وكانت خالتي لا تنجب، ولا تحتاج إلى أموال ستي أو أن ترثها، فكانت ستي تعطي والدتي ما تيسر من مال ليساعدها على المعيشة. كان لستي عدة بيوت ريفية قسمتها مناصفة بين أمي وخالتي، ونحن في الجامعة وفي حاجة إلى مصاريفها. كانت والدتي تذهب إلى بني سويف وتهمس في أذن ستي فتوافق على بيع أحد البيوت. بيعت أربعة بيوت ونحن في أربع سنوات الجامعة، ثم اندارت ستي وأقنعت خالتي ببيع بيوتها وهي عاقر بالرغم من زواجها وطمع زوجها في صيغتها في يديها. ولما اقتنعت وتوفت ستي أقنعت والدتي خالتي ببيع آخر بيوتها، وتأتي لتعيش معنا في القاهرة حتى تجد من يساعدها، وكانت عرجاء؛ رجل طويلة وأخرى قصيرة بعد أن وقعت من على السطح وهي تطعم الدجاج، فانزلق بها السلم، ولم يكن في ذلك الوقت أطباء، فاكتفت بالوصفات البلدية والجبيرة ولكن ظل العظمان متفرقين. وبالفعل عاشت خالتي آخر سنواتها معنا في 13 شارع الجنزوري بالعباسية بعد أن أصبح المنزل الذي ولدنا فيه معرضا للانهيار. وبالفعل هدمت الأدوار العليا الأربعة وبقي الدور الأول الذي ولدت فيه.
وكان أبي قد توفي فيها، ورأيته أنا وزوج أختي الكبرى في لحظته الأخيرة، ورأيت الروح وهي تصعد وأبي يتألم إلى أن فتح فمه ثم توقف عن الحراك. وما زلت أتساءل: هل الروح في لحظتها الأخيرة تخرج من الفم؟ وكنت أسمع وأنا صغير دون أن أشاهد أن الروح تبدأ بأخمص القدمين وتنتهي تدريجيا إلى أعلى. وما إن خلت غرفة في الشقة حتى استدعيت خالتي للعيش فيها، وكانت سعيدة، بينها وبين أفراد الأسرة منافسة على الطعام. كانت تعتبر أولاد أختها أولادها، يأخذون منها العيدية في كل عيد. الوالدة ليس لها شهادة ميلاد؛ فلم يكن مطلوبا منها ذلك، ولكنها كانت تقول إنها أصغر من الوالد بحوالي عشر سنوات.
والوالد وهو من مواليد 1900م بسبب الخدمة العسكرية كان شاويشا بالجيش في فرقة البيادة (المشاة) للموسيقى العسكرية، لاعب ترومبون الأول، ثم رقي صول (شرف). وكان علي إسماعيل وهو قريب لنا من تلاميذه. وكان يرفض دعوات اللعب خارج الجيش احتراما لهيبته، وما كان يسود الأفراح من هزار وتدخين الممنوعات لا يليق. ورفض أن ينتقل إلى أي مكان آخر مثل السودان ليس فقط كي يترقى بل أساسا حفاظا على البقاء في القاهرة مع أسرته. كان يحب الجلوس على المقهى مع زملائه في الجيش ويشرب الشيشة حتى كبر أولاده، وظن أن ذلك عيب وهم على أبواب الجامعة. ولما قامت ثورة يوليو 1952م، أرادت إفساح المجال للشباب في الجيش، فأخرجته وحولته إلى وزارة الشئون الاجتماعية، كما انتقلت أنا إليها عندما أخرجنا الرئيس المغدور بقرار منه في سبتمبر 1981م خارج الجامعة مع الإعلاميين وعلى رأسهم هيكل وإبعاد البابا إلى دير في الصحراء؛ لأنهم كانوا يعارضون سياساته التي انقلب فيها على عبد الناصر، والتي بلغت قمتها في مقاومة مظاهرات يناير 1977م (انتفاضة الحرامية) بالقوة وزيارته إلى إسرائيل في نوفمبر من نفس العام، ثم اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979م والذي أدى إلى اغتياله في أكتوبر 1981م. ثم أحيل إلى المعاش كموظف في الدولة 1960م ثم توفي 1980م، ومعاشه ستة جنيهات.
