وأما العرب، فهم من ولد سام بن نوح، وهم الأمة الرحالة، الخيام، لسكناهم والخيل لركوبهم. والأنعام، لكسبهم. يقومون عليها، ويقتاتون بألبانها، ويتخذون اللباس والأثاث، من أوبارها وأشعارها. ويحملون أثقالهم على ظهورها، ويبتغون الرزق - في غالب أحوالهم - من الصيد، وقطع الطرق، والغارات على من جاورهم من الأمم. ومساكنهم، ما بين المحيط، من المغرب، إلى أقصى اليمن والهند، من المشرق. وما بين ذلك. كمصر، وصحارى برقة، وإفريقية، والزاب، والمغرب الأقصى، والسوس. فما انتقلوا، إلا في المائة الخامسة وكانت لهم دولة عظيمة، وآثارا كريمة. وصل ملكهم إلىطنجة، من المغرب. وإلى سمرقد، من المشرق، في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية، أصنافا: صنف اعترف بالخالق، وأنكر البعث. وصنف عبدوا الأصنام. وصنف عبدوا الملائكة. وكان منهم من يميل إلى اليهودية ومنهم من يميل إلى النصرانية ومنهم من يميل إلى الصابئة وكانت بقيت عندهم، بقايا من دين إسماعيل ابن إبراهيم الخليل. فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الأخوات، ولا يجمعون بين الأختين. وكانوا يحجون البيت، ويغتسلون من الجنابة، ويداومون على المضمضة، والاستنشاق، والسواك، والاستنجاء، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان. ويقطعون يد السارق، ويعطون دية المقتول، مائة من الإبل. ويطلقون، وتعتد المرأة، التي مات زوجها، سنة. وكانت علومهم علم الأنساب، والنجوم، وتعبير الرؤيا ونظم الأشعار، والخطب. وليس يصل إلى أحد، من أهل المشرق والمغرب، خبر إلا بالعرب. وذلك، أن من سكنوا مكة، أحاطوا بأخبار أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. ومن سكن الحيرة، علم أخبار فارس ومن سكن الشام، عرف أخبار الروم واليونان وبني إسرائيل. ومن سكن البحرين، علم أخبار الهند والسند. وكانوا يفتخرون بالبيان في الكلام. والفصاحة في المنطق، والوفاء بالعهد، وإكرام الضيوف، وعلو الهمة. روي عن شبيب بن شبة، قال: كنا في مجلس عظيم، فورد علينا ابن المقفع - وكان من أشراف الفرس وحكمائهم - فقال لنا: من أعقل الأمم؟! فنظر بعضنا إلى بعض، وقلنا: لعله يميل إلى أصله. فقلنا: الفرس. قال: ليس هناك. ملكوا كثيرا من الأرض، وحووا عظيما من الملك، فما استنبطوا بعقولهم شيئا. فقلنا: الروم. فقال: أصحاب صنعة. فقلنا الصين. فقال: أصحاب طرفة. فقلنا: الهند. فقال أصحاب فلسفة. فقلنا: السودان. فقال: أشر خلق الله. فقلنا: الخزر. فقال: نعم سائمة. فقلنا: فمن؟! قال: العرب!! فضحكنا!!فقال: ما أردت موافقتكم. ولكن، إذا فاتني حظي من النسب، فلا يفوتني حظي من المعرفة، إن العرب، حكت على غير مثال. يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله، فيكون قدوة. ويفعله، فيصير حجة. ويحسن ما شاء، فيحسن. ويقبح ما شاء، فيقبح، رفعتهم عقولهم. وأعزتهم هممهم حتى نالوا أكرم الفخر، وبلغوا أشرف الذكر. فلما شرفهم الله، بالرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذه الأخلاق الجميلة، والفضائل الجليلة، تنافسونا في زيادة الفضائل، وتسابقوا إلى نيل العلوم والمعارف. فاكتسبوا منها ما لم يكتسبه الأوائل. واثروا الآثار العظيمة، في أقرب مدة، من بناء المدائن، وعمل القناطر وفتح الخلجان. فقد أجرى موسى بن نصير، البحر، اثني عشر ميلا، إلى دار الصناعة بتونس وصنع مائة مرآب. وغزا صقلية، وأخذها ووصل عمرو بن العاص، بين النيل وبحر القلزم، في مدة سنة. وجرت فيه السفن، من خلافة عمر بن الخطاب، إلى ما بعد خلافة عمر بن عبد العزيز. احتفره، من الخليج، الذي في ناحية الفسطاط. وقال له: خليج أمير المؤمنين. وساقه إلى القلزم. ثم ضيعه الولاة وترك، وغلب عليه الرمل، ونقطع، وصار منتهاه، إلى ذنب التمساح.
وتيسر لهم من التصنيف، في أنواع العلوم، ما لم يتيسر لأحد قبلهم. حتى إن منهم، من بلغت تصانيفه، في أنواع العلوم: ثلاثة آلاف مصنف، وزيادة، يحكى أن خزانة الكتب، بمصر، في دولة العبيديين، بلغت ألفي ألف مصنف، وستمائة ألف مصنف. وفي بعض التصانيف، مائة مجلد، إلى ثلاثمائة مجلد، كتفسير الرازي، وغيره. وبلغ ملكهم، حيث لم يبلغ ملك أمة قبلهم، من آدم إلى الآن. ثم بدا فيهم النقص. وغير الله بهم، حيث غيروا ما بأنفسهم، شأن الأمم... وكل شيء بلغ الحد، انتهى.
إذا ما تم شيء بدا نقصه ... فحاذر زوالا إذا قيل: تم
وأما العبرانيون، وهم بنو إسرائيل، عنصر الأنبياء، فكانت عنايتهم بعلوم الشرائع، وسير الأنبياء. فكان علماؤهم، أعلم الناس، بأخبار الأنبياء، وبدء الخليقة. لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة.
وأما أهل مصر، فهم أخلاط من الأمم. إلا أن أكثرهم، قبط، وإنما اختلطوا، لكثرة من تداول ملك مصر، من الأمم، كالعمالقة واليونان والروم. فانتسبوا إلى موضعهم. فكانوا في القديم، صابئة. ثم تنصروا، إلى وقت الإسلام. وكان لقدمائهم، عناية بأنواع العلوم. ومنهم هرمس. كان قبل الطوفان. وكان بعده علماء بضروب الفلسفة، وعلم الطلسمات، والمرايا المحرقة، والكيمياء. وكانت دار العلم بها، مدينة منف فلما بنى الإسكندر مدينة الإسكندرية، رغب الناس في عمارتها. فكانت دار العلم والحكمة، إلى الفتح الإسلامي.
والسبب الظاهر. بحسب العادة، التي أجراها الله تعالى، وبما دل عليه الاستقراء، في اختلاف الناس، في عقولهم، وأخلاقهم، ومعارفهم أحوال الشمس في الحركة. فإن الناس، على ثلاثة أقسام معتبرة، وفي كل قسم، أقسام متقاربة.
أحدها: الذين يسكنون تحت خط الاستواء إلى ما يقرب من المواضع، التي يحاذيها ممر رأس السرطان. وهؤلاء. أضعف الناس عقلا، وأوحشهم أخلاقا، وأبعدهم عن المعارف العقلية، والكمالات الإنسانية. وأما الذين مساكنهم، أقرب إلى محاذاة ممر رأس السرطان، فعقولهم أكمل، من الذين قبلهم. وطبائعهم، معتدلة. وأخلاقهم مؤنسة، كالهند واليمن وبلاد العرب كلها، وبعض المغاربة.
Sayfa 33