وفي بغداد قابلت الرئيس صدام حسين في الاحتفال بمرور سنتين على وفاة ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العراقي، وفي هذه الفترة كان في صراع علني مع أمريكا قد بدأ وعلى أشده بالتراشق اللفظي بينه وبين «بوش». وكان صدام يمشي على المسرح متبخترا أيضا رافعا رأسه إلى أعلى في ثقة محييا جمهور الحاضرين. واقتربت مني أجهزة الإعلام لمعرفة رأيي في رئيسهم فرفضت التعليق لأنني لا أمدح ولا أذم الرؤساء العرب.
ودعاني الملك عبد الله مع بعض المثقفين المصريين الماركسيين لزيارة المملكة العربية السعودية وأداء فريضة الحج؛ فذهبت وأعطونا ملابس الإحرام وأقمنا في الخيام. ودعينا مرة للقصر للغداء، رأيت الخراف واقفة على الموائد بكاملها؛ فخفت من المشهد أكثر مما استمتعت به؛ فقد كان مشهد الخراف واقفة مشوية مهيبا.
وفى زيارتي للملكة العربية السعودية لم يطلب مني الملك الكلام، ولم يتكلم هو كذلك، بل كان الأمر مجرد أداء واجب، وكانت المحاضرات التي ألقيناها في جامعة الملك عبد العزيز في مكة، وزرنا المدينة المنورة وقبر النبي، ومنازل الصحابة. وكان الحجاج يطوفون حول الكعبة في مكة ويتقاتلون للمس الحجر السود. يومها لم أستطع الطواف ولا السعي ولا الصعود إلى جبل عرفات لكبر سني، ورأيت الناس يقذفون الحجارة الصغيرة ويرجمون بها؛ فأدركت أهمية ما قاله الصوفية بأن هذه كلها ما هي إلا مشاهد رمزية للحج القلبي الخالص. وتمنيت لو أن هذه الملايين ذهبت إلى القدس، وطافت بالمسجد الأقصى. كما أدركت أهمية خطاب العيد في الفضاء وليس في مسجد مغلق لشرح وضع المسلمين اليوم. ورأيت عمال النظافة وهم يسحبون الشباشب والقباقيب والصنادل والأحذية من على الأرض كي يضعوها في صناديق القمامة، وتساءلت: فإذا خرج المصلون فأين سيجدون أحذيتهم؟ وكان الحجاج الأفارقة والأسيويون أكثر من الحجاج العرب، كلها كانت مشاهد للرؤية حتى لو لم تكن شعائر للحج.
وفى المملكة الهاشمية الأردنية، زرت عمان ورأيت الملك عبد الله عدة مرات، وكان يكرم أعضاء مؤسسة «آل البيت» للفكر الإسلامي، وأنا عضو بها؛ المرة الأولى بمناسبة الدعوة على الغداء والسلام على أعضاء المؤسسة، والثانية لمجرد المقابلة فانتهزتها فرصة لأقول له: «متى تتم الوحدة العربية؟» فقال: «عن قريب إن شاء الله.»
وفى زيارتي للبنان دعاني رئيس الجمهورية ووفدا نسائيا مشتركا، وقد كنت عضوا في هذا الوفد، للحديث عن حقوق المرأة، وشرحت معظم نساء الوفد آراءهن في هذه الحقوق، وكانت تطالب بحقوق أوسع؛ فرد الرئيس بأنه موافق تماما على ما سمع من آراء مهمة، وقال: «إن المهم هو قبول المجتمعات بأكملها لهذه الحقوق وإلا انقسم المجتمع إلى طوائف.»
وفى البحرين، كان معظم الثوار من الشيعة ضد الحكم السني العربي. فكنت في حيرة بين خيارين: أن أكون ثوريا؛ لأن الثورة هي خياري الأول حتى لو كنت أمارس الثورة مع الأغلبية الشيعية. والثاني أن أكون رجعيا عربيا أحافظ على العروبة وأضحي بالثورة. وكان من الصعب خلق تيار ثوري في الحكم العروبي؛ لأنهم أهل السلطة والمال. كما كان من الصعب أن أكون ثوريا عربيا مع الجماعة الشيعية؛ فالولاء في الجماعة للتشيع أولا ثم للثورة ثانيا، وكان ولائي للثورة أولا والعروبة ثانيا. وبعد أن كنت صديقا للثوريين الشيعة في البحرين وزرتهم بعد ذلك للمرة الثانية ترددوا في استقبالي لأنهم لم يريدوا خلق تيار ثوري عروبي يزاحم التيار الثوري الشيعي. ولما كانت العروبة تقوم على السلطة وأموال النفط فإنها كانت تخشى من الثورة باسم العروبة. وكان الشيعة الثوريون يريدون الثورة في البحرين خاصة؛ لأنهم الأغلبية ويكونون امتدادا للثورة الإيرانية، وبالتالي تضيع العروبة. والأمل في المستقبل في وطنية البحرينيين في الجمع بين الثورة والعروبة بدلا من الخيارين السابقين، الثورة مع التشيع أو الرجعية مع العروبة.