وبعد أن توفت خالتي، وكان أبي قد اشترى قبل أن يتوفى مقبرة بالبساتين كان هو أول من دفن فيها. كان أبي باستمرار يمازح خالتي ويخطف منها طبق الطعام وهي تمنعه من ذلك عن طريق البصق فيه، وتضحك عليه بأنها هي التي كسبت المعركة. وكانت والدتي ترجوه أن يتركها في هدوء «سيبها يا أبو السيد.» كانت تحبني وتعتبرني ابنها الوحيد؛ فقد حضرت ولادتي عندما أتت من بني سويف إلى القاهرة، وكنت أنا أقرب إخوتي لها، كانت تؤثرني بالمصروف المدرسي اليومي قرشا أو قرشين عليهم. وكنت أدافع عنها باستمرار إذا مسها أحد بسوء، وتحزن وتقول لوالدتي: «ياللي بيعتيني بيتي.» وأنها خسرت كل شيء بسببها وأولادها، ولم أكن أدري هل هذا مزاح أم جد. لقد كانت تحن إلى بيتها الأخير في بني سويف، وحجة والدتي أنه دخل في التنظيم؛ أي سيهد عن قريب؛ لأنه بارز في الشارع عن صف البيوت الأخرى. وبيت عصمت المقابل الذي يحدث اختناقا مع بيت خالتي، لا يهد لأنه أكثر جدة، وعصمت ذو شأن في المدينة، ولأول مرة أرى الحاج وهو يضع كفيه في دماء الضحية ويطبعها على الحائط كي يعرف الجميع أنه حاج وينادونه بلقب «حاج» في «الحاج عصمت»؛ لأن عصمت بمفردها أو عصمت أفندي لا تعطيه حقه.
وأصبحت مقبرة البساتين مدفن العائلة؛ بها أبي وأخي وزوج أختي فاطمة وأمي وخالتي وحماتي وأحد الأقرباء لأمي وأخيرا زوجة أخي، والموت ليس به ازدحام كالحياة، وربما أكون أنا أو أختي الأصغر مني أول زائريها. ومع ذلك فكرت أخت زوجتي في شراء مقبرة لهما بطريق السويس، لم يدفن بها أحد حتى الآن، وربما أكون أول زائريها، والأمر متروك لزوجتي الحبيبة؛ إما أن أدفن في مقبرة العائلة حيث بها أمها أو في المقبرة الجديدة لآل مرعي. الأولى طرقها غير أسفلتية وكلها مطبات، وتتسرب إليها مياه عين الصيرة بين الحين والآخر. والثانية طرقها أسفلتية، نظيفة، أعدها الجيش. الأولى داخل القاهرة، والثانية خارج القاهرة.
وكانت شقة العائلة بالعباسية التي توفي بها أبي وأمي وخالتي مطمع أختي لتزوج بها ابنها الأكبر الذي يسير بعصوين، فلم يعترض أحد نظرا لحالته الصحية، فتزوج بها وأنجب، ورعت زوجته والدتي في سنواتها الأخيرة، فكانت الشقة استحقاقا لها بالرغم من تساؤل جميع البنات.
كانت الأخت الكبيرة «طيبة»، «بنت حلال» أنجبت أربع بنات وولدين، يعشون من معاش من أمي. وكانت من بعدها أيضا طيبة وفي حالها، تزوجت وأنجبت ولدين وثلاث بنات. والثالثة كانت تعشق الدنيا، ثم بعد ذلك تدينت وقرأت القرآن، ومسكت بالمصحف، ولبست البياض، وغطت رأسها، تعظ الناس، تزوجت وأنجبت، ولها ثلاثة ذكور وأنثى واحدة شبيهة بأمها مثل أحد الذكور. والصغرى جمعت بين الطيبة وسلامة النية، وزادت الهبالة فتزوج عليها زوجها المتدين امرأة متدينة نصابة طمعت فيه، وأخيرا عاد إلى الحب الأول. وأولاده أربع إناث تزوجن وأحببن إلا واحدة، أصابتها عقدة نفسية لشدة الرقابة عليها من أبيها المتدين. كلهن الآن جدات لهن أحفاد، أطال الله في عمرهن. تفوق الذكور والإناث جميعا بين أستاذة جامعية ومحاسب ومهندس. وكانت أمي تسميها «من تشاركني في حياتي» باعتبارها ابنتها البكر.
