى آخر أو خارج المنزل، كما يفعل معظمهن من الثرثارات واللواتي يمكن أن يسببن الانفصال بين المرأة وزوجها بسبب ذلك. وكانت تصطحب معها ابنتها لتدربها على العمل. وكانت لا تطلب أي زيادة في المرتب كما كانت تفعل قريناتها.
وفي أقصى القطب الآخر، هناك المساعدات غير الأمينات على الإطلاق اللواتي كن يسرقن من المنزل كل ما تطاله أيديهن. وكن في الكفاءة على درجة أقل نظرا لانشغالهن بسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه كالمال والمصوغات. وكانت منهن وعلى رأسهن مصرية مطلقة ترعى أولادها، وتسكن في غرفة فوق السطح، وكما كانت تقول تسقط عليها مياه الأمطار. وكانت تقدم نفسها كخفيفة الظل وتضحك طوال الوقت. أصبحت كأنها عضوة في المنزل مع باقي أفراد الأسرة وليست غريبة عليها. تجلس على الأريكة معنا، وتشاهد التليفزيون معنا، مربعة ساقيها فوق الأريكة. تذهب معنا في الصيف إلى قرية جامعة القاهرة بالساحل الشمالي، تسبح في حمام السباحة معنا، وتأكل على المائدة معنا، تسافر إلى الخارج معنا. ونطلب من الجهة الداعية أن تحول بطاقات الطائرة من درجة رجال الأعمال وهي الدرجة الأولى، إلى الدرجة الاقتصادية وهي الدرجة الثانية حتى تأخذ بطاقة لها كي نصطحبها معنا لترى العالم الخارجي، وحتى لا نتركها بمفردها في المنزل والأطفال يقيمون مع جدتهم وخالتهم. اكتشفت سرقاتها؛ آلة التصوير التي تركناها فوق «بوفيه» السفرة، وأوراقا مالية كنت تركتها في غرفة المكتب، وزجاجات النبيذ التي كانت في الدولاب هدية من صديقي ممثل العراق بالجامعة العربية. كانت قد طلبت «سلفة» مبلغا من المال كي تبني سقفا من الحديد المسلح ليقاوم سقوط الأمطار بعد أن انهار سقف بيتها.
ولما أردنا أن نستعلم عن ماضيها سألناها فعرفنا منها أنها كانت تخدم في شقة لدى الخليجيين العزاب. فخشيت على نفسها منهم بعد أن طالبوها بما لا تستطيع، وخشية أن تكون الشقة مراقبة من قبل رجال الأمن وبوليس الآداب؛ فتركت العمل عندهم.
وعملت لدينا امرأة سمراء الوجه جاءت بتوصية من أحد الأصدقاء. وكانت متوسطة الكفاءة بل ومتوسطة الأمانة أيضا؛ إذ إننا عدنا مرة من أعمالنا أنا وزوجتي فوجدنا الدولاب شبه مفتوح. فلما سألناها عن ذلك، أنكرت. فهددناها، وأخذناها بالسيارة إلى قسم الشرطة. ولما عرفت أننا جادون في اتهامها اعترفت بأنها سرقت أشياء من الدولاب، ووعدت أنها سترجعها إلينا. عدنا إلى المنزل، وأرجعت هي المسروقات بعدها. وبعد مدة سمعنا أنها مريضة بمرض عضال، ثم توفيت. وكنا نرسل إليها الأموال والعيديات كل سنة. وكان نفس السؤال عندي يتردد بلا إجابة واضحة حتى الآن. ما السبب في كل هذا، الأخلاق أم الفقر؟
وذات يوم سمعنا أن ابنتها حلت محلها تعمل في خدمة العائلات التي كانت تعمل عندها أمها.
وكنت أفكر في من المسئول عن هذه الطبقة من الشعب؟ الفقر أم الأخلاق؟ دون استطاعة الإجابة عن السؤال حتى الآن.
وبين هذين القطبين المتناقضين إلى حد التطرف هناك درجات متوسطة بينهما، الأقرب إلى الأمانة المطلقة، كانت سيدة مطلقة وأما لأولاد تعمل عندنا حاليا. تأتي في موعدها في الثامنة صباحا، وتغادر بعد موعدها في الخامسة مساء، تقوم بأعمال التنظيف والطبخ، ولم نر منها أي مكروه، ولها من الكفاءة ما يؤهلها لخدمة الأسرة.
وكانت المساعدات الأجنبيات أقرب إلى الأمانة المطلقة، مثل المساعدات النيجيريات. فأتت واحدة منهن تعمل بكفاءة، كانت تصاحبني في المؤتمرات والندوات العامة في مصر وخارجها. وكانت تقوم بمساعدتي على الاستحمام. وذات مرة وهي تقوم بذلك كانت ترتدي ملابس مفتوحة تكشف صدرها، وقالت لي: إن المرة بخمسين دولارا «فسألتها» وماذا عن مرتبك الشهري؟ «قالت» إن زوجها متزوج من أربع وله منزل كبير في وسط المنازل، وأربعة منازل صغيرة حوله في كل منزل زوجة وأولادها، والزوجة مسئولة عن إعالتهم. فمعظم العاملات من نيجيريا كن يأتين إلى القاهرة للعمل وإرسال المال لأولادهن. وكان الزوج عادة يتزوج بأربع ليس من الإسلام ولكنها عادة أفريقية. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل هناك صلة بين هذه العادة وبين الزواج بأربع زوجات في الإسلام وليس أكثر، في الفقه الإسلامي القديم؟
وعملت لدينا ذات مرة مساعدة سودانية مؤدبة غاية الأدب وكانت كفئا. وحدث أن الممرض المرافق لي وقتها تشاجر معها ذات يوم وضربها. وأخبرت أمها. جاءت الأم غاضبة، وبعد أن تشاجرت معنا أخذت ابنتها وغادرت. ولا أدري حتى الآن لماذا لم نصرف الممرض بدلا من أن تذهب المساعدة أو نرسله ليستبدلوه بآخر؟
Bilinmeyen sayfa