وفى مرة ثالثة وأنا أركب الباخرة مغادرا الإسكندرية إلى فرنسا، بعد أن قضيت يومين في حي المغاربة عند جامع الشيخ بالإسكندرية حيث يعيش أقرباء لوالدتي ووالدي. وهو أخ جدي الحاج حسنين، توقفت الباخرة في ميناء بيريه بجوار أثينا. نزلنا لمدة يوم واحد؛ فقد كان البحارة من اليونان، يحتاجون ليلة لقضائها مع أهليهم. زرت يومها الأكروبلوس الذي كنت قد قرأت عنه، ومعبد ديلفي. وزرت أثينا والميدان الكبير الذي به قصور الحكومة، ووجدت حيا مصريا بأثينا. وكانوا يتكلمون العربية على المقاهي وكأنني في الإسكندرية. ويقابل هذا الحي المصري الحي اليوناني بالإسكندرية؛ فالأجنبي في الأفلام المصرية يوناني مثل شخصية الخواجة بيجو، يتكلم العربية بلهجة يونانية، وفرحت لهذا التقارب بين مصر واليونان منذ أقدم العصور حتى الآن؛ فالإسكندر الأكبر في مصر يبني الإسكندرية، وأفلاطون يتعلم في جامعة منف بالشرقية.
وغادرت الباخرة بعد يوم وليلة عبر مضيق «مسيينا» وجزيرة مالطة التي أتى منها جوهر الصقلي إلى مصر، ووصلنا مارسيليا بعد ستة أيام قضيناها في البحر، وأخذت القطار إلى باريس، ورأيت الحي اللاتيني، والبانثيون، وشارع سان ميشيل، وجامعة السوربون، وكوليدج دي فرانس، وحديقة لوكسمبورج، وكاتدرائية نوتردام، وكان الحمام أمامها يلقي له الفرنسيون والأجانب بالبذور والطعام.
وزرت متحف اللوفر، وسرت في شارع الشانزليزية حتى قوس النصر، فعلت كل ذلك وأنا أبكي؛ لأن العدوان الثلاثي على مصر كان قد بدأ بعد تأميم عبد الناصر لقناة السويس، وقلت لعلي أرى باريس لأول وآخر مرة قبل العودة إلى مصر، وقد وصلت لتوي إليها، ورأيت الكنيسة المعلقة في شمال باريس، وزرت شارع القديس أونوريه وعلى جانبيه السيدات واقفات أمام أبواب منازلهن، أو مطلات من النوافذ والشرفات، ينادين على الرجال، وكنت في مرحلة انتمائي للإخوان المسلمين، ورأيت المكتبة الوطنية، والمقاهي المتناثرة أمامها، والملاهي الليلية في آخر الشارع، والطاحونة الحمراء «مولان روج» التي تقف على واجهة الملهى. ولم أستطع السياحة خارج باريس، لمشاهدة قصور الملوك أو عبر رجوعي لفرنسا إلا مع صديقتي الألمانية التي كان لديها سيارة صغيرة تبلغ قوتها حصانين، كنا نسيح في فرنسا في الصيف شرقا إلى جبال الألب، لتسلقها حتى القمة وركوب التلفريك كي نرى الجبال من أعلى، ونحن ننتقل من قمة جبل إلى قمة أخرى، ورأيت مدن تولوز ومونبيلييه، وسرنا على الساحل الجنوبي لفرنسا فرأينا طولون، وكان، ومارسيليا، وليون ، وكالييه في الشمال، وكنا نقتسم المصاريف مناصفة.
وزرت انجلترا ولندن وأكسفورد وكمبريدج. وركبت القطار الذي يسير أسفل بحر المانش من دوفر إلى كالييه لكي أعرف إلى أي حد وصلت التكنولوجيا الغربية، وكنت أخشى من ثقل ضغط مياه بحر المانش على سقف النفق فينهار، فأغرق، لكني خرجت سالما.
Bilinmeyen sayfa