وكانت الوالدة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها في الحياة عالمة كبيرة، سواء في شئون المنزل أو مع الأقارب والجيران والأصدقاء. كانت تستيقظ في الفجر مثل الوالد وتبدأ في إعداد شئون المنزل من عجين وطبيخ وغسيل وتنظيف. كان من عادة الأسرة المصرية أن تعجن في المنزل؛ تشتري الدقيق وتعجنه وتخمره وترصه وتقدمه على طاولات من الفران الذي يأخذه وينقله إلى الفرن ويستخرجه طازجا بالعدد. وكانت تعرف كم كيلو دقيق يستخرج منه رغيف، الطري والملدن، وكان هذا يتم مرة في الأسبوع؛ فما دام هناك عيش في «المشنة» تكون الدنيا مستورة. وكنا نشتري الدقيق من السحار على باب درب الشرفا وشارع البنهاوي، وهو يسجل التاريخ، ومرة واحدة أخطأ في عدد المرات في الشهر، ولكن الوالدة هي التي صححته بذاكرتها؛ فليس مقياس الصواب والخطأ المكتوب في دفتر البقال بل المسجل في ذاكرتها. كانت تعد ثلاث وجبات يوميا لتسعة أفراد؛ الوالد والوالدة، وأخي سيد وأنا ، وخمس بنات: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية. وكلنا نأكل الصنف من طبق واحد. ولم تكن هناك عادة أطباق الغرف المشتركة ولكل فرد طبق يأكل منه بعد أن يغرف ما يريد. وكانت المشكلة ما بعد الطعام، تتكاسل أخواتي البنات عن تنظيف الأطباق، والرجال؛ الوالد وأخي وأنا، ليس المطلوب منهم شيئا، فيقع العمل كله على الوالدة، فتعبت. ومرة سمعتها تصرخ عاتبة على أولادها البنات: «أصل انا العبدة اللي اشتراها لكم أبوكم»، فأحسست بالظلم الاجتماعي الذي يقع على المرأة. أما الرجل فلم يكن مطلوبا أن يفعل شيئا، عكس ما رأيت في أمريكا فيما بعد، عندما دعانا أستاذ الفلسفة إلى العشاء، زوجتي وأنا. ولما انتهينا قام هو ولبس مريلة المطبخ وظل يغسل الأطباق وزوجته تسامرنا!
وكان الوالد يغار عليها من أي رجل يأتي لزيارتنا؛ فقد كان يراها أجمل امرأة في العالم. كان يغار خاصة من عم إسماعيل (والد علي) الذي كان يأتي لزيارتنا لرؤية بنت خالته متأنقا، على شعره الناعم كريم يجعله يلمع ليجذب النساء إليه، في حين كان والدي بسيطا في لبسه بالجلباب ولا يضع فوق شعره أية مساحيق. وكان عم إسماعيل متكلما مبتسما في حين كان الوالد أقصر في الكلام، ولا يبتسم أو يضحك إلا عند الضرورة. والوالدة تريد أن تظهر قدرتها على الكلام، فتتبارى مع عم إسماعيل، ووالدي لا يستطيع أن يجاريها، فأحس بالغيرة، فقام وانتفض وصرخ في وجه أمي لأن الضيف ضيف وعم إسماعيل يهدئ فيه حتى تهبط نار الغيرة منه. وكانت عائلة عم إسماعيل كلها تحب النساء؛ علي، ورجب، وجمال. وهذا طبيعي. أما بالنسبة للوالد فهذا غير طبيعي؛ فالنساء كلهن في الوالدة. مع أن زوجة عم إسماعيل كانت بيضاء، وضاحكة بالرغم من قصرها وبدانتها. وكانت ابنتها خديجة، هيفاء، بيضاء، في غاية الجمال، أحببتها عن بعد، وحضرت يوم زفافها على ابن عمها الذي أخذها في الحجرة المجاورة وهي تصرخ، وقام بالواجب، وفي الخارج يطبلون ويزمرون. وعندما خرجت رأيت الألم على وجهها، وحزنت لها وعليها، على هذا الحبيب الذي انتهكت كرامته ، وعلى وجه الرجل علامات بؤس وشقاء لأنه لم يجد أي لذة أو سرور في ذلك.
أما الأخ فهو سيد الذي كان أستاذا للأدب العربي في جامعة القاهرة، وتلميذا لشوقي ضيف، تلميذ طه حسين، ثم وكيلا للكلية، ثم عميدا لآداب بني سويف، ورئيسا لقسم اللغة العربية، وبها كان إداريا ماهرا، يغلب مصلحة الطلاب على قوانين الإدارة. أما الأخت الكبرى فكانت مدرسة، بدأت التعيين في دشنا بمحافظة قنا، وكانت هذه أول مرة تبتعد فيها عن أفراد الأسرة، وكان والدي يذهب لزيارتها بين الحين والآخر بزيه العسكري، وله صور في آثار الأقصر. وبالرغم من قصر أختي الكبرى وسمنتها فقد جاءها خطيب من هناك، أحول العينين، طويل وأسمر، أكبر منها سنا، يسمونه «علي أفندي»، يعوج الطربوش بزره الأسود المتدلي، معجبا بنفسه كما هو الحال في الأفلام المصرية، وكانت الوالدة تقابله بالترحاب، وهو لا يتوانى في خدمة الأسرة ليبين مهارته الاجتماعية، يعرف فلانا وعلانا من علية القوم؛ فكان على صلة بالدولة وإدارتها حتى إنه جهز إجراءات دفن أخي الأصغر علي الذي مات وهو رضيع بنزلة معوية، وحملته جارتنا في البدروم على يديها وهي تتصنع البكاء، وذهبت معهما مصاحبة إلى المدافن لا أدري أيها، ولو عاش لكان لي أخان. وتقدم لخطبة أختي الكبرى، لا أدري رسميا أو غير رسمي، ورفضت أمي. كيف تفارق ابنتها الكبرى إلى الأبد وتعيش في الصعيد؟ وكانت الجارة التي لم تكن على وفاق دائم مع أمي ، وكانت جميلة بيضاء، كلما تعاركت مع أمي بالكلام، كما هو الحال في العادات الشعبية، تقول لها: «يا بتوع علي أفندي.» وتقول لها أمي بعد أن أحست بالإهانة: «اخرسي، قطع لسانك من لغلوغه.» وكان زوجها طيلة النهار خارج المنزل، ولا يخرج إلا في الصباح الباكر. وفي يوم خرج والدي لشراء خبز فتقابل معه ويبدو أنهما تشاجرا بالكلام، وأحست والدتي بتأخر والدي، فخافت أن يكون قد اصطدم بخروج جارتها، وعاد والدي مكفهر الوجه، وسألته الوالدة: هل تقابلت معه؟ فقال لها: نعم، وتشاجرنا. فخرج الموضوع من أيدي النساء، ووقع في أيدي الرجال، ولكن بسلام. وفي يوم من الأيام وجدت الشرطة على باب المنزل ثم على باب الشقة المجاورة لي ويأخذ جارتنا مكبلة بالحديد. وكانت التهمة أنها خلعت بلاط الحمام، وعملت هوة تسمح بنزولها إلى مخزن البقالة وسرقة صفائح الجبن والزيت وأشولة الأرز، ففرحت. وكنا نعايرها بعد أن رجعت إلى المنزل، بأنها «حرامية»، وهي تعايرنا بأننا «بتوع علي أفندي».
Bilinmeyen sayfa